نحاول التخفيف من الأسى ولكنا لا ننجو من الواقعية، واللحظة الراهنة في تونس لحظة منذرة بانهيار سياسي كبير يتبعه انهيار اقتصادي أكبر، فكل طرقات التسوية مغلقة والانسداد يقطع كل بصيص، ونخيب في توقع مخرج من اللحظة. نقف الآن على أن التطورات السياسية التي حصلت في تونس منذ الثورة لم تغير المشهد السياسي في العمق وإنما غطت على عاهاته الأصيلة بديمقراطية شكلية لم تنفذ إلى عمق المشكلات لتمهد لحلها ثم تجاوزها.
ما علقناه على نتائج انتخابات 2019 من آمال بالخروج والتجاوز تحَلَّلَ قبل أن يحول عليه الحول، فإذا نحن في وضع مشابه بل مطابق في بعض وجوهه لأجواء حكومة الترويكا -2012-2014.
الاستقطاب على أشده بين مكونات المشهد القديم المفككة في الظاهر المتلاحمة في الهدف وبين حزب حركة النهضة، وقد كتبنا وسنظل نحلل دومًا بهذا المعطى الموضوعي، البلد رهينة هذا الصراع لن يخرج من أزماته إلا بإنهائه ولا أفق لنهايته بل نرى ارتكاسة عميقة مؤذنة بنهايات وبيلة.
الحكومة فقدت مصداقيتها
فجرت مكونات الحكومة التي تشكلت بشق الأنفس الحكومة، كنا نعرف أن تركيبتها هشة وأنها غير متجانسة ولكن أحسنا الظن على أمل أن تتآلف وتغمد الأحزاب سيوفها، فإذا هي تفضح بعضها بعضًا، والمؤلم أن كل مكون منها يمكنه مسك ملفات عن البقية، حتى صار بقاؤها مرهونًا بإخفاء الملفات لا بإظهارها في سياق مقاومة الفساد وهو الشعار الذي رفعته وشرّعت به وجودها في وثيقة تعاقدية ممضاة أمام الشعب.
حرب الملفات داخل الحكومة كشفت نخبة سياسية منقطعة عن هموم الناس ومنكبة فقط على مواقع في السلطة حيث الغنيمة، وهذه الحرب هي التي كشفت شبهة تضارب المصالح لدى رئيس الحكومة.
في حرب الملفات تكتلت أحزاب لمنع الفضيحة واحتمت بشكلانية القوانين، لكن جوهر تكتلها كشف لنا ما كنا ظنناه تلاشى بدخولها الحكومة، حزب التيار وحركة الشعب مع رئيس الحكومة فاسدًا كان أو صالحًا دون غضاضة في العمل مع حزب تحيا تونس الذي فجر الملفات ليخرب الحكومة، في مقابل حزب النهضة الذي يتخذ الفضيحة وسيلة لتعديل الحكومة وتحقيق مكاسب خارجها، بما جعل كل مكونات الحكومة متورطة في إسقاط مشروع مقاومة الفساد الذي قامت عليه، فكأنها تكسر قاعدتها الأخلاقية لتستمر واقفة بلا قاعدة، لقد أكلت الأحزاب حكومتها كرب صغير من حلوى قبل اكتمال الحول.
الفاشية تعود ظافرة
ليست لها قوة كافية في المجلس، لكن أسلوبها لم يحتج القوة الفعلية، لقد احتاج آلة دعاية متحمسة واكتشفنا بعد حسن ظن بالإعلام أن إعلام بن علي لا يزال في مكانه وعلى نفس المشروع. حرب على النهضة بلا هوادة في الظاهر ولكن حرب على الثورة ومنجزها القليل في الباطن، لكن ليست هذه القوة الوحيدة للفاشية العائدة بل إن مكونات المشهد التي زعمت الانتماء إلى الثورة تنسق مع الفاشية في نفس الأفق السياسي محاربة النهضة حربًا استئصالية لا سياسية.
كنا قد كتبنا في السابق عن المستثمرين في الفاشية وكنا نراهم يقفون على الربوة حتى تثخن في العدو المشترك، لكن في هذه الظرفية نزلت الأحزاب الثورية من ربوتها وتنسق عملها مع الفاشية في البرلمان والإعلام وفي ملفات الفساد، بشعور غامر بالقوة قصد الإجهاز السريع.
لا نستغرب أن نكتشف قريبًا الرابط من علو صوت الفاشية وتخريب الحكومة من داخلها (فحزب تحيا هو شقيق غير معلن لحزب الفاشية وكلاهما سليل حزب النداء/الباجي الذي هو رسكلة لحزب التجمع المخلوع) وذلك في أفق دفع إلى حالة عدم استقرار لا تؤدي إلى انتخابات أخرى.
نحن في نقطة تجمع فيها ثوار مزعومون مع حزب فاشي لكسر مسار الاستقرار وجر البلد إلى فوضى أو الاستحواذ على الحكومة ومفاصل النظام بإخضاع حزب النهضة ووضعه في مكان دابة الجر التي تشرع وجود الحكومة بكتلتها البرلمانية دون المشاركة فيها، مع تحميلها كل سقطات الحكم، فآلة الدعاية مدربة على ذلك.
النهضة هاربة من وضع الترويكا
لا يمكن لحزب النهضة أن ينقذ الوضع في هذه اللحظة ولو طلب منه ذلك، فهو يعاني عوائق ذاتية وأخرى موضوعية تكبل إرادته وتقلل فعاليته، أما عوائقه الذاتية فأهمها انشغاله بمعركة خلافة الغنوشي التي تقسم الحزب إلى أحزاب داخل الحزب ومنها أن الحزب لم ينتج أفكارًا للحكم تجلب له أنصارًا من خارجه وخاصة من الفئات الوسطى والعليا، وحتى عمله الاجتماعي مع الفقراء (على عادة التنظيمات الإسلامية) فهي تقابل بعقوق ونكران.
أما موضوعيًا فالحزب لم يقبل بعد كشريك حكم من كل الأطراف السياسية رغم كل مناورات الاندماج التي قام بها وهو باق على قيد الحياة السياسية لأن خصومه أضعف مما كانوا زمن بن علي، أي أنه باق بضعفهم لا بقوته وكلما استقووا ببعضهم كما يجري الآن، تراجع تأثيره.
على سبيل التدليل يلتقط الملاحظ بسهولة أن الاحتجاجات الاجتماعية التي تنظمها النقابة تصاعدت حصرًا في الوزارات التي يديرها وزراء النهضة (الصحة والنقل والتعليم العالي والطاقة)، وهذه الاحتجاجات يفسرها الحزب سياسيًا، فينتهي إلى اختيار البقاء داخل السلطة ليحتمي بها، فموقعه في المعارضة يعرضه إلى المزيد من الهرسلة.
التوصيف الموضوعي للحظة هو التالي: هرسلة الحزب من خارج الحكومة بواسطة الفاشية العائدة وابتزازه داخل الحكم من الشركاء لمزيد من التنازلات (تقاسم أداور منهجي)، وتهديده في صورة التفكير في عدم إسناد الحكومة من داخلها ومن خارجها. في مثل هذا الوضع نلاحظ أن الحزب ينحني لينجو ويبرر بالمصلحة الوطنية فيخسر، أي خساراته أكبر؟ البقاء في حكومة كدابة جر أو الخروج إلى المعارضة وتحمل كلفتها؟ في كلتا الوضعيتين الحزب عاجز عن التأثير للخروج من الأزمة.
لا داعي لاصطناع آمال مزيفة
لم نعد نأمل خيرًا من الرئيس، فقد دخل طرفًا في النزاع وخسر موقع الحكم، وقد تجلى اختياره عن رئيس حكومة مشبوه فقد رصيده الأخلاقي بسرعة، لا نأمل في الذهاب إلى انتخابات تقلب هذا المشهد البائس لأن الجميع خائف من الانتخابات فضلًا على أن القانون الانتخابي الذي لم يعدل بعد سيعيد إنتاج نفس المشهد، وكل تأخير في التغيير تقطف الفاشية ثمرته بخطاب اجتماعي يعرف الجميع زيفه ولكن لا يرد عليه بإنجاز حقيقي (الجميع هنا يستذكر الخطاب الاجتماعي للحزب النازي عقب أزمة الثلاثينيات في ألمانيا).
هل ستحل لحظة عقلانية بين شركاء الحكم ليكفوا عن التناحر؟ لا نراهم يفعلون لأنهم غير واعين بخطورة اللحظة وقراءتهم لواقع البلد الاقتصادي والاجتماعي قاصرة ومحدودة، فأهدافهم ليست أهداف الناس التي انتخبت وانتظرت بل هي تموقع ضمن ميدان حرب لا يرون فيه إلا أعداءهم.
إلى أين يحملون البلد؟ الجواب الواقعي الذي يستحي من اصطناع الآمال الكاذبة، أنهم يتجهون مباشرة إلى كارثة سياسية سيخرج منها فائز وحيد هو الفاشية، هكذا كانت سنة 1990 وما تلاها وإلى هناك نتجه محزونين على شهداء قدمهم البلد من أجل حريته وازدهاره.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: