لحظة تأمل في ضجيج الصراخ الديمقراطي المزيف. منذ نشأة الدولة الوطنية/ القُطرية في بلاد العرب لم يكن أكثر من النخب العربية حديثا عن بناء الديمقراطية، لكن لمّا حل أوان الديمقراطية وجدنا النخب العربية تولّي الأدبار هربا منها، وتختار الاستكانة إلى الدكتاتورية خوفا، ربما وطمعا بلا شك في فضلات كانت متاحة بغير الديمقراطية.
كنا كتبنا بأن الثورة الشعبية بدورها فاجأت النخب التي طالما تحدث عن الثورة وضرورة التغيير السياسي، والتقدم نحو بناء الدولة والديمقراطية بوسائل الديمقراطية نفسها، فجات الثورات من خارج تنظيراتها ونضالاتها. وكنا نلاحظ استيلاء النخب على الثورات وتجييرها لغير ما ثارت عليه الشعوب ولغير ما ثارت من أجله، ولكن الأمر بدا يتغير بعد عشر سنوات من بداية الثورة العربية الكبرى للقرن الواحد والعشرين (الربيع العربي).
نعود لنتأمل هذا النكوص النخبوي، ونحاول مقاربته لعل أن نفهم لماذا منعتنا النخب من التقدم على طريق الديمقراطية، وبذرت فيه الأشواك وبنت العراقيل.
نخب لم تبدع صورها للعالم
نقع في إشكال منهجي، إذ تظهر لنا النخب كثيرة، ولكل مرجعه في تصور العالم كما رآه وكما يريد أن يراه. ولكن الحقيقة أن المراجع اثنان لا أكثر؛ المرجع الحداثي المستورد والمرجع التراثي المستعاد، وكلاهما غريب عن لحظتنا الواقعية. فلا نحن نسخة مطابقة للمجتمع الذي أنتج الحداثة كما نراها حيث نشأت وترعرعت وتجاوزت نفسها إلى آخر مراحلها (ما بعد الحداثة)، ولا نحن نسخة من مجتمع عربي إسلامي كان ذات يوم وتفكك بعوامل متعددة انتهت به إلى العجز عن الاستمرار.
هنا نشأت تيارات النخب وهنا تخاصمت، وجيّر الغالب منها الدولة والقوة لمصلحته، فلم تحدث حداثة ولا وصل تراث، وإنما نتج ملك عضوض؛ اتخذ غريمه الفكري فيه ضحية وتمتع بتعذيبه، وأنتج في الأثناء أكثر أنواع الآلات الدعائية رداءة وانحطاطا.
كانت هناك إلى جانب نخب التحديث بالقوة؛ نخب حداثية عاشت طويلا على هامش الدولة، تأكل من ريعها وتنافح عنها في الأزمات، وتتكفل بمهمة معارضتها على القياس، ولكل مقابل يرضي المعطي ويسعد المتقبل فيتم مهمته. وكانت أكبر المهمات تبرير القمع وتدبير جمل فلسفية لتشريعه، خاصة أن هناك نقطة لقاء مهمة بين نخب حاكمة ونخب تتظاهر بالمعارضة؛ هي أن كليهما يمقت النخب الأخرى المنعوتة بكل النعوت الرجعية والمتخلفة.. الخ.
مع كل لحظة قمع كانت نخب التيار المقابل تغرق في التطرف والحزن، فتنتج أسوأ ردود الفعل المعادية لكل تحديث. وعبر العقود الطويلة للدول الوطنية كانت الشقة تتسع بين التيارين وتتراكم مبررات القطيعة، ولا يتجه أي منهما إلى سؤال وجودي: هل نحن فعلا أعداء؟
غني عن القول هنا أن الأنظمة الحاكمة ونخبها التي تبرر لها كانت تنفخ في نار كل قطيعة فتحرق الأخضر واليابس، وتحول ساحات الفكر والفن والسياسة إلى صحراء بلقع. غني عن القول أن كل قوة خارجية كانت تجد منفعة في بقاء المنطقة ومفكريها ونخبها وصناع الرأي فيها في حالة عداوة وتطاحن، لما في ذلك من تأجيل السؤال المركزي عن الاحتلال وآثاره وضرورة جبره بقوة القانون أو الحرب الاقتصاد.
لذلك، كانت هذه النخب في معاركها البينية تكتب عن الديمقراطية ولا تتخيلها في الواقع، تمجد الحرية وتبرر السجون، تعارض السلطة وتأكل على مائدتها وتمسح على بطونها.. قطيعة مطلقة بين كل مكوناتها والواقع المعيش لشعوبها، حتى فاجأتها هذه الشعوب بثورة مختلفة عن كل خيال الثورة، فارتدت تحيي معاركها الأبدية وتعيق الديمقراطية أن تتقدم في صحراء الفكر لإنتاج البدائل التي تخولها لها ثقافتها واطّلاعها، لأن الشعوب الكادحة لم تحظ بما حظيت به من تعليم.
الثورة التونسية الدرس الأول
هي درس أول، لا لأنها كانت قادح الثورات بل لأنها تعرض صور هذا الخلاف بين النخب، وتقدم صورة تامة (مثالية للتحليل) للصراعات البينية التي تعيق تحول الثورة إلى دولة جديدة تنقض القديمة وتحل محلها، فتبني صورة جديدة للعالم.
عشر سنوات تمر على الثورة التونسية، ونخب تونس تختصم في الأساسيات المطلوبة شعبيا، في نقاش يشبه إعادة اكتشاف العجلة أو في محاولة لحل الإشكال السفسطائي القديم عن أسبقية البيضة عن الدجاجة.
وكان كل مثير للصراع القديم يعيد هذه النخب إلى نقطة الانطلاق، لذلك وجدناها تختصم حول الولاء لحفتر أو الحرب معه. وإنه لمثير لكل أنواع الألم أن وجدنا نخبا جامعية تونسية تنافح عن خيار حفتر السياسي وعن أسلوبه في الحرب وعن بدائله لبلد مثل ليبيا؛ سبق أن خربته نخبة وصل بها السخف والرداءة أن رأت في حاكم ليبيا ملك ملوك أفريقيا والعالم، وآمنت بأنه صانع سياسات وأفكار، وصنفته في المصلحين الزعماء الخلاقين وصنفت في ذلك التصانيف.
وقد وجدناها قبل حفتر تبارك التضحية بالديمقراطية في مصر وتزغرد للمذابح، بل تذبح الذبائح فرحا ونشوة لرؤية خصم سياسي محروق بالنار. لم يكن حفتر ومن قبله السيسي إلا وسائل انتقام من خصم سياسي محلي يزعم أنه مختلف عنهم.
إنه المنطق الغرائزي الذي دقق وصفه الأنثروبولوجي الإنجليزي كليفورد غيرتز وهو يقرأ أنظمة الولاء في قبائل النور السودانية (شبه البدائية في حينه)، بتحوير طفيف على قاعدة الدم والقبيلة، بل على أساس القبيلة الفكرية المصطنعة على جثة القبيلة القديمة، علما أنه في ردهات كثيرة من الصراع كانت القبيلة القديمة تخرج لتعاضد القبيلة الفكرية، حيث نجد قبائل يسارية يجمعها الدم والفكرة تبنت فكرة على أساس ولاء قرابي، بل أقامت نقابات قبلية وعارضت بها الثورة والدولة التي توشك أن تفلت من أيديها لخصمها السياسي.
رغم ذلك لا يمكن للدرس التونسي إلا أن يتم مهمته، فقد وصلت حرب النخب إلى نهايتها، ونوشك أن ندخل مرحلة الصراع الفكري الحقيقي. ونلتقط على ذلك مؤشرات كثيرة، فلقد تحررت الألسن والأقلام، وصار لكل فئة أقلامها، وصار الكفاح اليومي بالحجة والموقف أكثر بروزا وتأثيرا من صراع التنافي. ونرى حالة لهاث المختصين في الحروب البينية يفقدون سلطتهم على الأفكار والنخب الجديدة التي تتعلم الأبجديات الديمقراطية من داخل المعركة نفسها، فتسقط كل ما يحاول إعادتها إلى مربعات النقاش القديم الذي يضع الحداثة كل الحداثة في مواجهة التراث كل التراث.
بصعوبة كبيرة وشقاء بالغ تقوم الثورة بتربية نخبها، وكان يجب انتظارها حتى تفعل، وها هي تفعل. ويوم الرابع عشر من حزيران/ يونيو كانت هناك علامة فارقة.. لقد اختفى من الساحة مغتنمو الصراعات البينية، ولم يبق إلا ثمالة في آخر الكأس الاستئصالية لم تفلح في تجميع مثقف واحد ينزل معها الشارع. أين اختفى الاستئصاليون المحترفون إذن؟
لقد اكتشفوا عجزهم عن توليف الشوارع على نفس القاعدة الفكرية الاستئصالية، فقد تحررت عقول كثيرة من تأثيرهم، وهم ينحسرون كريح فاسدة إلى زوايا ومواقع يحفظون بها قدراتهم على إنتاج الحنين الأليم إلى مجد لم يصنعوه وإنما غنموه من مغامرين بلا أخلاق، من أمثال ابن علي ورجالات نظامه الذين كانت لهم جرأة الاستيلاء على السلطة وغنائهما، واستعمال مثقفي الاستئصال في تبرير ما يفعلون ويوزعون عليهم العطايا مقابل جملهم الفلسفية عن الحداثة.
كان يجب الصبر ودفع الثمن عبر الاستثمار في الحرية، وقد بدأ هذا الاستثمار يؤتي نتائجه، وسيعاد بناء صورة للعالم من هنا تكون الديمقراطية والحرية إطارا متينا لها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: