يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يمثل محمد عمارة، الكاتب والمفكر المصري، نموذجًا فريدًا من نوعه في الساحة العربية والإسلامية الأوسع. لا يعود ذلك لغزارة كتاباته وتنوع عناوينه، التي غطت ساحات وتخصصات متعددة فحسب، بل للمسار الفكري الذي اختطه لنفسه ومنحه ملمحًا خاصًا وبصمة مميزة في المشهد الإسلامي.
بدأ محمد عمارة حياته الفكرية يساري التوجه قومي الهوى. لكنّ المثقف المتشبّع بالتراث الإسلامي والتقاليد الأزهرية العريقة، لم يفقد توازنه حتى في الحقبة اليسارية. فاليسار لم يعن له غير مناهضة الاستعمار والهيمنة الإمبريالية على مصير الأمة العربية ومقدراتها، والدفاع عن العدالة الاجتماعية ومصالح المهمّشين والمفقّرين.
أتاحت له صدمة السجن زمن عبد الناصر تأمّل مساره وتصويب بوصلته الفكرية، فدنا من التوجهات الإسلامية، دون تقيد أيديولوجي أو انتماء حصري واضح.
كتب عمارة في قضايا شتى، وأغنى المكتبة العربية بما يربو عن سبعين عنوانًا. كتب عن المعتزلة والأشاعرة، وعن الغزالي وابن رشد، وعن ابن تيمية والشوكاني، وخير الدين التونسي وعلي عبد الرزاق، وعن الإصلاح الديني في المشرق والمغرب.
ساجل تيارات التشدد من العلمانيين والإسلاميين ودافع عن قيم الحرية والعدالة ووقف إلى جانب ثورات الشعوب ورفض الانقلابات وحكم العسكر. ظل صامدا على مواقفه ولم يبدّل تبديلا، حتى حين دوّى الرصاص وخيّم الخوف على مصر وفتحت السجون على مصراعيها وانتصبت المشانق مجدّدا.
تحرّك عمارة على خطين مترابطين جعلا منه ظاهرة فريدة في الساحة العربية والإسلامية:
1- أعاد عمارة وصل الحركة الإصلاحية بالتيار الإسلامي، بفضل جمعه وتحقيقه ادبيات الاصلاحيين، من الأفغاني وعبده، إلى رشيد رضا والكواكبي وشكيب ارسلان وسعد زغلول وعبد العزيز الثعالبي.. بينما اتجهت الحالة الإسلامية، تحت تاثير مشيخات النفط، نحو الفكر السلفي، بقي محمد عمارة ثابتا على الخط الاصلاحي المستنير. بفكره وقلمه وجهاده السياسي، كان تلميذًا وفيًا أصيلًا لآباء الاصلاح الاسلامي وروّاده.
2- اتجه الإسلاميون إلى مناهضة القومية العربية، جرّاء الصدام المرير مع عبد الناصر، ووصل بهم الأمر حدّ اعتبار الرابطة العربية ضربًا من ضروب الجاهلية والخروج على الإسلام، كما فعل سيد قطب. تصدّى عمارة لهذه الموجة، مبيّنا عمق الصلة بين العروبة والإسلام، مؤكّدا أن العرب رافعة أساسية لنهوض الإسلام والمسلمين، ومدافعا عن فكرة الوحدة العربية في واقع التجزئة والوهن الذي يتخبط في أتونه العرب.
بقي عمارة في هذا أيضا وفيًا للحركة الإصلاحية، التي أكدت على أهمية الرابطة العربية، وسعت لتخليص مشروع الرابطة العربية من مخلّفات النزاع العربي التركي، الذي ظهر أواخر الدولة العثمانية وكانت نتائجه وخيمة على العرب والترك على السواء.
القومية العربية عند عمارة ببساطة مشروع سياسي لوحدة العرب ونهوضهم، في إطار التكامل مع الجوار الإسلامي، وليست انتماءً عقائديا ايديولوجيا، كما هي عند القوميين العرب.
بحكم خلفيته الأزهرية وتكوينه الإسلامي العميق، وقف عمارة جريئا ثابتا في وجه موجة التشدد الإسلامي التي ارتفعت في مصر ، مع بروز تيارات التطرف، كالتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية، منتصرا لمعاني الوسطية والاعتدال في فهم النصوص والواقع.
قاوم عمارة مشايخ الوهابية المدعومة سعوديًا، بفكره وقلمه ولسانه، مؤصّلا للتعدد المذهبي والتسامح الديني، ولقيم الفن والجمال في الإسلام. أصّل فكرة الحرية والديمقراطية، ورفض الحكم الفردي والشمولي.
وعلى الضفة المقابلة، ساجل رموز العدمية الحداثية، الذين سعوا جاهدين لتقويض كل ثوابت الدين والنصوص، ومناهضة كل ما له صلة بالإسلام والتراث الأزهري، وجادلهم بلا كلل او ملل.
ولعل هذا ما يفسر حساسية، بل عداء هؤلاء له ولاطروحاته.
وقف خارج الحدود الأيديولوجية والتنظيمية، لكنه كان صاحب صولات وجولات في المحطات الحاسمة.
ناصر ثورة 25 يناير دون تردد، عنوانًا لتحرر مصر والأمة العربية، وساهم في وضع الدستور الجديد. وحين داست الدبابات على الصناديق وسالت الدماء في الشوارع انهارا، رفع صوته ضد الانقلاب وحكم العسكر. ظل معتصما بقلمه وصلابة فكره وحجته الدامغة، منافحا عن قيم الحرية والديمقراطية والعدالة.
لكن عمارة، على جلال قدره وعمق تفكيره وثرائه لم ينل بعد ما يستحق من العناية والاهتمام، وهو الذي غطت أعماله مساحات شاسعة، امتدت من علم الكلام والفلسفة والأصول الى التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع.
ونحن اليوم احوج ما يكون لفكره، الجامع بين التجذّر العميق في التراث، والوعي التاريخي المتّقد، والانفتاح على آفاق المستقبل..
رحم الله محمد عمارة، الفقيه واللغوي والمفكر والفيلسوف والسياسي الأريب.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: