لم يكن نجاح الولايات المتحدة الأمريكية باغتيال زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي سوى إنجاز تكتيكي ونصر معنوي، يشير إلى نهاية مرحلة وبداية أخرى في تاريخ المنظمة الجهادية الأوسع انتشارا والأكثر جاذبية والأشد خطورة في تاريخ الجهادية العالمية. إذ سرعان ما أعلن التنظيم عن تعيين أبو إبراهيم الهاشمي أميرا جديدا خلفا للبغدادي. وتؤكد سرعة ترتيبات تعيين قيادة جديدة للتنظيم على أن نهج "قطع الرؤوس" في مواجهة منظمة تتوافر على هيكلية بيروقراطية راسخة ذات أيديولوجية صلبة؛ لا ينجح بتفكيكها فضلا عن القضاء على بنيتها وإنهاء وجودها، فقد شكّل تنظيم الدولة طفرة في أنشطة الجماعات "الجهادية" العالمية، اتسمت بالابتكار في العديد من خصائصها واستراتيجياتها.
برهن التنظيم على تماسك هيكليته التنظيمية البيروقراطية، وقدرته على التكيّف مع التحديات والمخاطر والتطورات والمستجدات بصورة غير مسبوقة. فعقب مقتل زعيمه أبو بكر البغدادي في 26 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، على يد قوة أمريكية خاصة في محافظة إدلب شمال غربي سوريا، وتبعه في اليوم التالي مقتل المتحدث الرسمي باسم تنظيم الدولة أبو الحسن المهاجر، عبر عملية أخرى نفذتها القوات الأمركية في مدينة جرابلس بمحافظة حلب شمال سوريا، سارع التنظيم إلى تعيين قيادة جديدة، حيث أكد في 31 تشرين أول/ أكتوبر 2019 مقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، وذلك في رسالة صوتية بثها جناحه الإعلامي (مؤسسة الفرقان)، للمتحدث الجديد باسم التنظيم أبو حمزة القرشي، بعد أن أكد التنظيم مقتل المتحدث باسمه أبو الحسن المهاجر، وتعيين أبو حمزة القرشي خلفا له. وقال القرشي إن "مجلس الشورى" بايع أبو إبراهيم الهاشمي القرشي "أميرا للمؤمنين وخليفة للمسلمين". وأضاف أن "مجلس شورى الدولة الإسلامية" بادر إلى الانعقاد فور تأكده من مقتل البغدادي. وتوعد أبو حمزة القرشي الولايات المتحدة بهجمات أشد مما حدث في زمن البغدادي، ودعا أتباع التنظيم إلى الثأر لقادتهم، وأضاف: "لا تفرحي أمريكا بمقتل الشيخ البغدادي.. فلقد جاءك من ينسيك أهوال ما رأيت".
إن الإجراءات السريعة التي اتبعها تنظيم الدولة بتعيين قيادة جديدة، تؤكد على أن أبو بكر البغدادي قد أورث أبا إبراهيم الهاشمي منظمة بيروقراطية متماسكة هيكليا رغم تمددها جغرافيا. وكان التنظيم قد استكمل عملية إعادة الهيكلة التنظيمية بعد أن خسر كافة مناطق سيطرته المكانية بداية العالم الحالي، وعاد للعمل كمنظمة سرية تمتاز بمرونة شديدة بالتحول من نهج المركزية إلى حالة اللامركزية. فقد أعاد بناء هيكليته العسكرية والأمنية والإدارية والمالية والشرعية والإعلامية، وشرع بإقرار الخطط العسكرية وفق مقتضيات "حرب استنزاف"، وتكتيكات "حرب العصابات"، ليس في العراق وسوريا فقط، بل وفي بلدان عديدة أنشأ فيها فروعا عاملة كولايات في كل من: ليبيا ومصر واليمن والسعودية والجزائر وخراسان (منطقة أفغانستان وباكستان) و"القوقاز" و"شرق آسيا"، وينشط غالبا في الفلبين والصومال و"غرب أفريقيا"، إضافة إلى نيجيريا.
تشير الإجراءات السريعة بتعيين قيادة جديدة إلى أن التنظيم كانت لديه تصورات وبدائل واضحة بعيدة عن العشوائية والارتجال، فقد استغرق الإعلان عن التعيينات فترة قياسية وجيزة، وهو ما يؤكد أنها كانت موضوعة سلفا، وعقب الإعلان عن القيادة الجديدة كتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تويتر: "داعش لديه زعيم جديد.. ونحن نعرف بالتحديد من يكون"، دون أن يضيف تفاصيل أخرى. ولا يبدو أن ترامب يعلم ذلك حقا، ذلك أن التأكد سوف يستغرق وقتا أطول، رغم أن بعض المعطيات ترجح أن القائد الجديد قد يكون عبد الله قرداش.
فوفقا للمعلومات المتاحة، فإن "قرداش" الذي يلقب داخل التنظيم بـ"المدمر"، ويعرف أيضا باسم أبو عمر التركماني، وبالرغم من نسبته إلى "التركمان"، إلا أن قيادات داخل تنظيم الدولة، من بينهم إسماعيل العيثاوي المعتقل في العراقي، تؤكد على "قرشية قرداش". وقد رجح العيثاوي في لقاء تلفزيوني له بعد اعتقاله، أن يتولى "قرداش" قيادة التنظيم في حالة غياب البغدادي. وقد شغل "قرداش" سابقا منصب أمير ديوان الأمن العام في سوريا والعراق، وهو أحد أقوى الدواوين داخل التنظيم، كما أشرف في وقت سابق على ديوان المظالم وهو ضمن الإدارات الخدمية التي أنشأها التنظيم خلال سيطرته على المدن، كما تولى منصب مسؤول التفخيخ والانتحاريين في التنظيم.
وفي حال تعذر تولي قرداش قيادة التظيم، ومنها احتمال مقتله حسب مصادر في التنظيم، فإن حجي عبد الناصر العراقي هو المرشح الثاني. ويتولى العراقي قيادة ما يعرف باللجنة المفوضة، وهي المسؤولة عن إدارة التنظيم، كما تولى منصب العسكري العام لما يعرف بولاية الشام سابقا، وأشرف بنفسه على قيادة معارك التنظيم في الرقة.
إن نظرة خاطفة على مسارات تشكل تنظيم الدولة، تؤكد على وجود منظمة بيروقراطية شديدة التعقيد ومتماسكة ومرنة، وتتمتع بقدرة كبيرة على التطور والتكيّف. وتشير سرعة عملية الانتقال الأخيرة لقيادة جديدة، إلى أحد مناحي التطور، إذ تفوق التنظيم على نفسه، حيث كانت عملية تعيين قيادة جديدة تتطلب وقتا أطول رغم وجوده في حيز جغرافي محدد في العراق. فعندما قتل الزرقاوي (أحمد فضيل الخلايلة) في 6 حزيران/ يونيو 2006، ترك لخلفائه منظمة متماسكة وقوية ونافذة. وقد تولى أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي)، وهو ضابط سابق في الجيش العراقي المنحل، تأسيس "دولة العراق الإسلامية" في 15 تشرين الثاني/ أكتوبر 2006، وفي عهده تحول التنظيم إلى منظمة بيروقراطية أكثر مركزية. وعندما أعلن عن مقتل أبو عمر البغدادي في 19 نيسان/ أبريل 2010، إلى جانب أبي حمزه المهاجر، بادر تنظيم "دولة العراق الإسلامية" في 16 أيار/ مايو 2010، إلى بيعة أبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد البدري السامرائي).
تؤكد وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها السنوي عن الإرهاب، الذي صدر بعد مقتل البغدادي، على مرونة تنظيم الدولة وقدرته على التكيّف. فقد خلص التقرير إلى أن تنظيم الدولة لا يزال قادرا على المناورة، وحذر من أن الجماعات الإرهابية طوّرت من تكتيكاتها ومن طرق استخدامها للتكنولوجيا. ورغم إعلان ترامب الانتصار عليه، وقتل زعيمه، إلّا أن الخارجية الأمريكية أشارت إلى أن تنظيم "داعش" واصل انتشاره عالميا خلال 2018 عبر شبكات وجماعات تابعة له. وقال ناثان سيلز، منسق جهود مكافحة الإرهاب، وهو المشرف على التقرير بتفويض من الكونغرس، إن "داعش"، ورغم فقدانه تقريبا لكل الأراضي التي استولى عليها عام 2014، إلّا أنه "أثبت قدرته على التكيّف، خاصة من خلال جهوده لإلهام وتوجيه أتباعه عبر الإنترنت". وتابع: "علاوة على ذلك، يشكل إرهابيون متمرسون على القتال مخاطر جديدة بعد عودتهم لديارهم من مناطق الحرب في سوريا والعراق أو سفرهم إلى بلدان ثالثة".
رغم الإشادة العالمية بمقتل البغدادي، إلا أن ثمة توافق على أن ذلك لا يعدو عن كونه نجاحا تكتيكيا ونصرا رمزيا، وعلى أن تنظيم الدولة يتوافر على منظمة بيروقراطية ومرونة كبيرة وقدرة عالية على التكيّف. إذ قالت مجلة "إيكونوميست" في تقرير لها عن مقتل زعيم تنظيم الدولة أبي بكر البغدادي، إن "الخليفة" مات، لكن جماعته الجهادية المتطرفة لا تزال على قيد الحياة. ونشرت صحيفة "فايننشال تايمز" تقريرا لمراسلتها هيلين واريل، قالت فيه إن مقتل البغدادي هو أمر رمزي ولن يجعل تنظيمه أقل خطورة.
وقلل مدير شؤون الإرهاب في معهد الشرق الأوسط، تشارلز ليستر من أي تغيير في مسار الحركة على المدى القريب. وقال: "تنظيم الدولة بيروقراطي، ولديه خطة لكل شيء"، وأضاف: "هناك بالتأكيد قائمة لخلفاء محتملين، وسيتجاوز التنظيم هذا الأمر".
ونشرت مجلة "نيوزويك" تقريرا أعده كل من توم أوكونور ونافيد جمالي، يقولان فيه إن تنظيم الدولة لديه زعيم حتى قبل مقتل أبي بكر البغدادي، الذي لم يكن على ما يبدو يدير التنظيم. ونشرت صحيفة "إندبندنت" تقريرا لمراسلها ريتشارد هول، يقول فيه إن مقتل البغدادي لن يكون نهاية تنظيم الدولة. ونشرت صحيفة "واشنطن بوست" تقريرا، أعده مراسلوها كارين دي يانغ ولويز لافلاك وشين هاريس، تقول فيه إنه رغم مقتل زعيم تنظيم الدولة أبي بكر البغدادي، إلا أن هناك من يشكك في قدرة الولايات المتحدة على منع عودة جديدة لتنظيم الدولة.
خلاصة القول أن مقتل أبو بكر البغدادي لا يعد عن كونه نصرا معنويا رمزيا، فسرعان ما نصّب تنظيم الدولة خلفا له أبو إبراهيم الهاشمي، وهو ما يؤكد فشل تكتيكات "قطع الرؤوس". فالمنظمات التي تتمتع بهياكل بيروقراطية راسخة، وأيديولوجية جاذبة، وتمويلات كافية، قادرة على التكيّف والاستقطاب والتجنيد. وسوف يواصل القائد الجديد للتنظيم نهجه الجديد الذي يقوم على حرب الاستنزاف. وفي ظل الانسحاب الأمريكي التدريجي من المنطقة، سوف تجد الأنظمة الدكتاتورية الفاشلة في المنطقة نفسها وحيدة في مواجهة مع خليفة البغدادي أبو إبراهيم الهاشمي، ومع نهج أكثر تشددا وتطرفا. فالدرس الذي تعلمه تنظيم الدولة أنه لم يكن عنيفا بما يكفي. وإذا كان خليفة البغدادي هو قرداش، فنحن بإزاء نمط جديد من العنف الجذري.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: