تتمتع التفاهة بحضور مكثف في كافة العصور والأزمنة، وثمة تفاهة بعينها تسود وتطبع حقبة من الزمان بوسمها وطابعها المميز. ولا جدال في أن زماننا الراهن مطبوع بتفاهة مقولة "حرب الإرهاب"، ذلك أن مصطلحي "الحرب" و"الإرهاب" باتا لا ينطويان على الحد الأدنى من المعقولية والمعنى، وتحولا إلى مفاهيم ذاتية غير موضوعية، ومفروضة غير مفترضة، ومع ذلك يحتل الحديث عن حرب الإرهاب الأذهان والأعيان، وتتكاثر الرطانات البلاغية عن حرب على الإرهاب مفتوحة في الزمان والمكان دون أفق للنهاية في زمن ما بعد "الحرب" وما بعد "الإرهاب".
تنطوي الحرب، حسب كارل فون كلاوزفيتز، على هدف أساسي يقوم على الهيمنة على العنف وعقلنته بقراءة ريمون آرون. فالوصفات التكتيكية التي يقدمها تقوم على قاعدة أخلاقية ضمنية، وهي أن الحرب عبارة عن علم يقوم على منطق وعقل معين. فالعقل المخصوص يجعل في نهاية المطاف السياسة هي المهيمنة على الحرب، لكن منطق الحروب الجديدة التي تدور رحاها اليوم تجاوزت الوظيفة الإنتاجية للحروب الكلاسيكية، فلم يعد هدف الحرب أن تصنع واقعا سياسيا، ولا السياسة أن تضع حدّا للحروب القائمة كما اعتقد كلاوزفيتز، حيث بات هدف الحرب هو الحرب ذاتها، إذ يجب أن تكون هناك حروب حتى تظل السياسات قائمة وفاعلة، ليست السياسات هي التي تبرر الحرب اليوم، بل بالعكس، الحروب هي التي تبرر السياسات وتمنحها نمطا من "المعقولية".
كان ميشيل فوكو قد تنبه إلى تحولات معنى الحرب والسياسة، واستخلص من مقولة كلاوزفيتز الشهيرة "السياسة امتداد للحرب بوسائل أخرى" معانٍ عدة؛ فقد كشف أن علاقة السلطة السياسية بالمجتمع، علاقة ميكافيلية، كعلاقة الصيّاد الماكر بالفريسة، لا ينحني إلا ليصطادها؛ علاقة القوي بالضعيف، ولديمومة السلطة، عليها إدامة هذه القوة باستمرار، في عملية إعادة تثبيت، وذلك في حرب غير مرئية، غير مُفكَّر بها علانية، مسكوتٌ عنها، فلا يوجد سلام حقيقي، وحالة السِّلم التي تعيشها بعض المجتمعات؛ هي حالة سِلم كاذب ومزيَّف. وللحرب كلمتها النهائية بصيغة قرار، فالسلطة منذ نشأتها تخوض حربا ضدَّ الأخطار الداخلية والخارجية، فهي تُمارس قمعا في الداخل، بحجة التهديدات الخارجية الخطيرة وشيكة الوقوع، وتمارس حروبا خارجية هربا من أزمات داخليَّة، وهذه الحرب المستمرة يلزمها قوة دائمة، وأنظمة مراقبة وتجسس إذا تطورت الأمور، إذ تمارس السلطة قمعا غير مرئيّ ضدَّ الأخطار التي تهدِّد المجتمع والنظام العام، حيث تمَّ إنشاء مؤسسات انضباطية، وذلك لتتمكن السلطة من ممارسة دورها في تشديد الرقابة.
إن الحرب تظل دائما قابلة للتفكير، ومن ثمَّ فهي قابلة للعقلنة والتوجيه من طرف رجل السياسة الذي هو وحده القادر على وضع الاستراتيجيات التي تتجه صوبها الحرب، حسب أطروحة كلاوزفيتز. لكن حرب الإرهاب تستعصي على العقلنة والتوجيه، فالإرهاب اليوم، حسب الفاهم محمد، يكشف عن نفسه باعتباره شكلا للاقتتال غير قابل للعقلنة أو التوجيه. إنه ليس مجرد حرب قذرة، أي حرب تجاوزت بعض معالمها النبيلة، بل هو الحرب التي تنطلق أساسا من مبدأ إلغاء كل منطق وكل مبدأ وكل معقولية، إذ يشير جاك ديريدا إلى أن الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر لا يشير فقط إلى حدث مؤسس، بل أيضا إلى حدث غير قابل للوصف، بحيث أننا لا نعرف عما نتكلم.
تبدو منظورات كلاوزفيتز التي هيمنت على أغلب حروب القرن العشرين لتجد نهايتها في ما يسمى الآن بشكل غامض ومتناقض "الحرب على الإرهاب"؛ التي افتتحت القرن الواحد والعشرين. فتاريخيا كانت الحرب الهمجية هي أسوأ ما يمكن أن يقع فيه الإنسان، ولكن هاكم الآن ما يميز أزمنتنا المعاصرة: منذ الآن فصاعدا لن يكون للحرب هدف ولا معنى، أو بشكل أدق إنها هدف في ذاتها، وغايتها الوحيدة هي إلغاء المعنى، إنها حرب ضد الحقيقة وضد القيم الإنسانية العليا التي حلمت بها البشرية. وقديما كانت الحرب من أجل السلام، أما الآن فالحرب تقام من أجل تأجيل السلام. وكما عبَّر كينيون غيبسون إنها: "الحرب على السلام".
إن الحرب العالمية الثالثة هي إذن الحرب الأخيرة التي تفتقر إلى أي أفق سياسي أو عسكري ما، وهذا هو الوجه الفظيع الذي يبرز فيه الإرهاب حسب الفاهم محمد. إنها الحرب غير القابلة للانتهاء.. إنها لمأساة حقا أن تصبح الحرب في وجودنا الحضاري هذا كلية الحضور، فالحرب غيرت من شكلها ومفهومها، وقانونها الوحيد هو غياب القانون، إنها تجيز لنفسها اختراق كل ميثاق أو قواعد محددة دوليا أو أخلاقيا. فما نعيشه اليوم هو النهاية اللاأخلاقية للحرب الأخلاقية. وكما تنبأ جورجيو أغامبين، يوشك القانون أن يتحول إلى لعبة قابلة للتشكيل كدمية بيد الأطفال، حيث يمكن تطويع القوانين في سياق حرب الإرهاب. وقد وصف جان بودريار الإرهاب بأنه الحرب العالمية الحقيقية؛ لأنه بالإضافة إلى شموليتها في المكان، تتخذ طابع الديمومة المطلقة في الزمان.
لقد أصبح الربط بين الإرهاب والمفهوم الجديد للحرب سمة ملازمة لعصرنا، وحسب نعوم شومسكي لا يوجد تعريف دقيق للحرب، فالناس يتحدثون عن الحرب على الفقر، وحرب المخدرات.. إلخ، وما يتشكل الآن ليس صراعا بين دول، رغم أنه يمكن أن يصبح كذلك. وقد أثار مفهوم الحرب على الإرهاب الكثير من الجدل حول شرعية وتدابير الحرب على الإرهاب، وهل الحرب ضد الإرهاب ينبغي أن تحكمها قواعد وقوانين الحرب، في حين أن القانون الدولي وقوانين الحرب تطبق في نزاعات مسلحة دولية وغير دولية. فمنذ أن اعتمد الرئيس بوش اسم او شعار "الحرب ضد الارهاب"، لوصف الحرب أولا ضد تنظيم القاعدة في افغانستان، وبعدها وصفه للحرب في العراق بأنها الجبهة الرئيسية في هذه الحرب العالمية، والانتقادات من المفكرين والمحللين تتوالى عليه، لأن الإرهاب، كما قال مستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي، هو "تكتيك" وليس عدوا محددا، وبالتالي لا يمكنك شن حرب ضد تكتيك، أو لأن هذا الشعار يختزل الحرب ببعدها العسكري والميداني، ويتجاهل أبعادها الأيديولوجية والسياسية.
إذا كان مصطلح الحرب في الاستعمال المعاصر مشكلا رغم قدمه، فإن مصطلح الإرهاب الحديث النشأة هو عين الإشكالية. فأوّل ظهور لمصطلح "الإرهاب" صُك في القرن الثامن عشر، وبالتحديد في تشرين نوفمبر 1774، وتمّ تثبيته في المعاجم انطلاقا من سنة 1798، إبّان توصيف الفترة التي خصّصتها الثورة الفرنسية لتصفية كلّ "المضادين للثورة"، حسب فتحي المسكيني. ويستعمل المؤرخون المصطلح للإشارة إلى فترتين: فترة "الإرهاب الأول" بين آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر من سنة 1792، بين سقوط الملكية وإعلان الجمهورية؛ وفترة "الإرهاب الثاني" وهي تمتد من حزيران/ يونيو 1793 إلى تموز/ يوليو 1794، من سقوط "الجيرونديين" إلى قتل روبسبيار. فالإرهاب مصطلح استحدثته الثورة الفرنسية وطبّقته أداةَ تصفية نسقيّة ومنظّمة وإجرائية بحتة لأعداء الثورة. ومنذ تدشين عصر التنوير جرى الربط في ماهية الموت، بين "اللامعنى" و"الإرهاب"، ذلك أنّ الإرهاب ليس ظاهرة دينية، بل هو اختراع خاص جدّا بالثورة الفرنسية، وهو أسلوبها المكرّس لتصفية المعارضين باعتبارهم "مضادّين للثورة"، وهي تهمة ما بعد دينيّة تماما، تهمة "علمانيّة".
إن مصطلح "الإرهاب" ذاتي غير موضوعي، لا يتوافر على مصداق خارج أطر المصلحة والقوة، رغم سهولة تبيّن حقيقته الأبستمولوجية المعرفية كظاهرة عنف سياسي، وإمكانية التعرف على أسبابه وجذوره السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وارتباطه بالتدخلات الإمبريالية الخارجية والتعسفات الدكتاتورية المحلية. ومع ذلك، فإن الحرب الإرهاب مجسدا بتنظيم "الدولة الإسلامية" وسلفه تنظيم القاعدة؛ يشكل حدثا ثانويا في تاريخ المنطقة، تخفي حقيقة التنافس واستراتيجيات الهيمنة والسيطرة وطبيعة صراع المشاريع. وكان إدوارد سعيد قد خلص في مرحلة مبكرة من سيادة تفاهة عصر "حرب الإرهاب" إلى تعريف طريف ودقيق للإرهاب، بحيث يصبح "هو أي شيء يقف في وجه ما نرغب "نحن" في "فعله". فمع نهاية الحرب الباردة، بحثت الولايات المتحدة عن عدو دائم، ووجدت ضالتها بمفهوم "الإرهاب"، وهو اسم مفروض، غير مفترض، تحدده سلطة القوة وفق المصالح القومية.
وكما لاحظ إدوارد سعيد، فإن الإرهاب أصبح بمثابة ستار تمت صناعته منذ نهاية الحرب الباردة على أيدي صناع السياسة في واشنطن، شأنهم شأن مجموعة كاملة من الناس، من أمثال صمويل هنتنغتون وستيفن إميرسون؛ واللذين يملكان حصتهما من ذلك الإصرار. وقد تم فبركة المسألة لإبقاء السكان خائفين، غير آمنين، ولتبرير ما ترغب الولايات المتحدة فعله على سطح الكوكب. وبهذا، فإن أي تهديد لمصالح الولايات المتحدة، سواء تمثل بالنفط أو بمصالحها الجيو- استراتيجية في أي مكان آخر، أصبح يوصم بالإرهاب، وهو بالضبط ما دأب عليه الإسرائيليون منذ أواسط السبعينيات فيما يخص المقاومة الفلسطينية لسياساتهم. ويؤكد سعيد على أن كل تاريخ الإرهاب يجد جذوره في السياسات التي انتهجتها الإمبريالية.
لم يكن "الإرهاب" سوى ستار يخفي صناعة مستقبلية رائجة في حقبة ما بعد الحرب الباردة في ظل غياب "عدو" صريح. وكان ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي لميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، قد خاطب الغرب بقوله: "سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو". فالعدو حاجة قومية مٌلحة.. إنه عقار قوي لبقاء الدولة أو المجتمع ولاستمرارية نظام ما.. هو من أنجح العوامل التي تبلور الهوية القومية، حسب بيار كونيسا في كتابه "صنع العدو- كيف تقتل بضمير مرتاح"، والذي يتوقع أن يشكل "صنع العدو خلال العقود المقبلة قطاع إنتاج ضخما". فمنذ انتهاء الحرب الباردة، أربك غياب العدو (النمطي) السوفييتي الغرب. ومنذ ذلك الحين، يحاول الغرب صناعة عدو يناسبه، من دون أن ينجح في ذلك، فـ"الدول المارقة" و"الحرب على الإرهاب" ليستا بالمواصفات الملائمة للعدو النموذجي الذي شكله الاتحاد السوفييتي السابق.
شكلت الحروب الأهلية والمحلية خلال العقود الثلاثة المنصرمة؛ نموذجا لصناعة العدو الداخلي والخارجي في كل من إفريقيا وآسيا، حسب كونيسا، ولذلك يتوقع أن يترافق الطلب الكبير على إنتاج العدو مع تزايد الطلب على الحروب الأهلية التي تجعل من المذبحة سلاح حرب في السنوات المقبلة، حيث تشكل القارة الأفريقية، وبلدان الشرق الأوسط العربي، وبلدان آسيا الوسطى سابقا، ومناطق الحدود الجيوسياسية؛ مواقع هذه الحروب، حيث تعمل كل جماعةٍ على احتكار أمنها الخاص، من خلال مليشياتها الخاصة، كما تشكل هذه المناطق خزانات لا تنضب لهذا النوع من الحروب. وإذا كانت الحروب بين الدول ترخيصا ممنوحا شرعا لقتل أناسٍ لا نعرفهم، من منطق نحن على حق وهم على باطل، فإن الحروب الأهلية ترخيص لقتل أناسٍ نعرفهم خير معرفة، حيث يكون العدو في الحرب الأهلية حميما ويصبح العنف سلسلة متصلة، تبدأ في فترة السلام التي تسبق الحرب بشيطنة الآخر المحلي، أو تصغيره حتى يصبح أقل شأنا منا، وبالتالي يستحق أن نسحقه. وتشكل الحرب ذروة له، من خلال محاولة إبادة الآخر بالقتل، قبل أن يقتلنا هو، لأننا لا نستطيع أن نتعايش معه، إما "نحن" أو "هم" الإلغائي. وهكذا تستمر العملية الإلغائية، حتى بعد توقف القتال، من خلال القمع الذي تمارسه الجهة المنتصرة بوصف سياسة المنتصر تقوم على إلغاء الآخر واضطهاده؛ لأن من لم نستطع إبادته تماما يتحوّل من عدو معلن في حالة الحرب إلى عدو خفي، وهذا ما يجعله عدوا أخطر، حسب نظرية المؤامرة، ما يستدعي سحقه في الحرب والسلم.
لا يقتصر خلل حرب الإرهاب على نموذج الحرب والعدالة الجنائية، بل إن عدم تبني تعريف محدد لـ"الإرهاب" عن قصد وإصرار ساهم في خلق حالة من التشوش الدلالي وفقدان المصداقية، بحيث أصبح سلاحا تستخدمه سلطة الدولة الديكتاتورية في مواجهة الخصوم السياسيين، أو الأعداء المفترضين. فمصطلح الإرهاب بات يستخدم من قبل الأطراف المتصارعة لأهداف سياسية، وتحول إلى مفهوم ذاتي غير موضوعي. فالإرهاب بحسب جوزيف مسعد "اسمٌ غير مفترض، وإنما مفروض دائما. فالمفهوم التصنيفي الذي يحوله من ممارسة إلى هوية مفهوم خاص لا يتسم بالتعميم. ففي الوقت الذي تصف سلطة الدولة بعض الممارسات بالإرهاب، وتنعت مرتكبيه بـ"الإرهابيين"، فإن جميع من يوصفون بالإرهابيين يرفضون هذا الوصف المفروض عليهم من طرف الدولة".
على الرغم من الخطابات البلاغية المتواترة من سدنة الإمبريالية والدكتاتورية بالتفريق بين "الإسلام" و"الإرهاب"، إلا أن سياسة الحرب على الإرهاب مشبعة بالأثر الاستشراقي الجامع بين المفهومين، عبر التسمية الاستشراقية الرائجة حول "الإرهاب الإسلامي. فالغرب كما يشدد إدوارد سعيد في كتابه "تغطية الإسلام": "لا يرى في المسلمين أكثر من مشاريع إرهابيين أو مزودي نفط... ومعرفة الغرب بالإسلام والشعوب الإسلامية ليست وليدة الهيمنة والمواجهة فحسب، وإنما أيضا ثمرة لثقافة كراهية غريزية".
اشتهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكونه يتوافر على رؤية استشراقية شديدة التطرف حول الإسلام باعتباره دين الإرهاب والتطرف، وهي سمة رئاسية أمريكية مشتركة لا ينفرد بها. فالفلسفة البراغماتية الأمريكية بوجوهها المتعددة، الإمبراطورية والإمبريالية والحقوقية، تقوم سياستها الخارجية في الشرق الأوسط على الحفاظ على "الأمن والاستقرار" لضمان إمدادات "النفط"، وحماية أمن المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في فلسطين، وذلك من خلال الالتزام بدعم الأنظمة الاستبدادية وحماية تلك المصالح من "إرهاب" أبناء المنطقة. لكن ترامب تفوق على نظرائه في وقاحته دون حدود، فقد حفلت حملاته الانتخابية بالحديث عن "الإرهاب الإسلامي المتطرف"، ولم تكن عباراته المتطرفة مجرد رطانة في سوق التنافس الانتخابي، فعقب فوزه بالرئاسة داوم على تكرار عبارته الأثيرة، وفي خطابه أمام الكونغرس في 28 شباط/ فبراير 2017 تحدث حول ضرورة حماية الشعب الأمريكي من "الإرهاب الإسلامي المتطرف"، وشدّد في خطابه على الكلمات الثلاث: "متطرف. إسلامي. إرهابي".
تجسد مقولة الحرب على الإرهاب "نظام التفاهة"، وهو عنوان كتاب لأستاذ الفلسفة والعلوم السياسية الكندي ألان دونو. فالحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين، إذ جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية. فبدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها، تحولت إلى خطر "ثورة تخديرية" جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة. وتتلخص نظرية دونو بسيطرة ذوي المؤهلات المتوسطة (الميديو كراسي) على "السلطة" بمفهومها الواسع، وأهم خاصية يتميز بها صاحب المؤهلات المتوسطة تتمثل أساسا في قدرته على التعرف على أمثاله، حيث ينظمون معا عمليات "حك لي تحك لك"، والتسلق وتبادل الخدمات، وذلك بهدف توسيع جماعتهم و تكثير سواد زمرتهم، و"تحويل قلة الكفاءة إلى مرتبة النموذج". وفي هذه الأجواء، فإن كلمات من قبيل: التملق، الرمادية، الغفلة الواضحة، والمعيارية، هي فقط ما يسمح بتداوله، لكن بعد إلباس هذه "التفاهات" مفاهيم فارغة.
بعد أكثر من خمسين سنة، يجد الأمريكيون أنفسهم في حرب دائمة، حسب جوناثان تورلي، فلا يمكنهم مثلا عدم التدخل في سوريا أو ليبيا أو العراق أو إيران. وبينما تشكل الحرب الدائمة خسائر دائمة من حيث الضحايا ومن حيث ميزانيات الإنفاق، إلا أنها تمثل أيضا أرباحا دائمة لمجمع ضخم من المؤسسات الحكومية والتجارية. وفي هذا السياق، يغذي المجمع الصناعي العسكري من قبل عدو غامض، غير مرئي هو "الإرهابي". فقد أصر جورج بوش على تسمية جهود مكافحة الإرهاب "حربا"، وفعل ذلك أيضا نائبه ديك تشيني الذي كان رئيسا تنفيذيا لشركة هاليبرتون لأنظمة الدفاع. فــ"الحرب" لن تعطي الرئيس صلاحيات شبه مطلقة فقط، لكنها أيضا ستغذي الإنفاق على الصناعات العسكرية وأجهزة الأمن. فاقتصاد البلاد بالفعل يبدو اقتصادا قائما على الحرب، بداية من استشاريي مكافحة الإرهاب، والدرجات العلمية التي تُعطى في الدراسات الأمنية وبرامج أمن المطارات وغيرها، ومؤخرا قُدرت الميزانية "السوداء" من برامج المخابرات السرية وحدها بمبلغ 52.6 مليار دولار. هذه ليست سوى برامج سرية، وليست ميزانية الاستخبارات أو برامج مكافحة التجسس التي تبلغ أضعاف ذلك. ففي الولايات المتحدة أكثر من 16 وكالة تجسس توظف أكثر من 107 آلاف موظف، بخلاف أكثر من مليون يعملون في الجيش ووكالة الأمن القومي .أما بالنسبة لجماعات الضغط واللوبيات، فإن هناك الآلاف منها في واشنطن لضمان الأخذ في توسيع ميزانيات الحرب والأمن الوطني. ومن ناحية المستفيدين الآخرين، فإن المستفيدين ليسا فقط وزارة الدفاع أو الأمن الوطني، لكن وزارة العدل كذلك أنشأت نظاما ضخما لمكافحة الإرهاب، ووظفت فيه عشرات الآلاف من الموظفين للبحث عن الإرهابيين المحليين. لقد كانت مشكلة هذا النظام هو "نقص الإرهابيين" أو قلة عددهم مقارنة بالإنفاق الضخم.
في ظل تفاهة حرب الإرهاب، انبثقت استراتيجيات جديدة لإعادة إنتاج سيادة الدولة الأمريكية، وهي استراتيجيات يمكن تشخيصها على أنها حروب سلامةٍ عامةٍ مجاوزةٌ للأطر الإقليمية وغير محدَّدة، حسب ألن فيلدمان في مقاله "حروب السلامة العامة: العنف العقابي بوصفه سيرورة تضحية وتأمين". فهذه الحروب لا تتركز حصريا على فتح أراضٍ، بل هي تتركز بالأحرى على الاختراق الإقليمي- "الإرهابي"، والاختراق الديموغرافي والبيولوجي المنسوب إلى أطراف أخرى. وهـذه الحملات لا تحدد بنيتها أهـدافٌ سياسية محدودة زمنيا، بل هي مفتوحة على الأفق الزماني دون نهاية محددة. وهي ليست مجرد أدوات جيو- ستراتيجية، أي وسائل لتحقيق غاية سياسية. فحروب السلامة العامة المجاوزةُ للأطر الإقليمية هي أشكال ثقافية جيو- سياسية يمكنها تحقيق هيمنة داخلية نوعية داخل المجال العام الأمريكي، عبر تعايش الخوف المستبطن وعدوان آخر موجَّه. ومن الواضح أن المؤشر على ذلك هي حملات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق، والرد على ترويعات الإرهاب البيولوجي الأخيرة.
خلافا لحروب القرن العشرين، حسب فيلدمان لا تعد هذه الحـروب المتحـررة من قيود الشكل التقليدية حروب يوتوبيا، بل تعد حروب ديستوبيا (خوف من تجاوز الوضع القائم) تفترض أن الديمقراطيات الليبرالية "المُثلى" معرضة لتهديد خطر غير مرئي، آخذ باخـتراقها. وهكذا، فإن الفانتازيا السياسية لما بعد 11/9 قد روَّجت الاستقطابات اللاتاريخية عن الحضارة في مواجهة البربرية، أو المفهوم العقلاني الليبرالي اللاتاريخي بالمثل عن "حـروب الحضارات". والحاصل، أن الحرب المجاوزة للأطر الإقليمية إنما تروج أيديولوجية فضاء يهيمن عليه جنون الريبة، وهي رد ضمني عدواني على نهاية الاستقطاب المميزة لفترة ما بعد الحرب الباردة، كما على الدوار الثقافي- الاقتصادي الذي ترتب مؤخرا على العولمة. وهكذا، فإن حروب السلامة العامة الجديدة إنما تستهدف صور شخصيات تجتاز الحدود جرى إضفاء ملامح شيطانية عليه. ونحـن الآن خاضعـون لبنية عليا جديدة لفانتازيا الحرب يعد فيها المستهدفون بالحرب وأعداء السلامة العامة؛ مرنين ومطواعين كصورة حُلمية.
يعتقد محمود ممداني كتاب "المسلم الجيّد، المسلم السيّئ: أمريكا، الحرب الباردة وجذور الإرهاب" أنّ التفسيرات الثقافيّة والسياسات القمعيّة سوف تُفضي إلى دولة أمنيّة تخرق حقوق مواطنيها. ولا يتلاءم توقّع ممداني هذا مع الواقع فحسب، بل كذلك مع تحليل الفيلسوف الإيطاليّ جورجيو أغامبين في محاضرته "عن الأمن والإرهاب" حيث ادّعى خلالها أنّه "حين تقوم السياسة، كما فهمها منظّرو هذا العلم في القرن الثامن عشر، باختزال نفسها إلى عمل أمنيّ، فإنّ الفارق بين الدولة والإرهاب يهدَّد بالتلاشي. وفي النهاية، قد يشكّل الأمن والإرهاب نظاما قاتلا واحدا يقوم فيه كلّ طرف بتسويغ وشَرْعَنة عمل الآخر".
خلاصة القول: يمكن أن نفهم ديناميات التحول باستخدام مصطلح "حرب الإرهاب" في حالة أمريكا في ظل مقاربة كارل شميت للعدو والصديق كمحدد للسياسي، وفي إطار نظام التفاهة لدونو، لكن الحالة العربية أشد تعقيدا وتفاهة. ففي سياق تفاهة الحرب على الإرهاب وصناعة العدو يشكل العالم العربي عقب الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي أقصى حدود التفاهة، ففي ظل غياب "عدو" بعد أن تحولت المستعمرة الاستيطانية المسماة "إسرائيل" إلى صديق، تنامت ديناميات اختراع "عدو" داخلي تمثل بـ"الإرهاب". وإذا تتبعنا مسألة العنف السياسي في العالم العربي، فقد تكاثرت منذ الانخراط في ما يسمى "عملية سلام"، وبهذا تحولت الجيوش العربية إلى قوة بوليس، وتبدلت عقيدتها القتالية إلى قوات مكافحة إرهاب داخلي. وتشكل الحالة الفلسطينية من خلال ما يطلق عليه السلطة الوطنية الفلسطينية حالة فريدة يصعب أن نجد لها نظيرا، فهي تجسد شيئا فريدا في التاريخ، حيث تتحول المقاومة إلى قوة بوليس دون المرور بمرحلة الجيش، لكن العالم العربي الذي يفتقر إلى أيديولوجيا يجد نفسه منيعا عن اليوتوبيا، وخصوصا "الخلافة"، فيقع في حروب ديستوبيا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: