قضيتان تختلف فيهما الآراء، وكلٌّ مأجور بمشيئة الله: آيتا الغرانيق وسحر النبى عليه السلام
د. إبراهيم عوض - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2640
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
صفحات من كتابى عن الشيخ الشعراوى
========================
وأمام قوله تعالى فى سورة "الحج": "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)" يعلق الشيخ المفضال بقوله: "أثارت هذه الآية جَدلاً طويلاً بين العلماء، ودخل فيه كثير من الحشْو والإسرائيليات، خاصة حول معنى "تَمَنَّى" (الحج/ 52) وهي تَرد في اللغة بمعنيين، وما دام اللفظ يحتمل معنيين فليس أحدهما أَوَْلَى من الآخر إلا بمدى استعماله وشيوعه بين جمهور العربية، ويأتي التمني في اللغة بمعنى القراءة، كما ورد في قول حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان رضي الله عنهما:
تمنَّى كِتابَ الله أوَّلَ لَيْلةٍ وآخِرَهَا وَافَاهُ حَتْم المقَادِرِ
يعني: قُتِل عثمان وهو يقرأ القرآن، وهذا المعنى غريب في حمَلْ القرآن عليه لعدم شيوعه. وتأتي تمنى بمعنى "أحب أن يكون الشيء"، وهذا هو القول المشهور في لغة العرب. أما بمعنى "قرأ" فهو غير شائع، ويُردّ هذا القول، وينقضه نَقْضاً أولياً مبدئياً قوله تعالى: "وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ" (الحج/ 52). ومعلوم أن الرسول ينزل عليه كتاب يمكن أن يقرأه، أمّا النبي فلا ينزل عليه كتاب، بل يعمل بشرع مَنْ سبقه من الرسل. إذن فما دام الرسول والنبي مشتركين في إلقاء الشيطان، فلا بُدَّ أن تكون الأمنية هنا بمعنى "أحب أن يكون الشيء"، لا بمعنى "قرأ"، فأيُّ شيء سيقرأ النبي وَليس معه كتاب؟
والذين فهموا التمني في قوله تعالى: "وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ" (الحج/ 52) أنه بمعنى "قرأ"، سواء أكانوا من العلماء المتعمِّقين أو السطحيين، قالوا: المعنى إذا قرأ رسولُ الله القرآنَ تدخّل الشيطان في القراءة حتى يُدخِل فيها ما ليس منها. وذكروا دليلاً على ذلك في قوله تعالى: "أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى" (النجم/ 19- 20) ثم أضافوا "والغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى"، وكأن الشيطان أدخل في القرآن هذا الكلام، ثم نسخه الله بعد ذلك، وأحكم الله آياته. لكن هذا القول يُشكِّك في قضية القرآن، وكيف نقول به بعد أن قال تعالى في القرآن: "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ" (الشعراء/ 193- 194). وقال: "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" (الحاقة/44- 47).
إذن الحق سبحانه وتعالى حفظ قرآنه وكلامه من أمثال هذا العبث. وكيف نُدخِل في القرآن هذه الكفريات؟ وكيف تستقيم عبارتهم "والغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى" مع قول الله تعالى: "أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى" (النجم/ 19- 22) كيف ينسجم هذا وذاك؟ فهذا الفهم في تفسير الآية لا يستقيم، ولا يمكن للشيطان أنْ يُدخِل في القرآن ما ليس منه، لكن يحتمل تدخُّل الشيطان على وجه آخر: فحين يقرأ رسول الله القرآن، وفيه هداية للناس، وفيه مواعظ وأحكام ومعجزات، أتنتظر من عدو الله أنْ يُخلِي الجو للناس حتى يسمعوا هذا الكلام دون أنْ يُشوِّش عليهم، ويُبلبل أفكارهم، ويَحُول بينهم وبين سماعه؟
فإذا تمنّى الرسول، يعني "قرأ"، ألقى الشيطان في أُمنيته، وسلَّط أتباعه من البشر يقولون في القرآن: سِحْر وشِعْر وإفْك وأساطير الأولين. فدَوْر الشيطان إذن لا أنْ يُدخِلَ في كلام الله ما ليس منه، فهذا أمر لا يقدر عليه ولا يُمكِّنه الله من كتابه أبداً، إنما يمكن أنْ يُلقِي في طريق القرآن وفَهْمه والتأثر به العقبات والعراقيل التي تصدُّ الناس عن فَهْمه والتأثر به، وتُفسِد القرآن في نظر مَنْ يريد أن يؤمن به.
لكن، هل محاولة تشويه القرآن هذه وصَدّ الناس عنه جاءت بنتيجة، وصرفتْ الناس فعلاَ عن كتاب الله؟ لقد خيَّبَ الله سَعيْه، ولم تقف محاولاته عقبة في سبيل الإيمان بالقرآن والتأثر به لأن القرآن وجد قلوباً وآذاناً استمعتْ وتأملتْ فآمنت وانهارتْ لجلاله وعظمته وخضعتْ لأسلوبه وبلاغته، فآمنوا به واحداً بعد الآخر.
ثم يقول تعالى: "فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (الحج/ 52) يعني: ألغى وأبطل ما ألقاه الشيطان من الأباطيل والعقبات التي أراد بها أنْ يصدَّ الناس عن القرآن، وأحكمَ الله آياته، وأوضح أنها منه سبحانه، وأنه كلام الله المعْجز الذي لو اجتمعتْ الإنس والجنُّ على أنْ يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
هذا على قول مَنِ اعتبر أن "تَمَنَّى" (الحج/ 52) بمعنى "قرأ". أما على معنى أنها الشيء المحبوب الذي نتمناه فنقول: الرسول الذي أرسله الله تعالى بمنهج الحق إلى الخَلْق، فإنْ كان قادراً على تطبيق المنهج في نفسه فإنَّ أُمنيته أنْ يُصدَّق وأنْ يُطاع فيما جاء به، أمنيته أنْ يسود َمنهجه ويُسيطر ويسُوس به حركة الحياة في الناس. والنبي أو الرسول هو أَوْلى الناس بقومه، وهو أحرصهم على نَفْعهم وهدايتهم، والقرآن خير يحب للناس أن يأخذوا به عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". لكن هل يترك الشيطان لرسول الله أنْ تتحقق أُمنيته في قومه أَمْ يضع في طريقه العقبات، ويُحرِّك ضده النفوس، فيتمرّد عليه قومه حيث يُذكِّرهم الشيطان بما كان لهم من سيادة ومكانة سيفقدونها بالإسلام؟
وهكذا يُلْقي الشيطان في أُمنية الرسول "إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ" (الحج/ 52)، وما كان الشيطان ليدع القرآن ينفذ إلى قلوب الناس أو حتى آذانهم، أليس هو صاحب فكرة:* "لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ" (فصلت/ 26). إن الشيطان لو لم يُلْق العراقيل في سبيل سماع القرآن ويُشكّك فيه لآمن به كل مَنْ سمعه لأن للقرآن حلاوةً لا تُقَاوم، وأثراً ينفذ إلى القلوب مباشرة. ومع ذلك لم يَفُتّ ما ألقى الشيطان في عَضُد القرآن ولا في عَضُد الدعوة، فأخذت تزداد يوماً بعد يوم، ويزداد عدد المؤمنين بالقرآن المصدِّقين به. المهم أن نتنبه: كيف نستقبل القرآن، وكيف نتلقاه، لا بد أن نستقبله استقبالَ الخالي من هوى، فالذي يفسد الأحكام أنْ تُستقبل وتدخل على هوى سابق....".
وهذا كلام جيد، ونضيف إليه أن القرآن يعلن أنه ما من رسول ولا نبى سبق الرسول وتمنى إلا ألقى الشيطان فى امنيته. فلو كان المقصود أن الشيطان لم يترك رسولا ولا نبيا ممن سبقوا النبى عليه السلام إلا ألقى فى قراءته أشياء من عنده لكان هذا مصادما لحقائق التاريخ، إذ لم نسمع أن نبيا أو رسولا ألقى الشيطان فى قراءته شيئا، وإلا فليقل لنا من فسروا "التمنى" بمعنى "القراءة" متى ولا كيف حدث هذا لكل رسول ولكل نبى؟ ويستحيل أن يثبتوا ذلك. بل لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام قمينا أن يذكر هو نفسه للمسلمين وغير المسلمين حوادث إلقاء الشيطان فى قراءات إخوانه السابقين من المرسلين والنبيين.
وهناك أيضا الروايات الخاصة بـ"قصة الغرانيق"، وتتلخص فى أن سورة "النجم" كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة: "اللات والعُزَّى ومَنَاة"، ثم حُذِفتا منها فيما بعد، إذ كان محمد عليه الصلاة والسلام يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم لـه ولأتباعه، ومن ثَمَّ أقدم سهوا على تضمين سورة "النجم" تَيْنِك الآيتين عقب قوله: "أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى؟" على النحو التالى: "إنهنّ الغرانيق العُلَا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى"، أو دسهما الشيطان فى تلاوته وهو لا يشعر. والواقع أن أقل نظرة فى سورة "النجم" أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها منذئذ!
وقد تناول عدد من علماء المسلمين فى القديم والحديث الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. والحقيقة إن النظر فى سورة "النجم" ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء. فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذمُّ العنيف للأوثان والمدحُ الشديد لها؟ ترى هل يمكن تصوُّر انخراط شخص فى فاصل من التقريظ لشخص آخر لينتقل بعدها مباشرة لسبه وإهانته؟ ترى هل يُعْقَل ابتلاعُ العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم، وهم يسمعون عقيب ذلك قوله تعالى: "ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إنْ هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إنْ تتَّبِعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره!
كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه لـه ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه، ورغم الإيذاء الرهيب الذى كان يتعرض له هو وأتباعه، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى هذا الضعف والتخاذل!
وقد أضفتُ طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية، إذ نظرتُ فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بأية صلةٍ. ذلك أن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى: "وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى". فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله؟
ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة "ر ج و" على صيغة "افتعل". أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو: "وإنّ شفاعتهن لتُرْتَضَى"، فالرد عليه هو أن هذا الفعل بهذه الصيغة، وإن ورد فى القرآن ثلاث مرات، لم يقع فى أى منها على "الشفاعة"، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية: "تنفع، تُغْنِى، يملك".
كذلك بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأيتم...؟"، وهذا التركيب قد ورد فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى مخاصمة الكفار والتهكم العنيف بهم كما فى الشواهد التالية: "قل: أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون؟"، "قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما، قل: آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون؟"، "قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين"، "أفرأيتم الماء الذى تشربون؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون". فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة "النجم" بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكريم (فى حال مجيئها مضافة) إلا إلى الضمير "هم" على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ".
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من "إنّ (وهى مؤكِّدة كما نعرف) + ضمير (اسمها) + اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)". وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ"ذاتٍ عاقلةٍ" فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم (وهى تبلغ العشرات) دون تأكيد اسم "إنّ" الضمير بضميرٍ مثله، كما فى الأمثلة التالية: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم السفهاء/ إنه هو التواب الرحيم/ إنك أنت السميع العليم/ إنك أنت التواب الرحيم/ إنه هو السميع العليم/ إنه هو العليم الحكيم/ إنه هو الغفور الرحيم/ إنى أنا النذير المبين/ إنه هو السميع البصير/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبون/ إنه هو العزيز الحكيم/ وإنا لنحن الصافّون/ وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السميع البصير/ إنه هو العزيز الرحيم/ إنك أنت العزيز الكريم/ إنه هو الحكيم العليم/ إنه هو البَرُّ الرحيم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحميد". أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون تأكيد اسم "إنّ" الضمير بضميرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك") فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة. وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم.
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانيق" قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام. وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية.
ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة، ومن ثَمَّ فإنى لا أستبعد ما طرحه الكاتب الهندى سيد أمير على فى كتابه: "The Spirit of Islam" من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع، إذ يرى أن النبى، عندما كان يقرأ سورة "النجم"، وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعض المشركين ما سيأتى بعد ذلك فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ. وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة كما تقول الآية السادسة والعشرون من سورة "فُصِّلَتْ". فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب.
**************************************
ولدن تناول الشيخ لقوله تعالى من سورة الحج: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)" يستطرد فيقول: "ومن بشريته صلى الله عليه وسلم أنه تعرّض للسحر، وهذه واقعة لا تُنْكَر، وقد ورد فيها أحاديث صحيحة. وقد كاد الكفار لرسول الله بكل أنواع الكيد: استهزاءٌ، وسباباً، واضطهاداً، وإهانة، ثم تآمروا عليه بلَيْلٍ ليقتلوه، وبيَّتوا له، فلم يُفْلِحوا قال تعالى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال/ 30). وكاد الله لرسوله وأخرجه من بينهم سالماً، وهكذا فضح الله تبييتهم وخيّب سَعْيهم، وفشلَتْ محاولاتهم الجهرية والسرية، فلجأوا إلى السحرة ليفعلوا برسول الله ما عجزوا هم عنه، وعملوا لرسول الله سحراً في مُشْطٍ ومُشَاطة من شعره صلى الله عليه وسلم وطلع نخلة ذكر ففضحهم الله، وأخبر رسوله بذلك فأرسل الإمام عليًّا فأتى به من بئر ذروان.
وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُبيِّن لنا بشرية الرسول، وأنه يجري عليه ما يجري على البشر، لكن ربه لا يترك بشريته وحدها، وإنما يعصمه بقيوميته.
وهذا المعنى هو ما قصده أصحاب الرأي الأول: أن الرسول يطرأ عليه ما يطرأ على البشر العادي، لكن تتدخّل السماء لتعصمه ونحن نختار الرأي الآخر الذي يقول أن تمنى بمعنى ودَّ وأحب. ثم تختتم الآية بقوله تعالى: * وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * [الحج: 52] عليم بكيد الشيطان، وتدبيره، حكيم في علاج هذا الكيد".
وواضح أن الشيخ يؤمن بالسحر وبأن النبى قد أصيب به. وهذه مسألة فيها خلاف. والعبد لله لا يستطيع الاقتناع بقصة سحر النبى بتاتا. وملخص تلك القصة أن أحد اليهود قج سحر النبى عليه الصلاة والسلام حتى لقد كان يتوهم أنه يأتى نساءه دون أن يأتيهن. وبادئ ذى بدء أسوق الحديث الخاص بذلك، وهو من رواية البخارى: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُحِرَ حتى كان يَرَى أنه يأتي النساءَ ولايأتيهِنَّ. قال سفيانُ: وهذا أشدُّ ما يكونُ من السِّحْرِ إذا كان كذا. فقال: يا عائشةُ، أعَلِمْتِ أن اللهَ قد أفتاني فيما استفتَيتُه فيه؟ أتاني رجلانِ، فقعَد أحدُهما عند رأسي، والآخَرُ عند رِجْلي، فقال الذي عند رأسي للآخَرِ: ما بالُ الرجلِ؟ قال: مَطْبوبٌ. قال: ومَنْ طَبَّه؟ قال: لَبِيدُ بن أعْصَمَ (رجلٌ من بني زُرَيْقٍ حَلِيفٌ ليَهُودَ كان منافقًا). قال: وفيمَ؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاقَةٍ. قال: وأينَ؟ قال: في جُفِّ طلعةٍ ذكَرٍ تحت رَعُوفَةٍ في بئرِ ذَرْوانَ. قالتْ: فأتى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البئرَ حتى استخرجه، فقال: هذه البئرُ التي أُرِيتُها، وكأن ماءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وكأن نخلَها رُؤوسُ الشياطين. قال: فاستُخْرِجَ. قالتْ: فقلتُ: أفَلا (أي تنَشَّرَتْ)؟ فقال: أمَا واللهِ فقد شفاني اللهُ، وأكرَهُ أن أُثِيرَ على أحدٍ من الناسِ شَرًّا".
وهناك، كما هو معروف، من ينكر وقوع السحر للنبى لأنه يناقض رد القرآن على متهميه بالسحر. وأنا معهم فى هذا، وأرى أيضا أنه لا يليق بنبوته أن يكون أعداؤه قد تسلطوا عليه بالسحر حتى وصل إلى تلك الحالة التى تثير الشفقة والرثاء من جانب محبيه، والشماتة والابتهاج من جانب شانئيه، ويظهر فيها عاجزا لا يمكنه هو أو غيره أن يصنع إزاءها شيئا. بل إنه ليبدو وكأنه غير واع بالأمر أصلا. وهذه معضلة أخرى أنكى وأشد. وفوق هذا ففى النص أشياء جديرة بالملاحظة: فمثلا تقول القصة إن عليه السلام بعد أن سُحِرَ كان يرى أنه يأتى نساءه ولا يأتيهن. ولا أدرى كيف يكون ذلك. لو قيل إنه كان يريد إتيانهن لكنه لا يستطيع لكان الكلام مفهوما بغض النظر عن موافقتنا على صحته أو لا. أما القول بأنه كان يرى أنه يأتيهن لكنه لا يأتيهن فأمر لا يقبل التصور أساسا.
ثم تمضى القصة قائلة إن مَلَكَيْن قد أتياه وهو نائم، فسأل أحدهما الآخر: ما بال الرجل؟ وكأن ملكين قد أرسلهما الله لمعالجة رسوله يمكن أن يجهلاه إلى هذا الحد فلا يعرفا أنه رسول الله بل مجرد رجل من ملايين نكرات الرجال. إن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا تخيلنا أن الملكين كانا مدلجين ذات ليلة على غير هدى فصادفا رجلا مجهولا نائما تحت شجرة، فقالا ما قالا. كذلك نفهم من القصة أن أحدهما لم يكن يعرف ماذا أصاب الرسول، إذ يسأل زميله: ما بال الرجل؟ فلماذا إذن كان مجيئهما إليه صلى الله عليه وسلم؟
كذلك لم وضع الساحر سحره فى بئر ولم يضعه فى بيته مثلا حتى يطمئن إلى أن أحدا لن يمكنه الوصول إليه، فضلا عن أنه سوف يكون أسهل عليه من تكلف الذهاب إلى البئر المذكورة والنزول فى الماء والطين لإخفاء العمل السحرى الذى جهزه واحتمال رؤية أحد من الناس له وهو يفعل ذلك؟ ولماذا لم تشف السماء النبى مباشرة بدلا من هذا السبيل المعقد الذى قرأناه؟ وتقول القصة إن النبى، بعد استخراجه السحر، لم يشأ أن يثير على أحد من الناس شرا. وهى عبارة غامضة: فهل المقصود بالناس هنا هم المسلمون؟ لكن أى شر يمكن أن يصيبهم جراء ذلك؟ هل هو الخوف من الفتنة؟ لكن الفتنة وقعت وانتهى الأمر، إذ علم المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم مسحور وعاجز عن فعل أى شىء ينقذه من الحالة السيئة التى كان عليها. بل إن الروايات الأخرى فى البخارى ومسلم وابن حبان تقول إنه صلى الله عليه وسلم، حين قصد البئر ليستخرج منها السحر، قصدها فى جماعة من أصحابه، بالإضافة إلى أنهم لا بد أن يكون قد ثار فى أذهانهم السؤال التالى: كيف ينفى القرآن عن الرسول السحر، وهو ذا أمامنا مسحور بلا أى جدال؟ أم هل المقصود بأحد من الناس هو الساحر؟ لكن ألم يأت فى الأحاديث أن الساحر يجب أن يُقْتَل؟ فلماذا لم يطبَّق هذا الحكم عليه؟ ثم من استخرج السحر من الماء؟ أهو الرسول؟ فهل يليق به صلى الله عليه وسلم، وهو النبى والحاكم والقائد والمشرع والقاضى، أن ينزل بئرا ليبحث فيها عن عمل من أعمال السحر؟ أم هو واحد من الصحابة؟ فمن هو يا ترى؟ ولماذا لم يقدم لنا تقريرا عما رأى وسمع؟ وهل اكتفى الساحر بسحره مرة واحدة فقط؟ وأين تفاصيل معاناة الرسول عليه السلام؟
وفى الرواية الموجودة فى "لباب النقول" للسيوطى يأمر الرسول صحابته بأن يذهبوا إلى البئر المذكورة فينزحوا ماءها حتى تظهر الصخرة التى وُضِع السحر تحتها فيستخرجوه ويحرقوه. وهو عمل مرهق يأخذ وقتا ويلفت الأنظار، ولا يتسق مع قول الرسول إنه لا يريد أن يثير بين الناس فتنة، إذ لا بد أن يعلم به القاصى والدانى من أهل المدينة على الأقل. وهذا نص رواية "لباب النقول: "مَرِض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضا شديدا، فأتاه ملَكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما ترى؟ قال: طُبَّ. قال : وما طُبّ؟ قال: سُحِر. قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي. قال: أين هو؟ قال: في بئر آل فلان تحت صخرة في كرية. فأْتُوا الركية فانزحوا ماءها وارفعوا الصخرة ثم خذوا الكرية واحرقوها. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمار بن ياسر في نفر، فأَتَوُا الركية فإذا ماؤها مثل ماء الحناء، فنزحوا الماء ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الكرية وأحرقوها، فإذا فيها وتر فيه إحدى عشرة عقدة. وأنزلت عليه هاتان السورتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة: قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس". ولنلاحظ أن أحد الرجلين اللذين أتيا النبى فى الرؤيا، والمفروض أنهما ملكان، لا يعرف معنى "طُبّ" كما هو واضح. فهل يعقل هذا؟ ثم إن هذه الرواية تتحدث عن إحراق السحر، بينما فى رواية أخرى للبخارى غير الرواية السابقة لا إحراق للسحر ولا حتى استخراج له، علاوة على أن لبيد بن الأعصم فيها يهودى وليس من الموالسين معهم.
وفى رواية أخرى فى "فتح البارى" لابن حجر نقرأ ما يلى: "فقالت أختُ لبيدِ بنِ الأعصمِ: إن يكن نبيًّا فسيُخْبَرُ، وإلا فسيُذْهِلُهُ هذا السِّحْرُ حتَّى يُذْهِبَ عقلَه". وها هو ذا قد أخبر الله نبيه بالسحر وشفاه منه وأبطل كيد ابن الأعصم، فماذا فعلت أخته؟ ولماذا لم يحاجّها المسلمون بشفاء رسول الله ويطالبوها هى وأخاها باعتناق الإسلام؟ لكننا ننظر فنجد أن الأمر قد أُكْفِئَ عليه ماجور وأُهْمِل تماما بعد ذلك، وكأنه لم يكن. بل إن لبيد بن الأعصم، فيما لاحظتُ، لا يأتى له ذكر فى غير هذا الحديث. أفلم يكن للرجل أى دور فى الحياة غير سحر النبى عليه السلام؟ لكأنه ممثل من من ممثلى الكومبارس ممن يظهرون فى المسرحية أو الفلم فى لقطة خاطفة يقولون فيها جملة سريعة ثم يختفون تماما حتى نهاية القصة، وهم مع ذلك سعداء أن قُدِّر لهم الظهور فى عمل فنى جماهيرى مع الممثلين الكبار. كذلك من الصعب جدا أن نتصور نازحى البئر من الصحابة الكرام وقد سكتوا تماما بعد الحادثة فلم يتعرضوا هم ولا غيرهم من المسلمين للبيد بن الأعصم هذا ولو بتقريع.
إن أمرا كهذا لا يمكن أن يكون قد مر مرور الكرام على النحو الذى رأينا وكأننا قبالة موضوع نظرى مجرد بارد لا موضوع حياة يومية فيها معاناة وحيرة وألم ومؤامرات وصراعات؟ ألم يكن للصحابة رد فعل على ما يَرَوْنَه فى رسولهم الكريم؟ أين عمر مثلا فلم يهتم بتمحيص المسألة حتى يضع يده على الفاعل الشرير ويعاقبه العقاب اللازم؟ لقد رأينا فى حادثة الإفك وغيرها عالما موارا من الوقائع والمشاعر والاتهامات والردود والتقصى والتمحيص، أما هنا فكلمتان سريعتان أقرب إلى عالم التنظير والتجريد البارد لا تشفيان غليل الباحث. هل يعقل أن يحدث هذا لزعيم دولة وحاكمها وقائدها العسكرى وقاضيها وموجهها، وقبل ذلك كله رسولها، ثم لا نسمع شيئا عن موقف أهل المدينة تجاه هذا الأمر سواء من المسلمين المؤمنين، أو خصومه من اليهود والمنافقين والكافرين؟ وقبل ذلك كله كيف يرضى الله سبحانه وتعالى تعريض نبيه لهذا الاضطراب القبيح المُذْهِب للوعى فى مثل هذا الأمر الحساس على يد واحد من أعدائه؟ ثم إن الرواية تتحدث عن نسائه جميعا رضوان الله عليهن، فلماذا لم نر فى الصورة ونسمع غير عائشة؟ أين رد فعل حفصة؟ أين رد فعل زينب؟ أين رد فعل أم سلمة؟ أين رد فعل ميمونة؟ وأين رد فعل بقية أمهات المؤمنين؟ بل أين رد فعل صفية بالذات، وهى يهودية، وكان ينبغى أن يكون لها تعليق على ما صنعه الساحر الموالس لقومها أو الذى هو منهم؟
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: