أغلقت مكاتب الاقتراع أبوابها كليا عند الساعة السادسة من مساء الأحد 6 مايو في تونس، لتنطلق عمليات الفرز اليدوي للأصوات في أول انتخابات بلديّة تنظمها البلاد بعد الثورة، كخطوة أولى من خطوات تنزيل الباب السابع من الدستور المتعلّق بالديمقراطية المحلية واللامركزيّة، انتخابات شهدت تنافسا بين آلاف القائمات المترشحة التي لم تتمكّن من تعبئة سوى ثلث عدد الناخبين المسجّلين الذي يتجاوز الخمسة آلاف ناخب.
مع انتهاء عمليات التصويت وانطلاق عمليات الفرز، بدأت تصدر تباعا استطلاعات الرأي التي أجريت لدى الخروج من مكاتب الاقتراع واتّفقت كلّها على فوز واضح لحركة النهضة، بأكثرية مقاعد المجالس البلديّة، يليها شريكها في الائتلاف الحكومي حركة نداء تونس، الذي فاز بأكثريّة المقاعد البرلمانية في آخر انتخابات تشريعية شهدتها البلاد نهاية سنة 2014.
وبنسب متقاربة وبفارق بعيد جدّا عن بقيّة القائمات الحزبية والائتلافيّة، تزعّم حزبا النهضة والنداء المشهد البلدي والمحلّي، بعد أن تزعّم الحزبان المشهد السياسي في البلاد منذ إعلان حركة النهضة التخلّي عن السلطة سنة 2014، وقبولها بالدخول في حوار وطني أفرز منهج توافق هو الأوّل من نوعه في الوطن العربي بين الإسلاميين والعلمانيين، يتم فيه إدارة الاختلاف بالحوار بعيدا عن منطق الغلبة والتنافي.
فوز ساحق لحركتي النهضة ونداء تونس بنحو نصف أصوات الناخبين ليوم الأحد 6 مايو 2018 بتونس، وفشل ذريع وواضح لبقيّة الأحزاب والائتلافات الانتخابيّة يعكس بوضوح السند الشعبي لمنهج التوافق الذي بات محلّ انبهار داخلي وخارجي كبير، مقابل لا شعبيّة واضحة لخطابات الضدّ التي بنت حملاتها الانتخابية بشكل أساسي على استهداف مخرجات الحوار الوطني والتوافق.
حدث فريد من نوعه في الوطن العربي بات تقليدا في تونس بعد الثورة يتمثل في التسليم بنتائج الصناديق الحرة والنزيهة، فقد خرج برهان بسيس مدير الشؤون السياسيّة لنداء تونس معلنا فوز حركة النهضة بفارق يتراوح بين 3 إلى 5 نقاط على حزبه، دون تشكيك في نتائج التصويت ولا يهمّ في هذا الموضع من يفوز بالمرتبة الأولى أو الثانية فقد خرج زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي نفسه معلنا انتصار نهج التوافق.
بشكل واضح وجّه التونسيّون رسالة إلى الداخل مفادها، أن لا مناص من التعايش والتعددية في مناخات من الحرية والديمقراطية، التي تكون فيها صناديق الاقتراع فيصلا مرفوقة برسالة أخرى إلى الخارج، مفادها أن التجربة الناشئة في البلاد ما زالت تسير نحو تحقيق ديمقراطيّة صلبة عبر تكريس نهج التوافق، بعيدا عن الانقلاب والإقصاء وغيرها من ممارسات النظام المستبد التي قامت ضدها الثورة ويجرّمها الدستور الجديد للبلاد.
رسالة ثالثة وجّهها الناخبون التونسيّون إلى كلّ خصوم ورافضي التوافق، ممّن يرفضون تواجد حركة النهضة في السلطة أو في المشهد السياسي برمته، وكذا ممّن يرفضون المصالحة وتغليب التشاركية والمصلحة الوطنية على المصالح الحزبية الضيقة تحت أي عنوان كان، بما في ذلك الدفاع عن الثورة، مفاد هذه الرسالة أنّ تونس لكلّ التونسيين وأن أصوات الإقصاء فيها معزولة ولا سند شعبيا لها.
حركة مشروع تونس وغيرها من الأحزاب التي انشقّت عن نداء تونس رافضة للتوافق وحزب آفاق تونس الذي غادر الائتلاف الحكومي رفضا للتوافق ومعهما التيار الديمقراطي الذي يرفض التوافق باعتباره مدخلا لعودة النظام القديم حسب تعبير قيادته، كلّها أحزاب فشلت في الترشح على أغلب الدوائر البلدية وأكّدت النتائج الأوليّة أنها معزولة فعليا وعمليا عن العمق الشعبي الذي اختار التصويت لغيرها.
في المحصلة لم تكن نسب الإقبال على مكاتب الاقتراع في المستوى المأمول في أوّل استحقاق بلدي في تونس منذ الثورة، غير أن الرسائل من وراء النتائج الأوليّة كثيرة ليس أقلّها تحديد طبيعة المنهج السياسي العام للإصلاح والتوافق من جهة وتحديد المشاريع الكبرى التي تقدّم تصوّرات لطبيعة المشاكل والهواجس لدى الشارع التونسي من جهة ثانية وهما تصوران يقدمهما حزبان كبيران في المشهد أمّا ما تبقّى فبالديمقراطيّة تحسم الأحجام الانتخابية والسياسية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: