استعير بلطف من الروائي العراقي غائب طعمة فرمان عنوان روايته "المرتجى والمؤجل" لاستشرف نتائج الانتخابات البلدية لا على مستوى الصندوق حتى لا نشارك في التأثير على النتيجة ولو بمثقال، ولكن على مستوى الآمال المعلقة على الهيئات البلدية التي ستفرز بعد يوم 6 من مايو 2018.
وهي آمال مؤجلة منذ سنوات سبعة، فقد تدهورت أوضاع المدن والبلدات في غياب هيئات بلدية نشطة وعارفة ولا تسمع إلا من يقول لك أكلتنا المزابل أو دخلت علينا الكلاب السائبة إلى البيوت، ولا يخلو الأمر من مشاهد طريفة، إذ يمكن للمرء أن يشاهد قطعان من الأغنام ترعى في المربعات الخضراء القليلة المهملة بالأحياء الراقية مثل حي النصر وأحياء المنازه، حتى إن الخنازير البرية نزلت من جبل النحلي لترعى مزابل حي النصر دون خشية من البشر الذي أنس لها كتعزية عن بؤس المشهد.
ماذا ينتظر الناس من المجالس المنتخبة طبقًا للدستور الجديد؟ أو ما المطلوب من الهيئات المنتخبة في المدى المنظور؟
مجلة الجماعات المحلية أفق جديد
تم يوم الخميس 26 من أبريل المصادقة على مجلة الجماعات المحلية بالأغلبية المطلقة وهذا خبر سار ولكن تنزيل أحكام المجلة سيكون عسيرًا في غياب بقية القوانين المفصلة للباب السابع من الدستور الذي يؤسس لخطوط عريضة في إدارة اللامركزية الإدارية، ما زال هناك عمل كبير ينتظر المشرعين في المدة القادمة لتمهيد الإدارة لتطبيق المجلة، لكن بداية الاستقلال المالي للبلديات بدأ وسيتسع وسيكون للمنتخبين فرصة لإثبات قدراتهم على الحوكمة الجديدة (الرشيدة) التي قالوا إنها برنامجهم الانتخابي.
الرهانات الكبرى بحسب الدعاية الانتخابية المسموعة والمقروءة هي إعادة الألق إلى وجوه المدن، فالجميع الآن مشغول بأولوية تنظيف المدن وإصلاح حفر الطريق ومد الإنارة العمومية المطفأة سيستغرق الترميم وقتًا وجهدًا ويستنزف قدرات كثيرة، ليس للبلديات مصادر كافية لها بعد، بحيث وجب تخفيض سقف التوقعات من المجالس المنتخبة مهما كانت مصداقيتها.
سيكون هناك بعض المعارك في إزالة البناء الفوضوي واستعادة الملك العمومي الذي تم الاستيلاء عليه في غفلة من القانون وكل ذلك سيأكل من رصيد الأحزاب الفائزة في أفق انتخابي قريب فإذا صمتوا عن المخالفات خسروا الجمهور المخالف للقانون وإذا نفذوا القانون خسروا الجمهور الراغب في تطبيق القانون، وهي حيرة سنراها على الشاشات ويعبث فيها الإعلام الفاسد بالجميع.
هناك إذًا معركتان كبيرتان: الأولى ذات طابع ترميمي لما هو موجود والثانية معركة مع الإدارة المركزية التي ستفقد قدرتها على مراقبة البلديات والتحكم فيها سياسيًا عن بُعد بواسطة الضغط الاقتصادي وهنا ستكون رهانات التجديد بمعناها التأسيسي المتوافق مع أحكام الباب السابع من الدستور.
بعض من المجلة الواعدة
يبدو أنه قد تم وضع نص قانوني غير مسبوق في تونس وربما سنسمع فخر التونسيين بهذا النص في المنطقة العربية كما فخروا بالدستور المتميز ذات يوم، فقد نصت المجلة الجديدة للجماعات المحلية في التوطئة على مبدأ التدبير الحر للشأن المحلي، وعلى الاعتراف للجماعات المحلية بسلطة ترتيبية وتمكينها من وسائل التصرفّ الحر وعلى مبدأ الاستقلالية الإدارية والمالية وعلى مبدأ التضامن وعلى مبدأ التعاون اللامركزي.
ونجد في التوطئة أن المبادئ الدستورية الجديدة تستوجب القطع مع التقاليد الإدارية (النصوص السابقة التي أدير بها الشأن المحلي مركزيًا) والانخراط في منظومة جديدة تقوم على اعتبار الجماعات المحلية "سلطة" فعلية تتمتع بالصلاحيات التي تمكنها عمليًا من تسيير شؤونها المحلية باستقلالية وعلى أساس تشريك المواطنين في اتخاذ القرارات وتحمل الأعباء وتقديم الخدمات الأفضل للمنظورين في نطاق ما يرسمه التشريع الوطني ضمانًا لوحدة الدولة وإعادة الشأن المحلي لأصحابه الحقيقيين، وبذلك يتم توزيع الاختصاصات بين السلطة المركزية والجماعات المحلية تجسيمًا للديمقراطية مع مراعاة وحدة الدولة".
لن يكون ذلك غدًا ولكن النص إشارة انطلاق وسيكون لكل فصل معركة مع القوى المحافظة في كل مفاصل الإدارة المركزية التي ستجد نفسها بلا صلاحيات كلما اتسعت صلاحيات المجلس المحلي أو البلدية.
الأمل التنموي في المستوى المحلي
سيكون من صلاحيات البلديات والمجالس المحلية والجهوية إنجاز مشاريع استثمارية ومعها صلاحيات التعاون مع جهات استثمارية داخلية وخارجية (تحت سقف السيادة الوطنية طبعًا)، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن أهل مكة أدرى بشعابها فسيكون البرنامج التنموي (الاستثمار) خاضعًا لمعرفة أهل كل منطقة بحاجاتهم وإمكاناتهم المتاحة، ولنأخذ مثالاً بسيطًا.
تونس بلد سياحي منذ الاستقلال وقد كان الاستثمار في السياحة يركز على السياحة الكمية في مناطق الشاطئ (الوطن القبلي والساحل وجربة) بينما أغفل السياحة الثقافية في المناطق الداخلية لأنها غير ذات مردود سريع بما أبقى الداخل التونسي مجهولاً وغير مستغل رغم الإمكانات التاريخية والتراثية الوافرة، كان الديوان الوطني للسياحة (التخطيط) والوكالة العقارية السياحية (تهيئة عقارية) يتحكمان في توجهات الاستثمار السياحي مركزيًا (مع شحنة كبيرة من الفساد الجهوي والسياسي) المجلة الجديدة ستعيد للجهات حقها في تقدير إمكاناتها والاستثمار فيها.
ونتوقع في غضون عقدين (على الأقصى) أن تتغير طبيعة السياحة التونسية من سياحة كم بشري بمردود سريع وضعيف إلى سياحة ثقافية وتنموية ذات مردود عالٍ وطويل الأمد يتم به رفد الميزانيات المحلية بعد أن كان مردود السياحة عامة ينصب في مناطق بعينها بما جعلها وجهات سياحية داخلية وخارجية أبقت دواخل البلد في ذل وظل.
وعلى غرار السياحة تسمح المجلة الجديدة بوضع خرائط استثمار صناعي وفلاحي تقرر جهويًا أي طبقًا لتقديرات الناس في مناطقهم لا طبقًا لتخطيط بيروقراطي فوقي يجهل الإمكانات وهنا سيكون فتح مبين على مستوى التنمية (ما زلنا على الورق)، رغم ذلك نقول إن خريطة الاستثمار في تونس ستتغير والخريطة الاقتصادية ستتعدل (الزمن ضروري لذلك).
لكن لن نبيع جلد الدب قبل صيده، فهناك الكثير من العمل في المستوى التشريعي كما في المستوى المحلي ولكن معارك التنمية انتقلت إلى الجهات والناس ليقرروا لأنفسهم، سنشهد معارك طاحنة على ترسيم حدود الأقاليم والمناطق وعلى الثروات الطبيعية خاصة على الأراضي الزراعية وسنشهد انتخابات كثيرة وربما نتدرب على الاستفتاءات العسيرة (المجلة تسمح بذلك).
وسنشهد وهذه نقطة تفاؤل غير حذر في المستوى السياسي والإداري ظهور النخب المحلية وتبلور الكفاءات المطموسة تحت الحكم المركزي، ونعتقد أن السنوات العشرة القادمة (عقدين من الزمن) هي سنوات ترسيخ أحكام المجلة التي ستنتهي بتوزيع السلطة واستقرارها وتكفل الناس بأمور دنياهم، لذلك سأكتب جملة متفائلة أخيرة رغم الفشل المخيم (الآن) ستكون المجالس ولأول مرة تحت مراقبة القاعدة الناخبة في جو تعددي لن يسمح فيه بالفساد أن يتواصل ولن يسمح فيه بالفشل والدمغجة التي اعتادها الناس من مسؤول بلدي محمي من المركز ويمكنه أن يبيع الأوهام ويقبض.
المرتجى كبير والمؤجل أكبر ولكن في وضع انتقال ديمقراطي عاجز عن الحسم مع مكونات الفساد والاستبداد سنعتبر إن إنجاز الانتخابات في حد ذاته مكسب، ثم نراقب ونأمل.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: