البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

تونس بين التأسيس والترقيع

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 2970



تلتهمنا الوقائع اليومية، ونحن نلهث خلف محاولة الفهم ونفهم بعضها ونبهت أمام الكثير منها ولا نجد الخيط المفسر لبعض ما يظهر لنا كترهات ينتجها مجتمع في حالة مخاض، ولكن نعود إلى أصل السؤال: هل يملك التونسيون مشروعًا لبلدهم؟ سنحتار هنا أيضًا من التونسيون؟ وهل هم على قلب رجل واحد فيما يتعلق بمصلحة الوطن ومكانته وسمعته في الخريطة المحلية والعالمية؟

تونس بلد يتهمه بقية العرب بالانسجام، فضحايا الصراعات الطائفية والمذهبية يرون الانسجام الظاهر، ولكن الصورة من الداخل ليست كما يراها ضحايا الصراعات البينية من العرب خاصة، فتونس ممزقة بين مشاريع كثيرة وليست متفقة على الحد الأدنى الديمقراطي الباني للأوطان الكبيرة.

سنرهق أنفسنا صعدًا في البحث عن أسباب هذه الاختلافات العميقة، ولكن المشهد الحاليّ يمكن أن يشير إلى الكثير ويعطي مفاتيح تفسير نرجو أن نتعقلها مع الوقت، فالوقت متاح للتأمل رغم الألم.

استيراد المعارك الأيديولوجية

بلد مفتوح على كل التيارات منذ القدم، عرف كل الأفكار وتبنى منها ونفر من بعضها، ولكن منذ نابليون (في مصر) بدأ البلد يتمزق بشأن المستقبل؛ كل تيارات التحديث مرت من هنا وراهنت على خلق بلد جديد بعقل حداثي غربي ولكنها فشلت أمام تماسك الهوية الراسخة منذ تعريب المنطقة وإسلامها والهوية المقاومة/المحافظة لم تقدم أطروحة تحديث محفزة من داخل ثوابتها، بل وقعت في الانغلاق وكرست الجمود ثم كان الاستعمار المباشر الذي حرف المعركة من معركة تحديث إلى معركة مقاومة.

والمقاومة رسخت الهوية العربية الإسلامية حتى كان الاستقلال الذي أعاد الخطاب إلى نقطة صفر واتخذ هوية البلد هدفًا للتهديم، وبعد ستين سنة من ذلك ما زال سؤال (من نحن؟) معلقًا يبحث عن إجابة تجمع الناس حول مشروع وطني.

موضة اليسار التي اجتاحت العالم وصلت تونس وجمعت شبابًا بعقل مختلف تبنى أكثر الأطروحات جذرية لكنه وللغرابة ظل تيار نخبة لا تتصل بروح الناس فانعزلت في شرنقة نخبوية تعمل بعكس ما تقول به اليسارية العالمية بل تستحل أجهزة الدولة لتقود معاركها التحديثية؛ فانتهى بها الأمر تيارًا أقليًا لا يطرح من القضايا إلا ما هو خلافي معاد لتراث البلد بأسلوب مغالطي يجعل الهوية نعتًا لتيار الخصوم السياسيين في حين يسقط من حسابه تغلغل العروبة والإسلام في روح الناس البسطاء، لقد كان مقتل اليسار الأيديولوجي في اغترابه الذاتي.

تيار العروبة نشأ في ظروف مماثلة لنشأة اليسار وكان خطاب الناصرية وخطابات البعث العربي معين خطاب مضاد للقطرية التي عملت الدولة على تكريسها لكن كما انتقلت بشارات القومية العربية إلى تونس انتقل فشلها وانحصر تيار العروبة في زاوية التغيير الفوقي ولم يمتلك وسائله العسكرية على خلاف بلدان الشرق العربي وهو الآن متقوقع على فقرة واحدة لا يكل عن ترديدها: لعن الإخوان المسلمين وتحميلهم سبب خراب الأمة.

الإخوان المسلمون وتفريعاتهم القطرية هم التيار الأيديولوجي الثالث الذي عمر المشهد وخاض حرب الأيديولوجيا، لم يخل خطابه من التكفير ووجد في العذابات الطويلة حجة على التمسك بأطروحاته التمامية فحوصر فيها وحاصر بقية التيارات بموقف لا يتزعزع حول أصالة في التراث ملك مفاتيحها وحده، مستندًا إلى تملك حق تأويل النص الديني، مقابل أو ردًا على تملك تيار اليسار والتيار القومي لنص (سردية) التقدمية والحداثة.

لم يخل خطاب التيارات الثلاث من فقرات تحرر سياسي ومقاومة ولكن وصلنا إلى الربيع العربي فانكشف المستور وتبين أن الجميع يتحرك من داخل مرجعيات جامدة ومتخلفة عن مرحلتها، وانكشف العجز عن المراجعة والتقدم نحو الديمقراطية.

لقد كشف جمود التيارات الثلاث أولاً تطابق مع جمود ما اصطلح عليه بالتيار الليبرالي الذي حكم تونس منذ إعلان الاستقلال والذي حكم في الواقع بأبشع الأساليب وأشدها بُعدًا عن الحرية جوهر الليبرالية، وكشف ثانيًا عجزًا مطلقًا عن التغير الداخلي وقبول الاشتراك في بناء الديمقراطية طبقًا لقواعد بناء الديمقراطية وهي معروفة ومكشوفة من خلال تجارب تحديث الدولة الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الأيديولوجيات التي أجهز عليها جدار برلين المنهار، هذا الجمود أدى إلى فشل عملية التأسيس التي جاء بها الربيع العربي.

تفريغ أطروحة التأسيس من مضمونها

التأسيس يتجاوز انتخاب مجلس تأسيسي ووضع دستور جديد، يمكن اعتبار ذلك حبة الكرز على قطعة الحلوى لكنه ليس قطعة الحلوى، فالقطعة الأصلية هي إعادة دولة جديدة بواسطة مجتمع جديد، نفهم التأسيس بصفته إعادة خلق جديد وأولى خطواته كسر القواقع الأيديولوجية وما تترتب عنها من مقاطعات سياسية (قلاع مسورة بإحكام) يعيش فيها كل تيار على حدة ويناصب البقية العداء.

كانت أمام التيارات الثلاث صورة مكشوفة لنتيجة صراعاتها التي استفاد منها النظام الحاكم وحرضها ومد في أنفاسها كلما بردت أو ظهرت بوادر تصالح بينها (حركة 18 أكتوبر) لكنها رغم الدرس المكتوب على سبورة فشلها المزمن منذ نصف قرن، أبدعت في إعادة إنتاج قلاعها الحصينة وطورت خطابها الحربي فيما بينها، متزودة بعناصر يمدها بها النظام المنهار نفسه كمسألة الإرهاب الإسلامي الذي كان مكشوفًا أمام الجميع أنه من صناعة النظام وتمويله وتدريبه.

سقط مشروع التأسيس تقريبًا وأفلح النظام القديم في التسلل بين تيارات ضحية فصارت جلادًا لذواتها، وإذا كانت تونس اليوم تعاني مشاكل معقدة فلأن تيارات الأيديولوجيا لم تتفق على التأسيس، وأهم ما كان يجب التأسيس عليه هو تجاوز أسوار الأيديولوجيا والاتجاه إلى بناء مشترك سياسي وثقافي على قاعدة تصفية تركة الدكتاتورية، وهو مطلب الثورة ومشروع التأسيس الذي رفع أولاً.

كان يجب أن يكون التأسيس في جوهره بالنسبة لهذه التيارات هو تحرير اليسارية من اليسار وتحرير العروبة من التيارات القومية وتحرير الإسلام من الإسلام السياسي، ولم يكن أحد مؤهل لذلك غير أدعياء هذه الأفكار ولكن لأنهم أدعياء يقيمون خارج المرحلة فقد سقطوا جميعهم وبقيت الثورة يتيمة تتقاذفها وسائل النظام القديم.

يجب خص الإسلاميين هنا وبالتحديد حزب النهضة بإشارة مهمة وهو أنه الأول الذي أعلن بداية خروج من القوقعة، ولكن لأنه يخرج وحده فقد وجد نفسه يخرج نحو النظام القديم هربًا من بقية التيارات التي تناصبه العداء ولم تقاسمه التأسيس، هو هروب من الرمضاء إلى النار، إذًا لا تأسيس إلا بخروج جماعي مبني على نقد ذاتي فعال أي مؤسس.

حبوب الأمل والهلوسة

تونس تصارع أدواءها القديمة من فقر ومرض وفشل تعليمي وتنمية غير متوازنة بين الجهات وثروات منهوبة من المستعمر القديم، هناك عدم اتفاق على البسيط الأبسط من المسائل، نحن نشهد استعادة فقيرة لماضي الصراع الأيديولوجي تحت الدولة الفاشلة إنها حالة من غياب الذكاء التاريخي (الوعي) الذي يجب أن يحضر في هذه المرحلة ليعيد للناس الأمل في دولة جديدة بشخصيات جديدة وأفكار جديدة، إنه لمن المؤسف أن نكتب هذا بعد سبع سنوات من الثورة التي اقترحت التأسيس فلم يلتحق بها أحد.

يطيب لنا أن نكتب تلك الجملة المتفائلة المقطوعة من سياق التاريخ بأن الثورة مأمورة وستحمل في تيارها جميع العاجزين عن التطور ولكن وعي اللحظة يؤكد أن ثمن موت القديم والشروع في التأسيس سيكون مرتفعًا جدًا وإنا نرى نذره لقد أعاد النظام القديم تماسكه بشكل مختلف وبواسطة أعدائه أنفسهم (هل كانوا أعداءه فعلاً؟) وعلى الثوريين (إن بقي منهم أحياء) أخذ هذا بعين الاعتبار في ترتيب معارك التأسيس الأمل.



 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، الثورة التونسية، الثورة المضادة، بقايا فرنسا، اليسار، اليسار التونسي،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 10-03-2018   المصدر: نون بوست

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
طارق خفاجي، أنس الشابي، مصطفي زهران، رافع القارصي، محمود طرشوبي، ضحى عبد الرحمن، د - مصطفى فهمي، د. أحمد بشير، حاتم الصولي، مجدى داود، د - عادل رضا، سلوى المغربي، د - محمد بنيعيش، وائل بنجدو، محمد شمام ، عبد العزيز كحيل، صلاح المختار، محمد عمر غرس الله، أ.د. مصطفى رجب، العادل السمعلي، سامر أبو رمان ، حسن الطرابلسي، صفاء العراقي، ياسين أحمد، رضا الدبّابي، كريم السليتي، أحمد الحباسي، فوزي مسعود ، فهمي شراب، فتحـي قاره بيبـان، د.محمد فتحي عبد العال، محمد العيادي، المولدي الفرجاني، أحمد ملحم، سيد السباعي، جاسم الرصيف، رحاب اسعد بيوض التميمي، أشرف إبراهيم حجاج، د - محمد بن موسى الشريف ، عواطف منصور، محمد الطرابلسي، رمضان حينوني، محمد يحي، أحمد بوادي، صباح الموسوي ، فتحي العابد، د - صالح المازقي، د- جابر قميحة، د. طارق عبد الحليم، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، صفاء العربي، رافد العزاوي، يزيد بن الحسين، د - الضاوي خوالدية، عبد الرزاق قيراط ، سعود السبعاني، د. خالد الطراولي ، كريم فارق، المولدي اليوسفي، يحيي البوليني، عمر غازي، د. صلاح عودة الله ، حسن عثمان، الهادي المثلوثي، مراد قميزة، عبد الله زيدان، إيمى الأشقر، إسراء أبو رمان، بيلسان قيصر، مصطفى منيغ، أحمد بن عبد المحسن العساف ، محرر "بوابتي"، عزيز العرباوي، محمد اسعد بيوض التميمي، عبد الغني مزوز، محمد الياسين، محمد أحمد عزوز، محمود سلطان، رشيد السيد أحمد، منجي باكير، الهيثم زعفان، د. عبد الآله المالكي، د - شاكر الحوكي ، إياد محمود حسين ، د. أحمد محمد سليمان، سليمان أحمد أبو ستة، نادية سعد، د. كاظم عبد الحسين عباس ، عراق المطيري، د. ضرغام عبد الله الدباغ، محمود فاروق سيد شعبان، صلاح الحريري، سامح لطف الله، د - المنجي الكعبي، د- هاني ابوالفتوح، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، علي عبد العال، سفيان عبد الكافي، د- محمود علي عريقات، أبو سمية، د- محمد رحال، حسني إبراهيم عبد العظيم، ماهر عدنان قنديل، خبَّاب بن مروان الحمد، سلام الشماع، تونسي، صالح النعامي ، الناصر الرقيق، علي الكاش، عمار غيلوفي، فتحي الزغل، عبد الله الفقير، أحمد النعيمي، حميدة الطيلوش، طلال قسومي، د. مصطفى يوسف اللداوي، محمد علي العقربي، د. عادل محمد عايش الأسطل، خالد الجاف ،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة