تلتهمنا الوقائع اليومية، ونحن نلهث خلف محاولة الفهم ونفهم بعضها ونبهت أمام الكثير منها ولا نجد الخيط المفسر لبعض ما يظهر لنا كترهات ينتجها مجتمع في حالة مخاض، ولكن نعود إلى أصل السؤال: هل يملك التونسيون مشروعًا لبلدهم؟ سنحتار هنا أيضًا من التونسيون؟ وهل هم على قلب رجل واحد فيما يتعلق بمصلحة الوطن ومكانته وسمعته في الخريطة المحلية والعالمية؟
تونس بلد يتهمه بقية العرب بالانسجام، فضحايا الصراعات الطائفية والمذهبية يرون الانسجام الظاهر، ولكن الصورة من الداخل ليست كما يراها ضحايا الصراعات البينية من العرب خاصة، فتونس ممزقة بين مشاريع كثيرة وليست متفقة على الحد الأدنى الديمقراطي الباني للأوطان الكبيرة.
سنرهق أنفسنا صعدًا في البحث عن أسباب هذه الاختلافات العميقة، ولكن المشهد الحاليّ يمكن أن يشير إلى الكثير ويعطي مفاتيح تفسير نرجو أن نتعقلها مع الوقت، فالوقت متاح للتأمل رغم الألم.
استيراد المعارك الأيديولوجية
بلد مفتوح على كل التيارات منذ القدم، عرف كل الأفكار وتبنى منها ونفر من بعضها، ولكن منذ نابليون (في مصر) بدأ البلد يتمزق بشأن المستقبل؛ كل تيارات التحديث مرت من هنا وراهنت على خلق بلد جديد بعقل حداثي غربي ولكنها فشلت أمام تماسك الهوية الراسخة منذ تعريب المنطقة وإسلامها والهوية المقاومة/المحافظة لم تقدم أطروحة تحديث محفزة من داخل ثوابتها، بل وقعت في الانغلاق وكرست الجمود ثم كان الاستعمار المباشر الذي حرف المعركة من معركة تحديث إلى معركة مقاومة.
والمقاومة رسخت الهوية العربية الإسلامية حتى كان الاستقلال الذي أعاد الخطاب إلى نقطة صفر واتخذ هوية البلد هدفًا للتهديم، وبعد ستين سنة من ذلك ما زال سؤال (من نحن؟) معلقًا يبحث عن إجابة تجمع الناس حول مشروع وطني.
موضة اليسار التي اجتاحت العالم وصلت تونس وجمعت شبابًا بعقل مختلف تبنى أكثر الأطروحات جذرية لكنه وللغرابة ظل تيار نخبة لا تتصل بروح الناس فانعزلت في شرنقة نخبوية تعمل بعكس ما تقول به اليسارية العالمية بل تستحل أجهزة الدولة لتقود معاركها التحديثية؛ فانتهى بها الأمر تيارًا أقليًا لا يطرح من القضايا إلا ما هو خلافي معاد لتراث البلد بأسلوب مغالطي يجعل الهوية نعتًا لتيار الخصوم السياسيين في حين يسقط من حسابه تغلغل العروبة والإسلام في روح الناس البسطاء، لقد كان مقتل اليسار الأيديولوجي في اغترابه الذاتي.
تيار العروبة نشأ في ظروف مماثلة لنشأة اليسار وكان خطاب الناصرية وخطابات البعث العربي معين خطاب مضاد للقطرية التي عملت الدولة على تكريسها لكن كما انتقلت بشارات القومية العربية إلى تونس انتقل فشلها وانحصر تيار العروبة في زاوية التغيير الفوقي ولم يمتلك وسائله العسكرية على خلاف بلدان الشرق العربي وهو الآن متقوقع على فقرة واحدة لا يكل عن ترديدها: لعن الإخوان المسلمين وتحميلهم سبب خراب الأمة.
الإخوان المسلمون وتفريعاتهم القطرية هم التيار الأيديولوجي الثالث الذي عمر المشهد وخاض حرب الأيديولوجيا، لم يخل خطابه من التكفير ووجد في العذابات الطويلة حجة على التمسك بأطروحاته التمامية فحوصر فيها وحاصر بقية التيارات بموقف لا يتزعزع حول أصالة في التراث ملك مفاتيحها وحده، مستندًا إلى تملك حق تأويل النص الديني، مقابل أو ردًا على تملك تيار اليسار والتيار القومي لنص (سردية) التقدمية والحداثة.
لم يخل خطاب التيارات الثلاث من فقرات تحرر سياسي ومقاومة ولكن وصلنا إلى الربيع العربي فانكشف المستور وتبين أن الجميع يتحرك من داخل مرجعيات جامدة ومتخلفة عن مرحلتها، وانكشف العجز عن المراجعة والتقدم نحو الديمقراطية.
لقد كشف جمود التيارات الثلاث أولاً تطابق مع جمود ما اصطلح عليه بالتيار الليبرالي الذي حكم تونس منذ إعلان الاستقلال والذي حكم في الواقع بأبشع الأساليب وأشدها بُعدًا عن الحرية جوهر الليبرالية، وكشف ثانيًا عجزًا مطلقًا عن التغير الداخلي وقبول الاشتراك في بناء الديمقراطية طبقًا لقواعد بناء الديمقراطية وهي معروفة ومكشوفة من خلال تجارب تحديث الدولة الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الأيديولوجيات التي أجهز عليها جدار برلين المنهار، هذا الجمود أدى إلى فشل عملية التأسيس التي جاء بها الربيع العربي.
تفريغ أطروحة التأسيس من مضمونها
التأسيس يتجاوز انتخاب مجلس تأسيسي ووضع دستور جديد، يمكن اعتبار ذلك حبة الكرز على قطعة الحلوى لكنه ليس قطعة الحلوى، فالقطعة الأصلية هي إعادة دولة جديدة بواسطة مجتمع جديد، نفهم التأسيس بصفته إعادة خلق جديد وأولى خطواته كسر القواقع الأيديولوجية وما تترتب عنها من مقاطعات سياسية (قلاع مسورة بإحكام) يعيش فيها كل تيار على حدة ويناصب البقية العداء.
كانت أمام التيارات الثلاث صورة مكشوفة لنتيجة صراعاتها التي استفاد منها النظام الحاكم وحرضها ومد في أنفاسها كلما بردت أو ظهرت بوادر تصالح بينها (حركة 18 أكتوبر) لكنها رغم الدرس المكتوب على سبورة فشلها المزمن منذ نصف قرن، أبدعت في إعادة إنتاج قلاعها الحصينة وطورت خطابها الحربي فيما بينها، متزودة بعناصر يمدها بها النظام المنهار نفسه كمسألة الإرهاب الإسلامي الذي كان مكشوفًا أمام الجميع أنه من صناعة النظام وتمويله وتدريبه.
سقط مشروع التأسيس تقريبًا وأفلح النظام القديم في التسلل بين تيارات ضحية فصارت جلادًا لذواتها، وإذا كانت تونس اليوم تعاني مشاكل معقدة فلأن تيارات الأيديولوجيا لم تتفق على التأسيس، وأهم ما كان يجب التأسيس عليه هو تجاوز أسوار الأيديولوجيا والاتجاه إلى بناء مشترك سياسي وثقافي على قاعدة تصفية تركة الدكتاتورية، وهو مطلب الثورة ومشروع التأسيس الذي رفع أولاً.
كان يجب أن يكون التأسيس في جوهره بالنسبة لهذه التيارات هو تحرير اليسارية من اليسار وتحرير العروبة من التيارات القومية وتحرير الإسلام من الإسلام السياسي، ولم يكن أحد مؤهل لذلك غير أدعياء هذه الأفكار ولكن لأنهم أدعياء يقيمون خارج المرحلة فقد سقطوا جميعهم وبقيت الثورة يتيمة تتقاذفها وسائل النظام القديم.
يجب خص الإسلاميين هنا وبالتحديد حزب النهضة بإشارة مهمة وهو أنه الأول الذي أعلن بداية خروج من القوقعة، ولكن لأنه يخرج وحده فقد وجد نفسه يخرج نحو النظام القديم هربًا من بقية التيارات التي تناصبه العداء ولم تقاسمه التأسيس، هو هروب من الرمضاء إلى النار، إذًا لا تأسيس إلا بخروج جماعي مبني على نقد ذاتي فعال أي مؤسس.
حبوب الأمل والهلوسة
تونس تصارع أدواءها القديمة من فقر ومرض وفشل تعليمي وتنمية غير متوازنة بين الجهات وثروات منهوبة من المستعمر القديم، هناك عدم اتفاق على البسيط الأبسط من المسائل، نحن نشهد استعادة فقيرة لماضي الصراع الأيديولوجي تحت الدولة الفاشلة إنها حالة من غياب الذكاء التاريخي (الوعي) الذي يجب أن يحضر في هذه المرحلة ليعيد للناس الأمل في دولة جديدة بشخصيات جديدة وأفكار جديدة، إنه لمن المؤسف أن نكتب هذا بعد سبع سنوات من الثورة التي اقترحت التأسيس فلم يلتحق بها أحد.
يطيب لنا أن نكتب تلك الجملة المتفائلة المقطوعة من سياق التاريخ بأن الثورة مأمورة وستحمل في تيارها جميع العاجزين عن التطور ولكن وعي اللحظة يؤكد أن ثمن موت القديم والشروع في التأسيس سيكون مرتفعًا جدًا وإنا نرى نذره لقد أعاد النظام القديم تماسكه بشكل مختلف وبواسطة أعدائه أنفسهم (هل كانوا أعداءه فعلاً؟) وعلى الثوريين (إن بقي منهم أحياء) أخذ هذا بعين الاعتبار في ترتيب معارك التأسيس الأمل.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: