كانت صدمة الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا في السنوات الأخيرة مؤثرة بشكل كبير في نظرة المواطن الفرنسي إلى الإسلام تحت تأثير الهجمات الإعلامية المنظمة التي سعت إلى هدفين اثنين: التأكيد على قابلية الإسلام للتموقع كديانة تشجع على "الإرهاب"، وتصوير التطرف الديني كخطر مستورد إلى الداخل الفرنسي لأسباب سياسية أو لارتباطات الإسلام "الفرنسي" بالخارج. والتغريد خارج هذين التصورين حملة "تآمرية" لا مجال لتقبلها في بلاد حرية الرأي والتعبير.
تلك بالضبط كانت جريمة متسابقة ذافويس منال ابتسام، التي لم "تقترف" أكثر من ترجمة إحساس كثيرين لم تتبدد شكوكهم في مصداقية الرواية الرسمية لجهات في الدولة فشلت في حماية الفرنسيين في مواجهة الهجمات وعوضتهم عن ذلك بشعارات أنا شارلي ومسيرات الجمهورية الموجهة للاستهلاك الإعلامي.
تحييد كل مؤثر أو مرشح للتأثير بأفكاره في الأوساط الإسلامية بفرنسا بل داخل المجتمع الفرنسي مفكرا كان أو مطربا أو فنانا ساخرا أو عارض أزياء صار أمرا ضروريا لتعبيد الطريق لما هو آت. كيف لا وقد أصبح مفهوم "الإرهاب الإسلامي" دارجا على لسان ايمانويل ماكرون تأسيا بسلفه فرانسوا هولاند كأول رئيسين فرنسيين يستخدمان المصطلح لا فرق بينهما وبين ما دأب عليه زعماء اليمين المتطرف منذ عقود.
فيلم (تعايش – 2017) للمخرج فابريس إيبوي.
خلال الحملة الترويجية للفرقة الموسيقية الجديدة (تعايش) المكونة من القس الكاثوليكي بونوا والحاخام اليهودي صامويل و"الإمام" المسلم منصف، يحضر الأعضاء الثلاثة لاستوديوهات إذاعة يهودية وأخرى مسيحية وثالثة موجهة للمغرب.تتواصل فصول النقاش بالإذاعة الثالثة (المسلمة) فيخرج منصف عن النص كما العادة إسوة بما فعله بخصوص موضوع المثليين واليهود في الحصتين السابقتين بما يؤكد أنه و"جماعته" الدينية غير قابلين للاندماج مع التوجه العلماني للدولة الفرنسية.
المذيع: كما تقول سيدى الحاخام صامويل فمن واجب ممثلي الديانات الثلاثة اللقاء ليس فقط خلال الأزمات؟
صامويل: بالضبط، من المهم أن نجتمع أيضا في لحظات الفرح وليس فقط في المآسي.
بونوا: تماما.. لا يجب أن نقع ضحايا للخلط بين الإسلام والإرهاب. هؤلاء ليسوا مسلمين.. إنهم برابرة وإرهابيون.
منصف: أوافق تماما خصوصا وأننا لا نعرف من هم الفاعلون حقا. في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وُجدت جوازات سفر المهاجمين تحت الأنقاض، وهو ما تكرر مع بطاقات الهوية في السيارات والمرايا العاكسة التي تتغير ألوانها بين الأبيض والرمادي (يتحدث عن سيارات استخدمت في الهجوم على شارلي ايبدو) وكلها مصادفات غريبة. كلنا يعلم أنها مؤامرة من الأجهزة المخابراتية الأمريكية.....
يجاهد نيكولا في غرفة البث لقطع الإرسال بينما يسترسل منصف في الحديث عن نظرية المؤامرة
وداخل شركة الإنتاج يتواصل الحديث بخصوص فشل الحملة الإعلامية للتعريف بالفرقة الموسيقية.
نيكولا: نحن المخطئون لأن حملتنا بائسة (موجها كلامه لمنصف).
منصف: لا داعي لاتهامي. أنا أصرح بما أعتقده صحيحا.
نكولا: وما هي الخطوة القادمة؟ هل ستتحدث عن رأيك في الحجاب وفي البوركيني؟
منصف: لم لا؟ والدتي تلبس الحجاب طوال حياتها ولا أرى مشكلا في ذلك.
بونوا: شخصيا.. أعتقد أن على الرجل، في مجتمع متحضر، أن يعرف حدوده بدل أن يفرض على المرأة أن تغطي نفسها.
منصف: ولم لا تقول ذات الكلام لزميلاتك الراهبات؟
بونوا: وما علاقة الراهبات بذلك؟ هل وجب علي تذكيركم أننا في دولة ثقافتها مسيحية.
صامويل: يهودية مسيحية.
بونوا: أبدا.. هي ثقافة مسيحية خالصة. ملوك فرنسا لم يكونوا يهودا على حد علمي.
يهودية مسيحية، هذه هي الهوية التي يراد لها أن تترسخ في أذهان الفرنسيين وما عداهما مجرد هوية "دخيلة" تهدد النسيج المجتمعي الفرنسي. التنوع مجرد شعار للاستهلاك، والتعايش لمن يقبل بالخضوع لقوانين وإن كانت علمانية فمبنية على ثنائية اليهودية والمسيحية المتسامحتين مع قوانين الجمهورية.
صار الحديث عن "إسلام فرنسي" بديلا عن الإسلام بفرنسا واحدا من القضايا الأساسية في السجال السياسي بالبلاد يتم استحضاره كلما دعت الحاجة إلى اقتناص الأصوات أو التخويف من الخطر الداهم على أبواب أوربا.
ولعل في السعي الحثيث للرئيس إيمانويل ماكرون، منذ اعتلائه سدة الحكم، إلى تقديم وصفة جديدة لإسلام فرنسي يسعى لإعادة تنظيم المؤسسات التمثيلية لمسلمي فرنسا والبحث عن طرق بديلة لتمويل بناء المساجد على أراضيها وتكوين أئمة داخلها بالشكل الذي يقطع ارتباط مسلمي فرنسا بجذورهم الأصلية أي بالإسلام. إنه سعي واضح لتكريس تدخل الدولة في تنظيم أمور العبادة لدى المسلمين على أراضيها بما يتعارض وقانون العلمانية لسنة 1905.
فالقانون يمنع الدولة من التدخل في شؤون تنظيم الأديان. لكن العلمانية "الجديدة" يمكنها التضحية بكثير من أسسها في مواجهة المد الأصولي و"الإرهاب الإسلامي".
لكن يبدو أن الهدف الأساسي من التحركات تلك هو تقديم الإسلام "دخيلا" على البلاد، والمسلمين أبعد ما يكونون على التعايش والاندماج. المساجد مجرد مفرخات للإرهابيين، والصوامع غير متوافقة مع الشكل المعماري، والحجاب أو اللحية رموز دينية تناقض علمانية الدولة وتخدش الفضاء العام وتؤشر على تطرف أصحابها. والنتيجة تكريس لقوالب مغلوطة تحولت ل"عقيدة" لا يرقى الشك إليها.
بعد النجاح الذي حققته الفرقة الموسيقية (تعايش) يحل أعضاؤها ضيوفا على برنامج تلفزيوني جماهيري. وأثناء الحديث يتدخل منصف.
منصف: لابد من توجيه التحية إلى نيكولا وصابرينا اللذين كانا وراء فكرة إنشاء الفرقة الموسيقية.
بونوا: نعم فبفضلهم تمكنت من ترميم كنيستي... وربما نتمكن مستقبلا من بناء كاتدرائية.
صامويل: وكنيس يهودي.
تتعالى التصفيقات من الجمهور الحاضر في الاستوديو.
منصف: ومسجد...
يعم صمت رهيب داخل الاستوديو.
هذا بالضبط هو المطلوب. أن يتحول الإسلام ورموزه إلى مدعاة للخوف يساعد عليه بالطبع من تقترفه أيادي بعض من أبنائه من جرائم وإرهاب.
طارق رمضان ومنال ابتسام أكثر نموذجين ممكنين لإسلام "حداثي" متشبع بقيم الجمهورية، فهما كما يقول رمضان "مسلمان أوربيان وأوربيان مسلمان". لكن فرنسا لا تقبل بمسلمين متحررين من قوالبها الجاهزة المعدة سلفا وتسعى لنماذج أخرى من قبيل السلفية "التائبة" هند عياري أو الإمام حسن الشلغومي، المدافع عن "إسلام فرنسي" يسميه إسلام الأنوار.
الإمام المثالي الذي تسعى فرنسا ليشكل واجهة "إسلامها" هو المتماهي مع قرارات أجهزتها الأمنية، التي توفر له الحماية البوليسية على مدار الساعة، والمبادر إلى زيارة إسرائيل ولو كان ذلك أياما فقط بعد عملية "الرصاص المصبوب".
هند عياري عنونت كتاب توبتها باسم "اخترت أن أكون حرة" ففتحت لها الأبواب مشرعة، ومنال وغيرها من نساء مسلمي فرنسا اخترن ممارسة حرية العيش والتعبير بشكل مختلف فسدت أمامهن نفس الأبواب.
"إمام" فيلم تعايش كان مجرد مطرب فاشل همه الأساسي احتساء الخمر وممارسة الرذيلة مع بائعات الهوى. لكن ذلك لم يمنع عنه حظوة "احترام" أبناء ديانته بمجرد أن وضع على رأسه طربوشا "دينيا". هذا ما يخيف فرنسا من ديانة اسمها الإسلام.
مجموعة من شباب الضواحي من المسلمين جالسون على السلالم المؤدية لمخل العمارة حيث يسكن الحاخام صامويل. يصل المنتج نيكولا بمعية "الإمام" منصف. بمجرد أن يرى الشباب منصف بطربوشه الأبيض، لزوم الشغل، يقفون له احتراما ويرمون بالقناني والسجائر التي يحملونها جانبا. يفاجأ منصف بالموقف لكنه يتمالك نفسه فيمشي بين الشباب مختالا.
شاب: السلام عليكم.
منصف: عليكم السلام... تخلصوا من قناني البيرة هذه (بلهجة الآمر وهو يركلها برجليه)، وأنت سيدتي لم تكشفين عن مفاتن صدرك؟ (وعندما حاولت تغطية جسدها طلب منها أن يفعل ذلك بنفسه فاستجابت طائعة)أنتظر زيارة منك لي بالمسجد.
يبتعدان عن المدخل.
منصف: هذا غريب.. أرأيت سلطة هذا الطربوش؟
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: