يصفونها غالبا بالشريك الاقتصادي وربما حتى السياسي الأول. ويقول التونسيون دائما إن علاقتهم بها «استثنائية وتقليدية واستراتيجية».
فكيف يمكن بعد ذلك أن نستبعد تماما أن يكون لفرنسا أي دور أو تأثير أو بصمة على مجرى الأحداث في تونس؟ أليس من السذاجة حقا أن يظن البعض أن باريس بقيت مثلا مجرد متابع خارجي عادي أو مراقب محايد في الخلاف الإماراتي التونسي الأخير؟
لكن إن افترضنا أنها قامت بالفعل بدور ما. فهل إن أقصى ما فعلته هو أنها خففت من جموح وجنون أصدقائها الإماراتيين، ونصحتهم ببعض التريث والهدوء فقط؟ أم أنها استطاعت أن تتخطى ذلك لتقود في صمت وبعيدا عن جلبة الإعلام، مسعى سمح بتطويق الأزمة التي نشبت أواخر العام الماضي بين البلدين العربيين، وجعلها تكبح بعضا من الخطط الإماراتية التي كانت تهدف لهز استقرار تونس؟ لا نعرف تفاصيل دقيقة أو كثيرة عما يمكن أن تكون قد فعلته باريس خلال الأسابيع والشهور القليلة التي مضت، لكن سيكون من المستبعد جدا أن تكون قد اكتفت بمقعد المتابع والمشاهد للأحداث التي كانت تجري على مرمى حجر من شواطئها الجنوبية.
فالثقل التاريخي والاستراتيجي الذي يشدها للضفة الأخرى، أقوى من أن يجعلها لا تأخذ بالحسبان كل ما يجري داخل تونس وحتى على أطرافها أيضا. ولأجل ذلك فلا أحد بإمكانه أن يتصور أن يكون صمتها الرسمي وعزوفها عن التعليق عما عرف بأزمة الطيران الإماراتي في تونس، ثم عن الأحداث التي حصلت في مستعمرتها السابقة مطلع هذا العام، تحت غطاء الاحتجاجات دليلا كافيا على أنها لم تمارس بالفعل، ومن وراء الكواليس، دورا ما في توصل الطرفين لما قدم صيغة لحل الأزمة، ثم في التأثير في خطة إماراتية معروفة لإرباك المشهد السياسي التونسي.
ما يعزز ذلك هو أن علاقة باريس بأبوظبي، التي وصفها متحدث باسم الإليزيه في نوفمبر الماضي، على هامش زيارة ماكرون الأولى للإمارات «بالوثيقة والمنتظمة والمتنوعة» تؤهلها أكثر من غيرها للقيام بمثل ذلك الدور وتجعلها قادرة على التدخل لدى أصدقائها الإماراتيين متى شعرت أن هناك خطرا على نفوذها التقليدي، أو تهديدا لمصالحها في منطقة، تعدها جزءا من المجال الحيوي لأمنها القومي.
لكن هل كان بإمكان الفرنسيين فعلا أن يقفوا بوجه الطموحات الإماراتية الجارفة في تلك المنطقة بالذات؟ وهل انهم كانوا على استعداد للتضحية بمصالحهم التجارية والاقتصادية الضخمة مع أبوظبي، حفاظا على استقرار تونس ونجاح تجربتها الديمقراطية الاستثنائية؟ ليست المعادلة على ذلك النحو بالضبط. فلسنا الآن أمام مفاضلة من ذلك النوع، رغم أن أكثر ما يجيده الرئيس الفرنسي الشاب هو إدارة المناورات التجارية والسياسية الصعبة. فقد تعلم جيدا فن التفاوض خلال مروره بمصرف روتشيلد الشهير، وبات مقتنعا أنه من مصلحة فرنسا الاستراتيجية والحيوية أن تحافظ على علاقاتها الجيدة بالإمارة الخليجية، من دون أن تمس في شيء من روابطها التقليدية بالدولة المغاربية.
ولعلنا عرفنا بعضا من تلك المهارة في اللعب على أكثر من حبل واحد في زيارته الأخيرة للإمارات حين لم يتورع عن إطلاق إشارتين متضاربتين لإيران، في الوقت نفسه، حين صرح في مقابلة مع صحيفة «الاتحاد» بانه «من المهم بالنسبة لنا مواصلة الحزم مع ايران، في ما يتعلق بأنشطتها الإقليمية وبرامجها للصواريخ البالستية». ثم عاد ليقول في المقابلة ذاتها «باننا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى منطقة سلام ولاعبين إقليميين يتحلون بالمسؤولية ويعملون من أجل استقرار الشرق الأوسط. ففتح جبهة إضافية لن يؤدي إلا لتفاقم التوتر وزعزعة استقرار المنطقة».
ولكن حتى خارج الموضوع الإيراني فهناك كما قال مصدر من قصر الإليزيه لقناة «فرنسا أربعة وعشرين» على هامش تلك الزيارة «مواضيع لا نكون متفقين فيها بالكامل» مثل الحرب في اليمن، حيث تشارك الإمارات في التحالف العربي ضد الحوثيين و»تدعو فرنسا لحل سياسي لأننا لا نؤمن بوجود مخرج عسكري». والأزمة الخليجية مع قطر، حيث تشجع باريس على «التهدئة والحوار» بحسب ما ذكره المصدر نفسه حينها. لكن هل يمكن أن تكون تونس أيضا نقطة خلاف فرنسي إماراتي أخرى؟
ما يعلمه الجميع هو أن ما ترغب به الإمارات، وحتى ما تسعى لتحقيقه بحسب ما أظهرته عدة تسريبات إعلامية هو تقويض الائتلاف الحاكم في تونس وفك الشراكة في السلطة بين من يوصفون بالعلمانيين أو بالحرس القديم، ومن يعتبرون إسلاميين معتدلين. ويكمن المشكل بنظرها في وجود حركة النهضة وبقائها في المشهد السياسي، حتى في ظل ما قامت به من تنازلات، وما أقدمت عليه من مراجعات لدحض كل المخاوف والشكوك الداخلية والخارجية نحوها.
وربما تقاسم الفرنسيون مع الإماراتيين جانبا من القلق والريبة من الإسلاميين ولكن الواضح أن الاختلاف بينهما يكمن بالأساس في طريقة التصرف مع ما تعتبره أبوظبي عدوا لدودا لها، وما تراه باريس خصما ومنافسا شرسا قد يهدد على المدى الطويل مصالحها. والمحدد الأكبر في ذلك هو إدراك باريس أنها الأقدر من الإمارات لا على معرفة تونس فحسب، بل حتى على معرفة حركة النهضة نفسها. وهو ما يجعلها تستبعد تماما كل فرضية لإقصائها بالأسلوب التقليدي الذي اعتمده بورقيبة وبن علي في السابق، أو باستنساخ التجربة المصرية في الانقلاب العسكري مثلا، وتفضل أن يتم بدلا من ذلك استنزافها سياسيا وإعلاميا وإبعادها عن صدارة المشهد السياسي بأقل التكاليف، وعن طريق صناديق الاقتراع إن كان ممكنا. وما يدفعها لذلك هو ليس فقط إدراكها للعواقب الوخيمة التي قد يسببها أي صدام أو استخدام جديد للقوة في طردها وإقصائها من الساحة، بل رغبتها أيضا في الحفاظ على بريق الديمقراطية التونسية، وتقديمها كنموذج ناجح يحظى بدعمها وإسنادها.
إنها ترى عكس الإمارات أن وجود ائتلاف حاكم بين النظام القديم والإسلاميين يمكن أن يكون مفيدا في التخلص من النهضويين في وقت لاحق، وإنه قد يكون مصيدة تطبق على طموحاتهم وتجعلهم يظهرون بنظر التونسيين فقط مجرد حماة لشبكات الفساد لا غير. أما كيف أقنعت باريس أبوظبي بكل ذلك؟ ربما كان المأزق الإماراتي فيما عرف بأزمة الطيران مع تونس هو المدخل الأفضل لفرنسا حتى تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. فقد منحها الفرصة حتى تقدم نفسها للإماراتيين كوسيط نزيه وموثوق يشاطرهم العداء والرفض لحكم الإسلاميين، ومكنها في الوقت نفسه أيضا من أن تظهر أمام التونسيين كشريك حقيقي ومدافع صلب عن بقاء واستمرار تجربتهم الديمقراطية الغضة.
لكن هل نجح الفرنسيون في إفهام أصدقائهم الإماراتيين أن التسرع لن يكون مجديا ومفيدا في تحقيق الغاية المشتركة للطرفين؟ هذا ما لا يعرفه أحد الآن، وما لن يقوله بالتأكيد مانويل ماكرون غدا الخميس في زيارته الأولى لبلد سيصف حتما علاقات فرنسا به «بالاستثنائية والتقليدية والاستراتيجية»، مثلما فعل كل أسلافه السابقين.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: