في زمن قريب سيطلب الإماراتيون من تونس خبراء في بناء المؤسسات الديمقراطية مثلما طلبوا منها ذات يوم خبراء في بناء المؤسسات التعليمية والبرامج والبيداغوجيا وهذه ليست عِرافة أو كهانة ولكنه مسار تحديث انطلق بسرعات مختلفة سبقت فيه تونس بأشواط وهي تسبق الآن في مجال بناء الديمقراطية وهذا هو منطلق الخلاف وجوهره.
إن ما يجري بين البلدين الآن هو حديث كاشف إلى أن التحديث العمراني بدون مؤسسات ديمقراطية يخدع المتحدثين عن التقدم والرقي ففارق العمران لا يغطي فارق النضج الديمقراطي وبهذا سنقرأ الواقعة ونحاول تبيان مصدر الخلاف وننظر في مسارات التحديث لنجيب عن سؤال بسيط أيهما أبقى للمستقبل عمارة الفكر أم عمارة الإسمنت.
الإمارات وتونس: ليست زوبعة في فنجان
يوجد شيء غامض خلف القرار الإماراتي وهذا الغموض سمح باختراع تأويلات لا حصر لها ولكن لا تفسير أشفى الغليل ودل على طريق لفهم ما يجري. لذلك بدت لي كل الأخبار متساوية في قلة الأهمية وعليه وجب العودة إلى تحليل مسار الاختلاف بين البلدين ليس في مجال السياسة الآنية فقط بل في المنشأ والمآلات الجذرية لبلدين تجمعهما فقط العضوية في جامعة الدول العربية وربما التقي بعض مواطنيهم في موسم الحج أما الجوهر فمختلف تماما ومنذ قرون عديدة.
ودون أن ندخل في المناكفة السائدة هذه الأيام بين بعض التونسيين الغيورين على بلدهم وبين بعض المدونين الإمارتين الذين يمنّون على العالم المال والعمل، فإننا نختصر ثم نفسر تونس دولة والإمارات كيان سياسي ما قبل الدولة ولم يرتق بعد إلى دولة يمكن قراءة أفعالها بعلم الاجتماع السياسي. وشكل العمارات والأبراج لا يصنع كيانا سياسيا وإنما فندقا على طريق سفر القوافل فلا فرق بين ترانزيت المطارات والمبيت ليلة في خان على طريق الحرير القديم ودفع معلوم الإقامة ووجبة العشاء لصاحب الخان.
مسار التحديث المؤسساتي مقابل بناء الخان.
الدولة التونسية قديمة في وجودها وقد راكمت الكثير من التراث الفكري والسياسي من روافدها المختلفة. تعرضت إلى نكسات سياسية كبيرة وخضعت للاستعمار المباشر وعانت الذل والهوان ولكنها في كل المراحل كانت تراكم تجربة وتحدث نفسها وترتقي لتكون دولة في عصرها.
وكان التعليم الحديث رافعة تحديث قوية حولت البلد إلى مصدر خبرات. تجربة التحديث التي انطلقت منذ أكثر من قرنين ورغم النكسة الاستعمارية فإنها لم تتوقف بل تعلمت من المستعمر نفسه فنون الزارعة والصناعة بما جعل البلد ينتج غذاءه ويصدر فوائض.
في المقابل ولدت الإمارات من ثروة النفط ووضعت نفسها على طريق التجارة الدولية محطة في موقع استراتيجي وسمح لها ذلك بمراكمة ثروة كبيرة حولتها رغم قلة العدد إلى فاعل محلي مؤثر ولكن هذا الفاعل لا يتحرك في الساحة كدولة إنما كمجموعة من المغامرين الذين لا يتحلون بأية أخلاق سياسية مما يجعلهم أقرب إلى العصابة المنفلتة في العالم تخرج للغزو ثم تعود إلى مستقرها المنيع.
ليس معنى هذا أن البلد لم تعرف تحديثا بل هي شكلا في قمة الحداثة المادية ولعلها معماريا من أعاجيب الدنيا السبع ولكن ماذا داخل العمارات العالية؟ لكن ليس للبلد مؤسسات تحول الثراء المادي إلى وجود دائم في التاريخ. لذلك يظل ثروة قابلة للنقل إلى أي مكان في العالم بكبسة زر.
للجغرافيا أحكامها في تدبر الغذاء ولكن ليس إنتاج الغذاء وحده كاف لتكون دولة يمكن إرسال الأبناء إلى أكبر مؤسسات تعليمية في العالم وهو ما يجري في الإمارات وللبلد نخبة متعلمة ولكنها نخبة من صناع المال مما يجعل البلد كله مملوكا لتجار ينسلون تجارا في فندق مرفه على الطريق ولذلك لم ينتبه من أصدر القرار بمنع التونسيات من ركوب طائراته إلى أنه يقوم بمخالفة قوانين دولية ما كان يمكنه تملك طائرة بدونها (وهو فعل من جنس الحصار على الطيران القطري) حيث مخالفة الشرعة الدولية للطيران المدني وهو ما يعيدنا إلى صورة العصابة المنفلتة في العالم والتي تعود للتحصن بالفندق في انتظار غزوة أخرى.
أي صورة الكيان ما قبل الدولة الحديثة الذي ردت عليه الدولة الحديثة عبر مؤسسات لا عبر تغريدات في توتير. الهجوم كشف أسلوب العصابة والرد كشف أسلوب الدولة والمعركة كشفت الفارق التاريخي في تجربة التحديث التونسية التي تنتهي الآن إلى بناء ديمقراطية وتنتهي بالإمارات إلى معاداة كل احتمال الديمقراطية في تونس.
احتمالات الديمقراطية التونسية يهدد وجود الإمارات كعصابة منفلتة قد تجد نفسها مضطرة ذات يوم إلى الدخول في معركة تحديث مؤسساتي تجبر رؤوس العصابات على فقدان مكاسبهم التي حصلوها بالبلطجة في المربع العربي والدولي القريب منهم.
الدولة ضد البلاطجة
جمع اليمنيون لفظ البلطجي على البلاطجة فكان أجمل في النطق من البلطجية وأعتقد أنهم كانوا يرون جيرانهم من البلاطجة فنادوهم بأسمائهم وهم الآن يحاربون من أجل طردهم وتحرير بلدهم فالبلاطجة احتلوا المكان (بمرتزقة مجلوبة) ويريدون تقسيمه لأن مشاهد المليونيات اليمينة في ربيع 2011 كشفت الفرق بين الدولة وإن كانت فقيرة وبين العصابة وإن كانت غنية.
ما فُعل باليمن يفعل بليبيا ويراد أن يفعل بتونس وقد فعل بمصر حيث في كل المواقع تظهر الدولة فتظهر العصابة لكسر احتمالات الديمقراطية ومعركة منع النساء التونسيات من الطائرات لا يمكن أن تخرج عن هذه المعركة ضد الديمقراطية.
الإرباك لفرض المعاركة الخاطئة وبث الشقاق في الموقف عبر شراء الذمم والرشى السياسية ثم التدخل السافر بحسب ما تتيح الجغرافيا. هذا أسلوب عصابة لا أسلوب دولة لها تراث في العمل السياسي ولها موقع في شبكة العلاقات الدولية القائمة (رغم كل الحروب) على القانون وعلى التخاطب الراقي بقنواته الدبلوماسية والمؤسساتية.
ثم تفصيل مهم في الأخير يمكن لجورج بوش أن يمارس البلطجة الدولية لأنه يملك وسائلها الفعلية ويمكنه ممارسة الظلم الدولي كرئيس عصابة مسلحة بالنووي ولكن تقليد حاكم إماراتي لجورج بوش في بلطجته الدولية يفتقد إلى عنصر مهم. فبوش يبلطج لصالح دولة مستقرة ولها شعب بينما يبلطج الأمير لنفسه ولمن يحميه لأن الأمير وإن افتقد للذكاء فإنه لم ينس أنه أضعف من أن يحمي نفسه لذلك يتمتع بالبلطجة ويدفع كلفة حراسته لبلطجي أقوى منه وهذه أكبر علامة على كيان ما قبل الدولة بل كيان ما قبل العصابة الحديثة.
وللتذكير فقط، نقول إن احتمالات الديمقراطية في البلدان العربية الحديثة تؤدي إلى فتح طريق القدس والتحرير بينما تخريب مسارات التحديث الديمقراطي تستديم الدكتاتوريات التي قامت واستقرت بصفتها بلطجية على شعوبها لصالح البلطجي الصهيوني. ويمكننا أن نرى بسهولة لمن يبلطج البلطجي الإماراتي .
رغم كل ألم الإهانة فإننا في تونس مستعدون لتعليم الإماراتي أبجديات الديمقراطية مثلما ما علمناه يوما كتابة اسمه على السبورة.. ذلك قدر المعلمين. أبناء الدول لا أبناء الكيانات!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: