حدث تاريخي مهم في تونس يوم 13 ماي 2017. مسيرة شبابية كبيرة ضد قانون الفساد تحت عنوان/شعار مانيش مسامح.(لن أعفو عن الفاسدين). تم التحشيد لها عبر مواقع التواصل وقادتها زمرة من الشباب المستقل عن الأحزاب والمتجاوز للإيديولوجيات والانتماءات الفئوية. لكن وقبل المسيرة وبعدها خاصة انطلقت حملة تشكيك في المسيرة وحجمها وقيادتها بل ذهب البعض إلى تجريمها والشك في نواياها. لذلك رأينا أن نعرض إلى المسيرة من زوايا مختلفة و نحاول فهم موقف التشكيك فيها ولمصلحة من يصب ولماذا.
مظهر شبابي جديد في ساحة الثورة
خلف القمصان الموحدة "مانيش مسامح" كانت وجوه الشباب. انطلقت المسيرة من أمام السفارة الفرنسية (تمثال ابن خلدون) وجابت الشارع الذي يختلف التونسيون في اسمه فهو عند البعض شارع الثورة وعند آخرين شارع الحرية وعند البورقيبي شارع بورقيبة. حيث انتهت أمام وزارة الداخلية ورمت البيض على تمثال بورقيبة لأول مرة منذ 60 عاما.
تركزت الشعارات المرفوعة على رفض قانون المصالحة الذي يحاول الرئيس منذ سنتين فرضه على البرلمان والنقاش العام كما أعلنت التضامن الصريح مع اعتصام منطقة الكامور (تطاوين /الجنوب) التي ترفع شعار "الرَّخ لا" وترجمتها لا للتراجع عن المطالب المشروعة.
هذا التجاوب الكامل بين الجنوب والشمال على مطالب اجتماعية بالأساس بقيادة شبابية جديدة وغير متحزبة شكل لوحة جديدة ومتميزة عما سبق من نضالات ذات طابع فئوي وحزبي. لذلك بدا لنا أن روحا جديدة مختلفة تسري في شارع الثورة وأن ميلادا جديدا ممكنا لكن هذه المرة خارج إطار فعل النخبة القديمة التي تآكلت في السنوات ما بعد الثورة في صراعات هووية هامشية مجّها الشباب ولم يعد يجد فيها صوته ومطالبه الفعلية.
لقد كان صوت الشباب أعلى وأوضح من خطاب الرئيس في أول الأسبوع وهو يناور متلعثما لتبرير القانون وتمريره بمساعدة شركائه السياسيين. كانت مسيرة الشباب ردا على الخطاب ولذلك من المنتظر أن لا تنتهي التفاعلات عند المسيرة فالمضاء والعزم الشبابي الذي عايناه يوم السبت(13/5) مؤهل للاستمرار والارتفاع والتصعيد وسنشهد حتما تطورات نضالية ربما يكون منها محاصرة البرلمان يوم يطرح القانون رسميا للنقاش.
محاولة اختراق المظاهرة الشبابية
لم يكن مفاجئا لأحد أن تظهر بعض القوى السياسية لركوب المظاهرة بتبني شعاراتها لفرض أجندتها على الشباب. لقد شاركت الجبهة الشعبية (يسار) في الدعوة إلى التظاهر في نفس المكان والتوقيت. وحضرت قيادتها محمية وأخذت ما يكفيها من الصور ولكن في وحدة شعارات الشباب ضد قانون الفساد رفع شباب الجبهة شعاراتها الفئوية ضد الإسلاميين (شعارات تعود إلى السبعينيات). غير أن الجديد في المشهد أن ذلك لم يدم طويلا بل حاصر شباب المظاهرة قيادة الجبهة فبانت أقلية وغطّى شعاراتها الفئوية فخرست أصواتها وذابت في الجمهور الذي أكد أنه أنهى المعركة مع الإسلاميين على أساس هويتهم بل نقل الخصومة السياسية معهم إلى الموقف السياسي فقط وسيكون للشباب موقف عبر الشعارات من الرئيس الذي اقترح القانون ومن حزب النهضة الذي لم يشارك في المظاهرة ولم يوضح موقفه من القانون بشكل نهائي.
نعتقد أن لم يعد للجبهة اليسارية من قدرة على اختراق التظاهرات وقد حاولت وفشلت يوم 13 وهذا مكسب ديمقراطي فرضه الشباب وسيبنى عليه الكثير. لقد نقل الشباب المعركة مع الإسلاميين من مجال الهوية إلى المجال السياسي المدني وهذه خطوة جبارة في تكييف الصراعات السياسية في تونس ستجعل الجبهة الشعبية اليسارية بدون برنامج نضالي ولن يبقى أمامها إلا التلاشي في الجمهور العام وكتم خيبتها الهووية.
ولعل هناك مؤشر آخر على هوان الجبهة الشعبية هو غياب اتحاد الشغل عن المظاهرة فلم يفرض الانطلاق من ساحة محمد علي (مقر النقابة) وكانت هذه من الملاحظات الهامة على مشهد يوم 13. فقد كان للنقابيين (بقيادة يسار النقابة طبعا) تقليد ركوب كل حركة معارضة لكنه هذه المرة اختفى من الصورة. فكان الشباب أخف حركة وأعلى صوتا ولم يضطر أحد إلى مجاملة "الاتحاد أكبر قوة في البلاد". قال البعض أن الاتحاد متواطئ مع الرئيس وقال آخرون أن النهضة اخترقته وهذا تخمين لم تعد أجندة النقابة هي نفس أجندة اليسار الكامن في مفاصلها وقد بدأ هذا ينكشف بداية من يوم 13. وقد نرى عليه أدلة أخرى في قادم الأيام.
النهضة حاضرة بالغياب
عارض حزب النهضة المظاهرة ودعا شبابه إلى عدم المشاركة. لكن رغم ذلك ظهرت وجوه شبابية نهضوية في الشارع يبدو أنها من الدوائر غير المنضبطة حزبيا. لكن الموقف الرسمي للحزب كان معارضا بل انطلقت عبر صفحات فيسبوك غير رسمية للحزب مسيرة تشكيك في النوايا واتهامات للشباب بلعب أدوار مشبوهة لصالح الجبهة الشعبية. حتى انحرف النقاش بعد المظاهرة هل أن المظاهرة كانت ضد القانون أم ضد النهضة. ويبدو أن وضع الضحية الذي تقوم ضده المظاهرات مريح للإسلاميين في النهضة. وهذا موضوع يستحق عودة لاحقا.
لقد اتضح أن حزب النهضة ينأى بنفسه عن تحركات الشارع ويرتب سياسته على العمل المؤسساتي فهو يقدم معارضة القانون من داخل البرلمان على معارضته بالشارع. لقد أعلن مجلس شورى الحزب أنه لن يقبل القانون بصيغته المقدمة للبرلمان وهي صيغة مخالفة بل متناقضة مع قانون العدالة الانتقالية. لكن مجلس الشورى ليس السلطة الأقوى داخل الحزب فقد سبق أن تناقضت مواقفه مع مواقف القيادة التنفيذية التي لها أجندة مختلفة. وقد بدأت تروج للقبول بالقانون مقدمة خطابا مختلفا عن السلم الاجتماعية وضرورة التضامن ضد الفوضى. ولذلك انطلقت صفحاتها الموالية للتنفيذي في لعن الشارع والتشكيك في الشباب المخترق .
هل يتناقض النضال في الشارع مع المعارضة والجدال البرلماني؟ هذا السؤال يزعج فئة من الإسلاميين اتضحت وجوههم يوم 13 على هامش المسيرة. ويبدو أن هؤلاء قد يقنوا (ولا نعلم حجتهم بعد) أن البلاد قد صارت إليهم وأن الحكم واقع بين أيديهم قريبا لذلك يرون في كل تحرك منفلت عن أجندتهم جريمة تشوش عليهم خطتهم في التهدئة حتى يسقط النظام ويجمعون فيئه في سلتهم لأننا لم نجد في الواقع من سبب يبرر معارضة تحرك شبابي غير متحزب أو على الأقل يخفى بوعي أجندته الفئوية لصالح أجندة وطنية عامة هي مقاومة الفساد.
الشباب يعطينا أملا أخيرا
سيكون من العسير استنطاق كل الأجندات فالكواليس الحزبية صارت رغم الانفلات الإعلامي عسيرة على الاختراق والأحزاب التي إن لم توظفنا لا تعطينا من أخبارها إلا ما نسترق لكن الشارع المفتوح قابل للقراءة.
يوجد مد جديد مختلف ويبعث على الأمل. لقد انتقلت روح الثورة إلى شباب ولد في الثورة وسيكبر بشعاراتها وهو يطور وعيه بوسائله الجديدة ويفرض أجنداته الشبابية التي تتجاوز فكر الجيل المؤدلج الذي تربى على العراك الأيديولوجي في الجامعة طيلة عقود الأيديولوجيا والصراع الهووي (يساري تقدمي ضد إسلامي رجعي) المعركة لم تعد هنا، لقد نقلها شباب جديد إلى معركة عدالة اجتماعية ضد فساد بقطع النظر عمن يقف مع الفساد ومن يقف في صف العدالة وهذه هي المعركة الصحيحة. لقد كانت مسيرة يوم 13 ماي تصويبا حكيما بفطرة الشباب لمبادئ الثورة وأجندتها تأخرت بعض الشيء بفعل مناورات جيل منتهي الصلاحية لكنها في الأخير شقت طريقها كالماء في الرخام. وسيكون لشباب 13 ماي أثر كبير في قادم الأيام. سيخوض صراعات مريرة ضد التوظيف وضد الاختراق وضد الزعامات العجولة التي تطل برأسها من داخله (وهي عادة تونسية) لكن تيار شباب 13 ماي كما يطيب لي أن اسميه سيجد سبله ويبني عملا سياسيا جديدا ينزل مطالب الثورة على الأرض ويجبر كل سياسي على تنفيذها ولو من وراء حجابه الحزبي السميك.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: