يبدو أن المشهد الحزبي التونسي منذ الثورة، وتحت مفاعيل الاستقطاب الثنائي الحاد الذي لم تفلح محاولات التوافق الجارية منذ مدة في الحد منه، مرشّحٌ إلى مزيد من التشرذم، خصوصا بعد أن فشلت أحزاب عديدة منافسة لحركة النهضة في إقصائها من المشهد السياسي، وعجزت أيضا عن بناء تحالفات ذات بال. فعلى خلاف كل التوقعات بأن رحيل حكومة الترويكا سيؤذن باختفاء "النهضة" ونهاية الإسلام السياسي جملة وتفصيلا، استطاعت "النهضة" ببراغماتيةٍ كثيرة يعاتبها عليها بعض قواعدها، فضلا عن حلفاء الأمس الذين تخلت عنهم، أن تذهب، على خلاف ذلك، إلى خصمها اللدود، لتشكيل حكومات متعاقبة منذ انتخابات 2014، ولعل أسهمها المرتفعة تدريجيا في تلك الحكومات، ومنها حكومة الوحدة الوطنية التي أوجدت حكومة الحبيب الصيد قبل أشهر قليلة، كانت ثمنا لهذا التوافق الذي ضمن استقرار البلاد السياسي، على الرغم من تواصل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
كان حضور "النهضة" في المشهد السياسي، والحكومي تحديدا، حتى ولو كان بعدد رمزي من الوزراء، مزعجا لعديدين من هواة الاستعداء، فبعضهم يتهم "النهضة" بأنها هي الحاكم الفعلي للبلاد، وأنها أيضا حدّدت من يحكم من حزب نداء تونس معها، حين انتصرت لشقٍّ على حساب آخر، وقد ساندت، حسب رأيهم، حافظ السبسي ابن الرئيس، في معركة كسر العظم مع بعض خصومه من مؤسسي "نداء تونس" وقياداته.
بعد مخاض عسير، ولدت جبهة الإنقاذ، وقد حرصت على استعادة اسم مكوّن سياسي، كان قد نشط في فترة "الترويكا"، وعمل على إسقاطها. وهي بذلك تعيد إلى ذهن التونسي فزّاعات الخطر الذي يحدق بالبلاد، والذي يسعى جاهدا إلى تعبئة التونسيين ضد "النهضة" تحديدا. ولكن على خلاف ذلك، لم تستطع جبهة الإنقاذ، هذه المرة، تعبئة الرأي العام، على الرغم من تصريحاتها المتشنجة التي صبت النار على زيت معجم سياسي يشتعل، من فرط منسوب الكراهية والتشنج منذ مدة.
يقف المتابع لجبهة الإنقاذ على هجانة تركيبتها، فقد جمعت أقصى اليسار وعتاة الليبراليين، إضافة إلى مكونات أخرى ذات توجهات عروبية و"دستورية". كما أنها جمعت أيضا بين أجيال مختلفة، فالأمين العام للحزب الاشتراكي، محمد الكيلاني، مثلا، وجه سياسي عريق، وكان قد سجن في ستينيات القرن الماضي، يقف اليوم في الجبهة نفسها مع رئيس حزب الاتحاد الوطني الحر، سليم الرياحي، الذي التحق بالعمل السياسي بعد الثورة قادما من عالم الأعمال، قبل أن يتمدد نفوذه إلى عالم الكرة. في هذه السلة الغريبة نفسها، تقف جماعة من أحد شقوق الحزب الحاكم، على غرار محسن مرزوق الذي أسس حزبا وحده، سماه حركة مشروع تونس، على الأرضية نفسه مع خصمه سابقا مدير الديوان الرئاسي، رضا بلحاج، الذي تم استبعاده هو أيضا على خلفية المشكلات الداخلية التي عصفت بالحزب الحاكم. والغريب أن مرزوق كان يتهم بلحاج بأنه كان وراء دفعه إلى الاستقالة.
يلتقي كل هؤلاء في سلة واحدة، متناسين خلافاتهم السياسية، وحتى الشخصية، مصرّين على المضي في جبهة إنقاذ يرجّح المتابعون للشأن السياسي أنها مرشحة للتفكك قريبا، لأسباب عديدة، نكتفي بذكر ثلاثة منها:
- الاختلافات السياسية والأيديولوجية بين مختلف مكونات هذه الجبهة التي لن تختفي إلا فترة قصيرة، لتعود أكثر ضراوةً في أقرب الفرص المقبلة، فالمواقف ستتباين من مسائل اقتصادية عديدة، على غرار: التداين، الاستثمار، صندوق التعويض، العدالة الانتقالية، المصالحة الوطنية.. إلخ. ولن تتجنب جبهة الإنقاذ هذا إلا إذا تخلت عن خلفياتها الأيديولوجية، وهذا غير ممكن في المدى القريب.
- غياب أي بديل عملي يجيب عن قضايا التونسيين الحقيقية: الشغل والتنمية والعدالة الاجتماعية بين الفئات والجهات، إذ لم تقدم الجبهة إلى حد الآن أي مؤشر حقيقي على قدرتها على تقديم حلول حقيقية، فكل ما سمعه الناس، سواء في مؤتمر التأسيس أو تصريحات رموزها في مختلف وسائل الإعلام هو أنهم اجتمعوا على استعداء "النهضة"، واعتبارها الحاكم الفعلي لتونس، ونسب كل شرور الأرض لها، فكأن برنامجهم الوحيد لحكم البلاد هو "لا للنهضة"، وهو شعار سطحي لأكثر من سبب، فحركة النهضة إلى الآن حازت حضورها مما منحته صناديق الاقتراع لها ولم يمن عليها أحد، على الرغم من كل محاولات التحرّش بها. كما أن التوافق السياسي، على الرغم من نقائصه وهشاشته، هو الذي جنب تونس مزيداً من الأزمات السياسية، وسيكون من الغباء السياسي إعادة إفشال هذا الأمر، قبل الانتخابات التشريعية المقبلة التي ستعطي خريطة جديدة للمشهد الحزبي وموازين القوى المتحكمة فيه.
- الطموحات الشخصية لبعض قيادات الجبهة، وهي مشروعة في ظل الاستحقاقات السياسية المقبلة، وصورة هؤلاء عن أنفسهم، فضلا عن مختلف الموارد الذاتية الحقيقية أو المتوهمة التي لن تفلح في كبح جماح هذا الشعور.
سيكون من المهم تجاوز حالة التشتت السياسي، وتوحيد القوى الحزبية في بلدٍ تجاوز فيه عدد الأحزاب حاليا 220 حزبا من أجل توحيدها، بما يجعلها وفيةً للمشهد السياسي والحزبي، حتى تكون ممثلة للخريطة السياسية الحقيقية التي تشكلت بعد الثورة، وتحديدا بعد انتخابات 2014، وتتضاعف هذه الأهمية إذا ما اعتبرنا أن تونس تحتاج إلى حركات سياسية قوية، من شأنها أن تعدل مشهداً سياسياً يكاد يتقاسمه لاعبان كبيران فحسب: "النهضة" و"نداء تونس"، غير أن بناء هذا القطب الثالث لا يقوم، في اعتقاد صاحب هذه السطور، على إحياء منطق الاستقطاب هذا ومعاداة "النهضة". يبدو أن هذه العملة غير قابلة للتداول مجدّدا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: