يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ألمٌ كبيرٌ ووجعٌ أصاب التونسيين والعرب أجمعين، مأتاه غيلة الشهيد محمد الزواري من جهاز الاستخبارات الصهيوني (الموساد)، وقتله بدم بارد، أمام منزله في مدينة صفاقس، يوم الخميس 15 ديسمبر/كانون الأول الجاري. لم يكن الشهيد قبل الواقعة علامةً بارزة في تونس، أو في خارجها، في بلاد العرب المختصّة في صناعة الرمزيات والزعامات، الحقيقية منها والوهمية، فلا هو لاعب كرة قدم موهوب أو فنان مشهور أو قائد سياسي خطيب كلوم أو وجه نقابي مألوف عند العموم، أو ناشط مدني مذكور، إلا في حدود بعض الأنشطة العلمية، في مجال هندسة الطائرات بدون طيار، والتي لم تكن تشدّ إليها اهتمامات العوام، فالعلوم في أوطاننا كانت دائماً في أدنى سلّم الأولويات، وفي خاتمة التراتبيات.
محمد الزواري وُلد لحظة استشهاده وعشية مماته رمزاً من رموز الإنسانية، ومناضلاً في سبيل فلسطين والأمة العربية، ومن أبطال الكفاح ضدّ الصهيونية، وأحد صناع ملاحم المقاومة الفلسطينية، الوطنية والقومية والإسلامية واليسارية، وتلك التي بدون هوية، بعد أن كشفت كتائب عزّ الدين القسام عضويته فيها منذ عشر سنوات خلت. طائرات الأبابيل التي ساهم في صنعها وتطويرها، وساعدت على تغيير توازنات القوة والرعب في العدوان على قطاع غزّة سنة 2014، مهما كان ذلك طفيفاً، شاهد على أن الشهيد كان عنوان قضية، اسمها فلسطين، مراجعها الدينية والحضارية ستبقى قدس العرب والمسلمين والمسيحيين، إلى أبد الآبدين، طبيعتها ميتا- قُطرية، لا تعترف البتة بالحدود بين الدول العربية.
روت دماء الزواري الأرض التونسية، لتغسلها وتطهّرها من أدران الصهيونية، واختراقاتها للدولة الوطنية، ومنظومتها الأمنية، وأنسجتها المدنية، وأحزابها السياسية، وشبكاتها الإعلامية التي ترسّبت فيها على مدى الأزمنة والسنين.
كتب، من قبل، المؤرخ التونسي الهادي التيمومي عن النشاط الصهيوني في تونس منذ 1897 وإلى 1948. وبعد ذلك، أظهرت الوقائع عمق هذا التغلغل إبّان فترات حكم دولة ما بعد الاستقلال، حين جنّدت الاستخبارات الصهيونية عملاء لها، وجمعت المعلومات الضرورية، عن منظمة التحرير الفلسطينية، في منطقة حمام الشط في ضاحية تونس الجنوبية، لتقصفها سنة 1985 بدون هوادة في آخر سنوات الحقبة البورقيبية، مستهدفةً زعامات المنظمة الذين آوتهم تونس سنة 1982 بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، وكذلك فعلت في أول أيام الفترة البنعليّة، مع القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد)، مهندس المقاومة المسلّحة والانتفاضة الفلسطينية، حينما اغتالته سنة 1988 في ضاحية تونس الشمالية، على مرمى حجر من قصر السيادة الرئاسية.
وفي ظلّ الثورة التونسية، نما وتغلغل تيار التطبيع الموالي للصهيونية، مستفيداً من مناخات الحرية، في مؤسسات الدولة التونسية، بعد أن انفتحت له البلاد على مصراعيها، وباتت له شركات خدمية، ومؤسسات اقتصادية، ومراكز بحثية، ومنابر إعلامية، وكوادر جامعية، وشبكات استعلامية، وتعاون، وروابط، وصفقات، ومؤتمرات علمية احتضنتها مؤسسات كبرى وأخرى أكاديمية، وأبواق علا صوتها هنا وهناك، تخلط، عن قصدٍ، بين اليهودية والصهيونية، لتمرير هذه بتلك.
وقد شاهدنا كيف زكّى المجلس الوطني التأسيسي، وهو ثمرة نضالات الطبقة السياسية والحركات الوطنية والتنظيمات الثورية الاحتجاجية، سنة 2014، وزيرة السياحة في الحكومة التكنوقراطية التي كانت تفتخر بزياراتها المتكرّرة للدولة العبرية، حتى إنها نعتت بني جلدتها من التونسيين بالعنصرية، على خلفية مواقفهم المناهضة لزيارات "الإسرائيليين" الصهاينة إلى جزيرة جربة في محجّة الغريبة اليهودية السنوية، ونزولهم في الموانئ التونسية بجوازات سفر الدولة العبرية، في أثناء مشاركتهم في الرحلات الجماعية التي تنظمها كبرى وكالات الأسفار العالمية.
كما رأينا كيف أدت انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية، إلى صعود فريق حكم، سارع إلى تعيين وزير خارجية كُلف، في الماضي القريب، بمهام رئيس مكتب رعاية مصالح الجمهورية التونسية في تلّ أبيب، طبقا للأمر عدد 621 لسنة 1996 المنشور في جريدة الرائد الرسمي للبلاد التونسية، عدد 32 المؤرخ في 19 أبريل/نيسان 1996، بكل ما يعنيه هذا التمشي من ارتباطات ومصالح وعلاقات وولاءات خفية وعلنية مع دولة "إسرائيل" والمنظمة الصهيونية العالمية ولوبياتها في الدول الأوروبية، وفي الولايات المتحدة الأميركية. وقد بلغ الأمر في ظل ولاية وزير الخارجية التونسي الحالي الذي تعلّم الصناعة الدبلوماسية في غرف الظلام في تل أبيب، أن استُقبل في تونس بصفة سرّية في شهر أغسطس/آب من السنة الجارية عضو الكنيست الصهيوني عن حزب الليكود، أيوب قرا، وصاحب القولة الشهيرة "أنا وطني إسرائيلي وصهيوني متحمس"، والمطالب بقصف غزّة بألف صاروخ، في مقابل كل قذيفة تسقط على "إسرائيل"، والداعي إلى قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، ونائب وزير التعاون الإقليمي "الإسرائيلي" الذي أصدر مكتبه بيانا نشره موقع بانيت وصحيفة بانوراما الصهيونيين في 5-8-2016 جاء فيه: "بموجب حديث نائب الوزير أيوب قرا، أنه يعمل جاهداً للحصول على علاقات دبلوماسية مع تونس، والنهوض قدما بهذه العلاقة كما كانت في الماضي في العام 1977، نائب الوزير أضاف: أجريت فحوصاتي، ووجدت أن الجانبين متعطشان لبناء علاقة ودية وطيدة، وخاصة في موضوع السياحة بين البلدين. نائب الوزير صرح أنه زار تونس، في اﻵونة اﻷخيرة، ولم يكشف النقاب عن مضمون زيارته ﻷسباب أمنية، إلا أنه قال إنه على علاقة مع شخصيات رفيعة المستوى تونسية".
نال محمد الزواري شرف الشهادة في أعلى تجلياتها وإشراقاتها، لكن قتله أماط اللثام عما يتخفّى ويعتمل وراء الأكمة، من مؤامراتٍ صهيونية على تونس، من الدولة العبرية التي تصنف الدولة التونسية من الأهداف اللينة الرخوة التي لديها القابلية للاختراق والتغلغل، وتجنيد العملاء اليسير تجنيدهم بأقل الأثمان، كما أظهرت ذلك التحقيقات الأمنية مع الضالعين في جريمة الاغتيال، ممن أوقفهم الأمن التونسي واحتجزهم لفائدة التحقيق.
عاد الانفتاح الذي أبدته الحكومات التونسية المتعاقبة على الأنشطة "الإسرائيلية" المختلفة، بمسميات شتى، على التونسيين، بالوبال والقتل والاختراق الأمني، وتحويل تونس إلى مرتع للمخابرات الصهيونية، فقد أفاد مركز يافا للبحوث والدراسات، في تقرير له صادر سنة 2012، بأن جهاز الموساد الصهيوني، جدّد تمركزه في تونس، وأعاد هيكلة نشاطه بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، مجنداً أكثر من 300 عنصر من المخبرين، ومشكّلا ثلاث خلايا له في كل من العاصمة تونس وسوسة وجربة، تهتم الأولى بالوضع الداخلي ومواقف الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والإعلامي من قضايا التطبيع والتحولات السياسية وقضايا السلطة في تونس، وترصد الثانية وضع الجزائر، وتعتني الثالثة بما يجري في ليبيا.
تفسر كل هذه المعطيات ضعف موقف السلطة التنفيذية، برأسيها الحكومي والرئاسي، من اغتيال الشهيد محمد الزواري، كما تفسر الحجم الكبير من الاختراق الصهيوني لتونس، وأثره الجلي في القرارات السياسية، والاختيارات الاقتصادية والمالية، هذا وإن ما خفي كان أعظم.
اعترف بحادثة الغدر التي قامت بها المخابرات الصهيونية على الأرض التونسية، وزير الدفاع الصهيوني، أفيغدور ليبرمان، قائلا "إنه إذا ما قُتل شخص في تونس فمن المفترض ألا يكون نصيرا للسلام". وأضاف أن إسرائيل تفعل ما يجب القيام به للدفاع عن مصالحها، وتغطيتها مباشرةً من موقع الجريمة من القناة العاشرة الصهيونية، وهي حادثة تعطي الفرصة للحكومة، وللبرلمان، بوصفه ممثل الشعب، لسنّ قوانين حامية، تجرّم التغلغل الصهيوني والأجنبي في تونس، وزجر سلوك من ينخرط في مثل أنشطة كهذه من التونسيين، حماية للسيادة الوطنية، ودفاعا عن الدولة التونسية التي مكّنتها هذه المناسبة، على ما حملته معها من أوجاع، من أن تعالج وضع الجهاز العصبي لمؤسساتها الأمنية والاستعلامية الذي أصابه تلف كثير منذ أواخر سنوات بن علي، بفعل الاختراق الخارجي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: