على غرار ما كان متوقعاً، انقسم الرأي العام التونسي، وهو يشاهد سقوط مدينة حلب في يد النظام السوري، وهي التي عانت من حصاره وبراميله، ما لم تعرفة مدنٌ في أفظع الحروب، كما عانت أيضاً من جماعاتٍ دينية متشدّدة وأمراء حربها التي لم تفسد بهاء حلب، بل أفسدت الثورة السورية برمتها، حين شوّهتها ونفرت قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والدولي، حتى فقدت، أو تكاد، في تقديرنا، أفقها الإنساني الرحب. لسنا بصدد تفكيك العوامل الداخلية والخارجية التي أدت إلى هذا الوضع المأساوي المحزن وانقلاب أوساط مهمة من هذا الرأي العام العربي والدولي تجاه ما حدث في سورية. ولكن، علينا أن نستحضر أن هذا الأمر لم يكن وليد اللحظة، بل كان نتيجة مسار متدرّج، ربما يعود إلى لحظة اندلاع الثورة وحتى سقوط مدينة حلب، أهم معقل للثورة، ظلت تفاخر به وتشحذ بها الهمة والعزم، ذلك أن هذا الانقسام الحاد الذي يبدو غريباً ومفارقاً لتونس، وهي التي قدحت الثورات العربية.
كان يفترض في تونس أن تحتضن شقيقتها الثورة السورية، وقد ألهمتها، شئنا أم أبينا، "إسقاط النظام". ولكن، حدث خلاف ذلك، فقسم لا يستهان به من الرأي العام التونسي ينقلب على عقبيه، ويناصب العداء للثورة السورية، بل وتتشكل وفودٌ من المجتمع المدني، لمساندة النظام السوري، ويحج إليه بعض نواب مجلس نواب الشعب، كما لا تخفي عدة محطات إعلامية مساندتها المطلقة للنظام، حتى وهو يرتكب تلك المجازر البشعة، ويصب جهنم المنفلتة من البراميل الطائرة في سماء تلك البلدات، سواء رمتها طائراته أو الطائرات الروسية.
علينا أن نعود إلى بدايات حكم الترويكا في تونس، أو حتى ما قبلها، حين بدأ التعاطف مع الثورة السورية يغمر الشارع التونسي، من دون تحفظ أو من تصريحات الزعماء السياسيين، على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم. ولعل أهم حدث كان آنذاك استقبال تونس مؤتمر أصدقاء سورية، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين تونس وسورية، وطرد السفير السوري. وقد رافق ذلك التحاق بعض الشباب التونسي بالجماعات المقاتلة في سورية، بل وتصدّرهم، بحسب أخبار وتقارير غير مؤكدة، عدد المقاتلين، وربما شوّه بعضهم من هؤلاء التونسيين أنفسهم الثورتين، التونسية والسورية معاً، من خلال ما نشرته وسائل التواصل الاجتماعي من جرائم بشعة، ارتكبوها في حق مدنيين وجنود سوريين، ما يعد انتهاكاً، حتى لقوانين الحرب.
ولكن، مع تصاعد العمليات الإرهابية التي انفجرت في تونس بشكل لافت، وحصدت مئات الضحايا منهم، مدنيين أبرياء وأبناء المؤسسة الأمنية والجيش التونسيين، فضلا عن السياح، وتزايد الخطر الإرهابي الداهم من الحدود الليبية، تنامى رعب حقيقي من كل الجماعات المسلحة، بما فيها الجماعات العلمانية التي تقاتل النظام السوري، على غرار الجيش الحر، علاوة على أن التونسي، تحت ضغط الضيق اليومي لمعاشه بفعل الأزمات الاقتصادية الحادة والرهاب الذي أصابه من فرط العمليات الإرهابية تلك، لم يعد معنياً بتتبع التفاصيل السورية، لتمييز تلك الفصائل الكثيرة والمعقدة، وهو الذي ضاق ذرعاً بالتشتت السياسي المدني في بلده، كما أن خفوت صوت الاعتدال والمقاومة المدنية والسلمية في سورية قد أصاب وعيه السياسي في الصميم.
ظل الانقسام السياسي الحاصل بين النخب، وأساساً بين مخيمي الإسلاميين والعلمانيين، خصوصاً بعد انتخابات سنة 2013، مع تنسيباتٍ طفيفة، ماثلاً ومحدّداً في انشطار الرأي العام وانقسامه تجاه سقوط حلب، إذ ظل الإسلاميون وقوى حزبية أخرى، على غرار التيار الديمقراطي، منتصرين للثورة السورية، مصدومين من سقوط حلب، في حين ظلت القوى اليسارية (مع استثناءات قليلة)، ممثلة في الجبهة الشعبية وحزب المسار وغيرهما من الفصائل العروبية الأخرى، محتفية بما أسمته تحرير حلب وإسقاط "المؤامرة الدولية" ضد "الممانعة"، وضد سورية خصوصاً.
ربما حدث هذا في أكثر من بلد عربي، فالثورة السورية لم تعد للأسف تجد إجماعاً، على غرار ما حصدته في بداية اندلاعها، ذلك أن الانعطافات الخطيرة التي مرّت، خصوصا ذات العلاقة، بتسلحها أولاً، والتفاف الجماعات الإرهابية عليها ثانياً، فضلا عن التلاعبات الإقليمية الخطيرة التي وظفتها، وتشرذم قياداتها وتناحرهم، أفقدها كثيراً من التعاطف والتأييد، حتى داخل مجتمعات ثورات الربيع العربي.
كما أن الثورة السورية لم تسلم من أعداء الثورة التونسية نفسها، فهم الذين تحرّشوا بها وشوّهوها، مستغلين أخطاءً وانحرافاتٍ حدثت في مسار التحول الديمقراطي الصعب الذي استغلوه للعودة من جديد، وإن كان بأشكال مختلفة، فوجدوا من الثورة السورية، في مناسبات كثيرة، "أفضل مثال سيئ" للحرب الأهلية التي جلبتها الثورات العربية.
ربما يفلح النظام السوري في سحق ثورة شعبه، ولكن إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر.. ولو بعد حين، كما قال يوماً الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: