عندما أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، بيتر كوك، أن غارة جوية أمريكية قتلت القيادي البارز في تنظيم "القاعدة" أبو الأفغان المصري في ريف إدلب، لم تحفل كثيرا بسيرته المثيرة ودوره الكبير في وضع الأسس الفكرية والفقهية للجهادية العالمية من القاعدة إلى تنظيم الدولة الإسلامية.
ولم تقتصر الإثارة على الولايات المتحدة، فالجهادية العالمية لم تفسح لخبر مقتله مساحات تذكر، ولم ينعاه زعيم القاعدة أيمن الظواهري، ولا خليفة الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي، ولا أمير جبهة فتح الشام- النصرة أبو محمد الجولاني، فضلا عن منظري الجهادية وقادتها.
ذلك أن الرجل الذي تحفل سيرته بسجل حافل من المشاركة الجهادية والمواقف الحدية والمحطات الدرامية، كان شخصية انعزالية مثيرة، يعمل بصمت، ودون ضجيج. وكان يتعالى عن الدخول في سجالات وجدالات، ويكتفي بتقرير اجتهاداته المتطرفة مسلمات فقهية.
خبر مقتل أبو الأفغان المصري، اقتصر على إعلان مقتضب لوزارة الدفاع الأمريكية، إذ قال المتحدث باسم البنتاجون، بيتر كوك: "إن القيادي مصري انضم في الأساس لتنظيم القاعدة في أفغانستان، ثم انتقل إلى فرعها في سوريا لاحقا، وكانت لديه علاقات بجماعات إرهابية تعمل في أنحاء جنوب غرب آسيا، بما في ذلك جماعات مسؤولة عن مهاجمة الولايات المتحدة، وقوات التحالف في أفغانستان، وتلك التي تتآمر لمهاجمة الغرب".
وتناقلت بعض منصات وسائل التواصل الإجتماعي نبأ مقتله باقتضاب، فقد أكدت أن مقتله جاء عقب استهداف سيارته في ريف حلب الغربي على الطريق الواصل بين سرمدا وباب الهوى قرب مفرق قرية باتبو في ريف حلب، في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، باعتباره أحد شرعيي جبهة فتح الشام.
وأكد ناشطون مقتل شخصين آخرين كانا في سيارة "المصري" أثناء استهدافها أحدهما يدعى "أبو صهيب اللبناني"، وكانت قناة "حلب اليوم"، أفادت بمقتل ثلاثة أشخاص مجهولي الهوية، وتفحم جثثهم، إثر استهداف طيران التحالف الدولي سيارة بالقرب من بلدة باتبو، في ريف حلب الغربي.
على الرغم من معرفة الجهاديين لأبي الأفغان المصري وشخصيته، إلا أن كنيته الأشهر التي عرف بها ووقع كتبه بها هي أبي عبدالله المهاجر، وفي الوقت الذي شكلت كتاباته السلطة المرجعية لتنظيم الدولة الإسلامية، واعتمدها في تكتيكاته القتالية المميته.
إلا أن المهاجر عندما قتل كان في صفوف "جبهة فتح الشام- جبهة النصرة سابقا"، ولكنه مع ذلك كان في برزخ بين تنظيم الدولة والقاعدة والنصرة في إطار مجموعة "خراسان"، فالرجل الإشكالي توافر على آراء وانتماءات متفردة منذ أن تولى منصب المسؤول الشرعي في معسكر خلدن.
وكان من أبرز الشخصيات التي خالفت منهج أسامة بن لادن والقاعدة في جواز القتال مع حركة طالبان، وكان ينشط في التحذير من طالبان، ويعتبرهم من المبتدعة والضلال، ومخالفين لدين الله سبحانه، إلا أن بن لادن تمكن من احتوائه مؤقتا، وامتنع عن التحذير من حركة طالبان، ثم أفتى بعدها لبعض طلابه بإباحة القتال مع طالبان بتحفظ.
تشير سيرة أبو عبد الله المهاجر إلى أنه عبد الرحمن العلي مصري الجنسية، وهو يتمتع باحترام وتقدير من الجهاديين كافة في العالم.
وكان مرشّحا لتولي مسؤولية اللجنة العلمية والشرعيّة في تنظيم القاعدة، وقد تلقى علومه الإسلامية في باكستان، وتخرّج من الجامعة الإسلامية في إسلام آباد، وحصل علي الماجستير في الشريعة.
ولكنه لم يتمکن من إکمال الدکتوراة بسبب مطاردة السلطات الباكستانية، وقد مدحه أيمن الظواهري في كتابه "التبرئة" بقوله: "الشيخ أبو عبد الله المهاجر من المهاجرين المرابطين المجاهدين، تخرج من الجامعة الإسلامية في إسلام آباد، ورابط في أفغانستان، وأنشأ مركزا علميا دعويا في معسكر خلدن، ودرّس في مركز تعليم اللغة العربية في قندهار، ثم بين المجاهدين في كابل، ثم في هيرات، وله كتاب عن مسائل الإيمان لا يحضرني اسمه".
بعد مطاردته في باكستان، توجّه المهاجر نحو أفغانستان، وهناك افتتح معهدا شرعيا في خوست، في معسكر خلدن، الذي كان يقوده ابن الشيخ الليبي، وأصبح المسؤول الشرعي للمعسكر، ثم درّس في المعهد الشرعي الذي افتتحه أسامة بن لادن في قندهار، الذي كان يديره الشيخ أبو حفص الموريتاني.
واستفاد منه أبو مصعب الزرقاوي، واستقدمه في تنظيم دورات علمية في معسكره في هيرات، وفي أفغانستان، حيث أنشأ مركزا علميا دعويا في معسكر خلدن، ودرّس في مركز تعليم اللغة العربية في قندهار، ثم في معسكرات المجاهدين في كابل.
وتولى التدريس في معسكر الزرقاوي في هيرات، والشيخ هو صاحب كتاب "مسائل من فقه الجهاد" الذي وضع فيه خياراته الفقهية الأكثر تطرفا، بحيث أصبح الكتاب يعرف لدى الجهاديين بـ"فقه الدماء".
وله كتاب بعنوان "أعلام السنة المنشورة في صفات الطائفة المنصورة”، وله مجموعة كبيرة من الأشرطة الصوتية التي كانت تسجل خلال نشاطه في التدريس وتنظيم الدورات العلمية على مدى سنوات.
يقول أبو مصعب الزرقاوي "التقيت بالشيخ أبي عبد الله المهاجر، وجرى حديث بيننا في حكم العمليات الاستشهادية، وكان الشيخ يذهب إلى جوازها، وقرأت له بحثا نفيسا في هذه المسألة، وسمعت له أشرطة مسجلة في ذلك، فشرح الله صدري لما ذهب إليه، ولم أتبنّ جوازها فقط؛ بل بتّ أرى استحبابها”.
ولم تقتصر خيارات الزرقاوي على مسألة العمليات الانتحارية، بل يمكن القول إن معظم خياراته الفقهية كانت تستند إلى المهاجر مسألة تكفير الشيعة، واستهدافهم وسائر التكتيكات القتالية المرعبة مثل قطع الرؤوس، واستخدام الأسلحة الكيماوية، وغيرها.
وأورد محمد وائل حلواني (ميسرة الغريب) عضو اللجنة الشرعية لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين آنذاك في رسالته: "الزرقاوي كما عرفته": "كان شيخنا الزرقاوي يُحب شيخه أبا عبد الله المهاجر، ويُجِلُّه ويثني عليه، ويَوَدُّ لو يأتي إلى العراق، وكانت قرائنُ الحال تَدُلُّ أنه لو أتى لأُوكلت إليه مسؤولية الهيئة الشرعية، وذكر لي أنه درس عند الشيخ المهاجر أربع سنوات”.
بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، ثم احتلال أفغانستان، وسقوط الإمارة الإسلامية بداية 2002، اضطر المهاجر للانحياز إلى إيران، حيث اعتقلته السلطات الإيرانية، ثم أفرج عن المهاجر، وعاد إلى مصر، بعد أشهر من قيام ثورة يناير 2011، وعقب الإفراج عنه ذهب إلى سوريا مع بروز جبهة النصرة.
أحد المسائل المثيرة في تاريخ الجهادية العالمية تتلخص بسيرة أبو عبدالله المهاجر، فهو يجسد سلطة مرجعية قابلة للتداول والنقاش وسلوك عملي يغاير نهجه النظري، وهي سمة تطبع الجهادية، عموما الأمر الذي نجده إذا لدى أبو بكر ناجي (محمد خليل الحكايمة) الذي يقدم رؤية استراتيجية عامة لطبائع الصراع وآليات العمل الجهادي العسكري، وعلى الرغم من أن الناجي والمهاجر قتلا وهم في صفوف القاعدة، إلا أن تنظيم الدولة الإسلامية استدخلهما في بنائه الفكري والفقهي، من شبكة الزرقاوي وصولا إلى خلافة البغدادي.
لكن تنظيم الدولة طور رؤيته الاستراتيجية الخاصة بصورة أكثر حدة وفعالية الناجي والمهاجر.
خلاصة القول، إن سيرة أبو عبدالله المهاجر تلخص مسارات الجهادية وانقساماتها، فهو شخصية إشكالية اختلف واتفق مع أسامة بن لادن والظواهري، واختلف واتفق مع أبو مصعب الزرقاوي، واختلف واتفق مع أبو محمد الجولاني.
ورغم ذلك، فإن مرجعيته معتمدة لدى الحركات الجهادية عموما، من القاعدة إلى الدولة، إلى الجبهة، لكن دون أن تكون سلطة مرجعية أحادية حاكمة ومهيمنة، فالرجل فقيه اختلافي يستعصي على الاستدخال الهيكلي، الأمر الذي يفسر حياته الجهادية الغامضة، وموته الهادئ دون ضجيج من الجهاديي،ن كأنه لم يكن سوى كتاب فقه الدماء.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: