لا تنفك منظومة الحكم التي يشرف عليها الرئيس السبسي من فضيحة حتى تذهب الى أخرى. هذه المرة تنتقل الى مستوى جديد لا يبعث على الشرف. ففي ذات الوقت الذي تستأسد فيه على مواطنيها وتحديدا على احد مكاسبهم النادرة في تونس، حرية التعبير، تقف خجولة امام تصريحات مهينة للسفير الفرنسي الجديد في تونس. رفع السبسي شعار "هيبة الدولة"، وكرره الى حد الاهتراء. ما يراه التونسيون بشكل متزايد هو هيبة مرتعشة، تضر الدولة واستقرارها ولا تنفعه. ضباع مع المرزوقي وارانب مع السفير.
ابلغتنا ادارة قناة "التاسعة" التونسية هذا الاسبوع منع بث حوار سجلته يوم السبت الماضي مع الرئيس السابق المنصف المرزوقي. ونشرت نقابة الصحفيين التونسيين تأكيدا لذلك وقامت القناة نفسها باصدار بلاغ يؤكد حصول ضغوط من رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. ما بلغنا من الصحفيين انهم تعرضوا لضغوط كبيرة "سياسية" و"مالية" مما عطل البث ثم بوضوح منعه. بهذا المعطى نكون رسميا دخلنا مرحلة خطيرة اي مسار تقويض الحريات واهمها حرية التعبير والاعلام هي ما تبقى فعليا واساسا من مكاسب الثورة. منع مواطن تونسي، ورئيس سابق، ورئيس حزب حراك تونس الارادة، من التعبير في قناة تلفزية على اثر تدخلات سياسية وبضغط من الممولين يجعلنا نلمس مجال ديمقراطية صورية يتحكم فيها المال واللوبيات، تؤكد ما حصل في الانتخابات الاخيرة من ضخ للاموال وتلاعب اعلامي زيف الوعي الجمعي ودفعنا في عملية تحيل سياسية واسعة.
في المقابل يجب ان نسجل نقطة اساسية: يملك السبسي تقريبا كل شيء، برلمانا وقصر الرئاسة وغالبية الاحزاب ولوبيات الاعمال والاعلام حتى بعض من كان يناضل ضد الاستبداد، وينصب ابنه لتوريثه في قيادة الحزب الحاكم، ويسعى لتبييض انصاره من رعاة الفساد الذي ينخر الدولة، ورغم ذلك يرتعش امام لسان المواطن منصف المرزوقي. ردد السبسي كثيرا عبارة "هيبة الدولة" للترويج لمشروعه الذي تبين للجميع انه تحيل موصوف على الشعب التونسي. بمرور الوقت ما يتضح اكثر فاكثر اننا ازاء هيبة مرتعشة لاغير.
وقد كنتُ تواصلتُ منذ أكثر من شهر مع مدير القناة وحددنا اسس الحوار بما يحمي حقوق الدكتور المرزوقي وخاصة حقه في حوار فيه الحد الادنى من قواعد الاحترام. قناة "التاسعة" رغم انها جديدة لكنها تميزت ببرامج ترفيهية مثيرة خاصة في رمضان جلبت انتباه المشاهدين. ورغم ان المشرفين عليهعا صحفيون محسوبون على المنظومة القديمة الا انها لم تخض في السياسة الا بشكل متدرج. يأتي هذا في سياق ما نستشعره في حزب "حراك تونس الارادة" من "حصار اعلامي" متزايد في مصلحة هيمنة احزاب التحالف الحاكم وايضا تضخيم اطراف لا وجود لها حتى في البرلمان، وتعميد "معارضة رسمية". رغم ذلك تعاملنا مع معطيات الواقع، حيث ان التواصل مع الناس لا يمكن ان يقتصر على وسائل الاتصال التقليدية.
تم تسجيل الحوار السبت 3 سبتمبر في ظروف عادية. قام الدكتور المرزوقي بالتعبير عن موقف الحزب في عدد من المسائل الراهنة وكانت الرسالة الاساسية هو تسجيل المسافة الواضحة مع التحالف الحاكم وسياساته التي تستهدف المناورة والتحيل والتهرب من المسؤولية وليس ايجاد حلول حقيقية، وقدم في المقابل، مثلما يفترضه وضعه كرئيس دولة سابق يفهم مسؤولية المعارضة، مقترحات سياسية واقتصادية عملية وواضحة في معالجة الازمة الراهنة من موقع معارضة تميز بين الخصومة السياسية والمنظومة الديمقراطية التي ساهمنا في تاسيسها ومعنيون بالحفاظ عليها. لكن لاول منذ الثورة نشعر ان سلطة الدولة اصبحت عمليا تمارس خارج ابسط بديهيات الحقوق الاساسية.
مثلما توقعنا كان هناك تنديدا كبيرا بما حصل. وحاول المعنيون بعملية الضغط التنصل. لكن تفاجئنا ايضا بصمت اخرين. أحزاب اساسية بعضها عانى من لجم حرية التعبير وساهمت في كتابة الدستور، منظمات حقوقية اساسية، "شخصيات وطنية"، لا تزال صامتة. تنظر في التكتيكات وتتذاكى ربما في تحليل هوامش "الاثارة" و"صراع الشقوق"، وتضيع الجوهر. تغرق في التكتيكي وتهمش الاستراتيجي. ان هناك انحسارا متزايدا لحرية الاعلام (قارنوا فقط مساحة وجود المعارضة في الاعلام قبل وبعد 2014)، انحسارا بتهديدات السلطة السياسية (بالتعيينات في العمومي وتوظيف الابتزاز الجبائي في الخاص) وبتدخل المال السياسي واللوبيات واصحاب المصالح. كل من يريد ان يعتبر ان هذه قضية ثانوية ولا يرى الاهتراء اليومي البطيء لحرية الاعلام يرى امام انفه، ويرى الشجرة ولا يريد رؤية الغابة. ويعتقد ان "توافقه" ابدي.
وفي ذات السياق لاحظنا حججا معوجة وغريبة. احد حجج المشككين هي التشكيك في امكانية تدخل رئاسة الجمهورية عبر هذا احد مستشاريه سيئي الصيت بما "انهم ليسوا بهذا الغباء". نعم هم بهذا الغباء واكثر. وما حصل في عملية "فبركة فيديو المرزوقي" (قام بها موقع اخباري لاحد مستشاري السبسي من خلال ترطيب وتحريف تصريحات المرزوقي) والتي هي الان قضية جارية محورها هذا الشخص الا اشهر دليل على ذلك.
في ذات الاسبوع تواجه منظومة الحكم اختبارا من نوع اخر. عندما يصرح السفير الفرنسي الجديد لاذاعة فرنسية انه قادم لتونس "لحماية الفرنسيين في تونس التي تفرخ الجهاديين"، فانه ببساطة يعلن ما هو معروف. تونس مثل بقية المستعمرات الفرنسية السابقة هي مجرد مجال عمل وبيزنيس والعلاقة الوحيدة المهمة بالنسبة لباريس معها هي علاقة التأمين البوليسي للجالية الفرنسية. عقلية احتلال مرة، عقلية احتلال دائما. وطبعا لم نسمع اي احتجاج او حتى تعليق غاضب من منظومة الحكم باشراف السبسي التي ترى في فرنسا ليس اقل من اله.
كان درس الثورة أن أي نظام يستأسد على مواطنيه مقابل خضوعه للاجنبي فانه لا يواجه مصيرا ورديا. الديمقراطية ليست عملية انتخابية فحسب، على اهميتها. اي قبل ذلك واساسا تفعيلا للحقوق الاساسية. وان تم ضرب هذه الحقوق الواحدة تلو الاخرى فحتى الانتخابات وجدواها تصبح في خبر كان. وفي هذا السياق اعلن هذا الاسبوع ايضا، وضمن صمت عام، رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات ان الانتخابات المحلية (البلدية) لن تتم قبل سنة 2018 في حين انها كانت مبرمجة سنة 2017.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: