البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

أوروبا تتراجع إلى القرن التاسع عشر

كاتب المقال حسام شاكر   
 المشاهدات: 3130



تعيش أوروبا الآن ما يشبه أجواء نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. يصعد سياسيون انتهازيون، وبعضهم حمقى في الواقع، ويشنون حملات تصعيد ضد الأقليات والنساء، ويخوضون أجواء شحن سياسي وإعلامي وحملات تعبئة في قضايا تبدو طريفة أحياناً. فمن يواكب الجدل السياسي والإعلامي الذي يدور في بعض بلدان أوروبا حالياً عليه أن يكون خبيراً في أنواع الأقمشة وقياسات ملابس البحر وأغطية الرؤوس.

يبدو طريفاً منحى النقاش في أوروبا عن ملابس البحر هذه الأيام، أو ما يسمونه "بوركيني" وهي تسمية ساذجة ومضللة للغاية عن تصميم معيّن تفضله بعض النساء لخصوصيات دينية، ليس له صلة بالبرقع ولا بالبكيني بالطبع. لكنّ القضية في الواقع جديرة بإثارة القلق، لأنّ المسألة لا تتعلّق بطول اللباس أو قصره أو بمواصفاته، وإنما باتجاه متعاظم نحو التوسّع في التقييد والحظر تشهده أوروبا وينبغي قرع نواقيس التنبيه منه.

نعم؛ نستطيع القول إنّ ثقافة الحظر تتسلل إلى أوروبا مجدداً، فهذا ما يحدث بالفعل منذ سنوات عدّة عبر قوانين وإجراءات ومطالبات متصاعدة بفرض قيود مخصوصة، تعيدنا إلى أجواء القرن التاسع عشر تقريبا.

من بوسعه أن يصدِّق أن أوروبا القرن الحادي والعشرين تُسنّ فيها قوانين وإجراءات من شأنها أن تمنع بناء دور عبادة، للمسلمين وحدهم بالطبع؟ أو تُحظر فيها المآذن بشكل حصري دون غيرها من أبراج دور العبادة؟ وتُحرَم فيها النساء والفتيات من حق ارتداء قطع قماش معيّنة؟ ويُمنعن فوق ذلك من الاقتراب من المسابح العمومية والشواطئ إن لم يتجرّدن من ملابسهن؟ الرسالة لها معنى آخر: على المسلمات أن يختفين من المشهد، وأن يزاولن السباحة إن رغبن في حوض الاستحمام المنزلي فقط.

إنها قضايا يفضِّلها سياسيون انتهازيون لخوض الانتخابات أيضاً؛ طمعاً في كسب نقاط سخيّة في صناديق الاقتراع؛ عبر المسلك الكريه المعتاد بشقّ صفوف المجتمعات وإثارة الأحقاد أيضاً. إنها من خصائص صنف من السياسيين عرفتهم أوروبا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ومنهم مثلاً سياسي واسع النفوذ اسمه كارل لويغر، صعد وقتها إلى بلدية فيينا التي كانت عاصمة امبراطورية عظيمة آنذاك، وقد أتقن المزايدات السياسية ورأى فرصته في شحن الجماهير على طريقة زماننا اليوم. إنه يشبه بعض سياسيي أوروبا في القرن الحادي والعشرين، الذين يقومون بتعبئة الجمهور بشعارات لا يكون السياسي ذاته مقتنعاً بها، حتى أنّ لويغر قال يوماً: "نحن نعلم أنّ العداء للسامية هو في السياسة وسيلة تأجيج من أجل الصعود، لكن ما إن يصبح المرء فوق (في الحكم) فلن يحتاجها".

في هستيريا الجدل التي تتصاعد اليوم لدينا ملف "داعش" بكل ما فيه من مخاوف وهواجس، ويجري استغلاله في نظرة تعميم اتهامية جائرة على شركاء المجتمع من المسلمين في أوروبا. وقتها، قبل 120 سنة، كان لديهم ذرائعهم أيضاً، ومنها قضية درايفوس، ذلك الضابط الفرنسي اليهودي الذي كان اتهامه بالتجسس سنة 1894 ذريعة لموجة عنصرية واسعة ضد اليهود. نستطيع اليوم أن نتخيّل مثل هذا في أوروبا اليوم، مع تعديل طفيف فقط: بأن يكون الضابط مسلماً هذه المرّة وأن ينتقل إلى صفوف "داعش" مثلاً.

كانت ثقافة الحظر يومها في أوجها، حتى كان تشييد المعابد اليهودية في بعض المدن محاطاً بقيود تشمل بعض المواصفات، بينما اختارت بلدان ومدن أخرى طريق التسامح والتعددية والانفتاح كما يجري اليوم أيضاً. كان يُحظر أيضاً على بعض الطوائف المسيحية، مثل البروتستانت في ميونيخ، تشييد كنائس داخل أسوار المدينة الكاثوليكية حتى بداية القرن العشرين، وهو ما يجعلنا نفهم منطقاً شبيهاً في التفكير يحكم نقاشات تجري اليوم في مدن وبلديات وأقاليم أوروبية.

من الخطأ اليوم أن نتصوّر المسألة محصورة في قطعة قماش ترتديها سيدة أو فتاة على رأسها، أو متعلقة فقط بملابس سباحة على الشاطئ، أو حتى بمئذنة ممنوع تشييدها في سويسرا الجميلة أو غيرها. فهذه وغيرها تفاصيل ضمن ظاهرة صاعدة اسمها ثقافة الحظر، وسيكون استسلام مجتمعات أوروبا لها خطأ جسيماً.

لا تتوقف هذه الثقافة على التشريعات التي جرى سنّها وعلى الإجراءات التي تم اتخاذها، والتي يأتي كل منها مشفوعاً بذرائع "عقلانية" عادة، فهذه في الواقع عيِّنة لا أكثر من قوانين وإجراءات تعرفها أوروبا اليوم، وتشغل السياسة والإعلام والثقافة أيضاً. لكنّ الحالة أوسع نطاقاً، لأنّ قائمة المطالبات بالحظر تشمل كلّ ما يمكن توقعه: حظر اللحوم "الحلال"، حظر المدارس ورياض الأطفال إن كانت للمسلمين، حظر مزاولة وظيفة الإمام إن لم يكن ذلك بشروط خاصة، حظر التمويل الخارجي للمساجد والمراكز الإسلامية، ولا تستثني المطالبات دعاوى لحظر الإسلام ذاته تعلو في أكثر من بلد أوروبي.

ولا تجد بعض وسائل الإعلام مشكلة في أن تطرح على جمهورها أسئلة ساذجة عن مدى تأييدهم لمزيد من المنع عبر استفتاءات إلكترونية، وعليهم الإجابة بنعم أو لا. حسناً؛ وهل من المقبول أساساً أن تكون الحقوق الدينية والشخصية موضوع نقاش واستفتاء؟ إنها رِدّة ثقافية وقيمية يتم عبرها دعوة "الأغلبية" للتصويت على حقوق "الأقلية". فبأيّ منطق يتم الاستفراد بأقلية بعينها حصراً ووضع شؤونها وخصوصياتها موضوعاً للاستفتاءات؟

مظاهر الماضي الكئيب حاضرة في مجالات أخرى متعددة أيضاً. ففي أوروبا القرن الحادي والعشرين تعود رسوم الكاريكاتير لممارسة القوْلبة والتنميط وتعميم الأحكام المسبقة السلبية ضد أقليات بعينها. لدينا الآن سيل جارف من الرسوم المسيئة للمسلمين ومقدّساتهم، وبعضها يمارس بقوّة الريشة والإيحاء الرمزي فعل التشويه والاحتقار وحتى التحريض. مثل هذا أيضاً كان سائداً في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع فارق أنها استهدفت اليهود آنذاك أساساً، وأنّها وقتها لم تجد فرصتها في الإنترنت والإعلام الاجتماعي بعد، لأنهم لم يحظَوْا بأمثال الشاب الذكي مارك تسوكربرغ مثلا، وإنما بشاب آخر مهووس صعد وقتها اسمه أدولف هتلر، استخدمت صحافة تيّاره النازي رسوم الكاريكاتير بقوة للتعبئة العنصرية المقيتة التي انتهت بفظائع مرعبة.

من يريد أن يقاوم هذا التدهور القيمي في أوروبا، عليه أن ينشغل بملابس السباحة هذه الأيام وقطع القماش والتفاصيل القانونية والإجرائية المتزاحمة، عبر مقاومة حمّى الحظر البائسة هذه. إنها مسألة قيم ومبادئ كفيلة باستنفار الجميع وليس المسلمين وحدهم. يجب القول إنّ ثقافة الحظر تتفاقم في أوروبا، وأنها البدايات المألوفة لما هو أسوأ.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

أوروبا، الصراع الإيديولوجي، الغرب، التبعية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 2-09-2016   عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
أشرف إبراهيم حجاج، د. أحمد بشير، د. خالد الطراولي ، كريم السليتي، حميدة الطيلوش، وائل بنجدو، خبَّاب بن مروان الحمد، طلال قسومي، تونسي، ضحى عبد الرحمن، سامر أبو رمان ، سامح لطف الله، فوزي مسعود ، أحمد بن عبد المحسن العساف ، منجي باكير، أحمد ملحم، رضا الدبّابي، محمد عمر غرس الله، محمود طرشوبي، عمر غازي، حسني إبراهيم عبد العظيم، سفيان عبد الكافي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، عمار غيلوفي، طارق خفاجي، رافد العزاوي، مراد قميزة، فتحي العابد، محمد علي العقربي، علي عبد العال، د. عبد الآله المالكي، المولدي الفرجاني، العادل السمعلي، د- محمود علي عريقات، ياسين أحمد، سلوى المغربي، عبد الله زيدان، يحيي البوليني، د. كاظم عبد الحسين عباس ، محمد أحمد عزوز، صلاح المختار، د - عادل رضا، رشيد السيد أحمد، د - مصطفى فهمي، رمضان حينوني، د- محمد رحال، د - صالح المازقي، جاسم الرصيف، عواطف منصور، عبد الله الفقير، عبد العزيز كحيل، المولدي اليوسفي، ماهر عدنان قنديل، خالد الجاف ، سليمان أحمد أبو ستة، د.محمد فتحي عبد العال، صفاء العربي، أ.د. مصطفى رجب، محمد العيادي، د. عادل محمد عايش الأسطل، سلام الشماع، حسن الطرابلسي، صالح النعامي ، عزيز العرباوي، د. مصطفى يوسف اللداوي، إياد محمود حسين ، فهمي شراب، فتحي الزغل، د. صلاح عودة الله ، عبد الرزاق قيراط ، صباح الموسوي ، مجدى داود، مصطفى منيغ، صفاء العراقي، د- جابر قميحة، د - المنجي الكعبي، أحمد الحباسي، د - محمد بن موسى الشريف ، د - شاكر الحوكي ، يزيد بن الحسين، محمود فاروق سيد شعبان، د - الضاوي خوالدية، الناصر الرقيق، محمد اسعد بيوض التميمي، الهادي المثلوثي، كريم فارق، محرر "بوابتي"، رحاب اسعد بيوض التميمي، عبد الغني مزوز، د. طارق عبد الحليم، نادية سعد، د- هاني ابوالفتوح، صلاح الحريري، أحمد النعيمي، محمد الطرابلسي، حاتم الصولي، د - محمد بنيعيش، فتحـي قاره بيبـان، أحمد بوادي، الهيثم زعفان، د. ضرغام عبد الله الدباغ، محمود سلطان، مصطفي زهران، محمد يحي، عراق المطيري، سيد السباعي، محمد الياسين، أنس الشابي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، سعود السبعاني، د. أحمد محمد سليمان، إيمى الأشقر، حسن عثمان، رافع القارصي، بيلسان قيصر، علي الكاش، محمد شمام ، أبو سمية، إسراء أبو رمان،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة