اختار الرئيس السبسي أن يجعل من تمرير قانون "المصالحة" المعروف بقانون تبييض الفساد أولوية الأولويات، ودفع مع رئيس مجلس النواب وحلفائه لبدء مناقشته تحديدا في أثناء المفاوضات الحالية لتشكيل حكومة "الوحدة الوطنية" ومناقشة "برنامجها". هذه المبادرة المتعثرة التي تترنح لولا محاولات إنقاذها من قبل البعض، تبين بوضوح أنها إطار جديد لتمرير السبب الأساسي الذي يوجد من أجله السبسي في قرطاج وحزبه في البرلمان أي تمرير قانون لتبييض "الفساد المالي وإهدار المال العام". القانون الذي يقوض قانون العدالة الانتقالية وإجراءات الصلح التي تتم ضمن أطر الشفافية، فالقانون الجديد مجرد إطار لتبييض الفساد من لجنة تعينها السلطة التنفيذية، وهو الأمر الذي فضلت فيه منظمات دولية مثل المرز الدولي للعدالة الانتقالية، وانتقدته أيضا منظمة هيومان رايتس واتش هذا الأسبوع.
في المقابل أطلقت جمعيات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، التي لم تنخرط في لعبة "حكومة الوحدة الوطنية"، في حملة تحت شعار "ما يتعداش" (لن يمر) لإسقاط المحاولة الجديدة للسبسي لتمرير قانونه، حيث حاول ذلك بالتحديد قبل سنة وفشل.
السبسي وتحالفه يعتبرون هذا القانون الذي يبيض الفساد ويزور الانتخابات ويلغي العدالة الانتقالية ليعوضها بآلية أخرى، هو أولوية، بعكس كل النظريات الاقتصادية والخبراء الجديين الفعليين يعتبرون أن تبييض الفساد هو محرك الاقتصاد والاستثمارات. برنامج حكومة السبسي "الجديدة" مهما كان شكلها هو قانون تطبيع الفساد، ومثلما أشار كثير من الملاحظين، خدمة لمن أوصلهم للسلطة وحماية لداعميهم وأنصارهم.
والآن، فإن كل من يجلس على طاولة السبسي وكل من يشارك بأي شكل من الأشكال في اللعبة الجديدة، سيلحقه العار إلى الأبد. ولا يجب لأي من الأطراف التي بقيت خارج إطار طاولة السبسي أن تشعر بالندم بأنها "معزولة" عن "التوافق الوطني". فأي "توافق" حول الفساد وتبييضه لا يمكن أن يؤمن وضعا سياسيا صحيا ومستديما.
في هذه الأثناء كتب الرئيس السابق لاتحاد الصناعة والتجارة الهادي الجيلاني، المقرب من عائلة بن علي، والمعني مباشرة بقانون تبييض الفاسد، تحديثة على جداره في الفيسبوك جاء فيها: "تونس لا تحتاج إلا لقائد جيد، يعرف كيف يفرض احترامه للخروج بالبلاد من هذا الانحدار المتزايد في كل يوم... لن يكون هناك مكان للفوضى و للتسيب؛ لأن ذلك ما يسهل حلول الإرهاب.. نحن بحاجة إلى قبضة حديدية، عادلة، ديموقراطية وتحب تونس والتونسيين، لكنها لا ترحم زارعي الفوضى والاضطرابات.. تلك هي الفرصة الأخيرة لسلطة مدنية.. وعدا ذلك يجب الاستنجاد بالجيش".
تأتي هذه النصائح لدعم الديمقراطية من خلال الاستنجاد بالجيش من أحد الأشخاص المعنيين بقانون تبييض الفساد ("المصالحة") المقترح من السبسي، لكنه يقول بصوت عال ما يقوله الآخرون في سرهم. وهو مثال على أن هذا النوع الذي تربى على الإذلال لا يفهم إلا المصالحة بالمحاسبة. أما إذا أعطيته صكا على بياض يتحول إلى فرعون.
لكن الأمر لا يتعلق بالماضي، بل يتعلق بممارسات راهنة. أهم صفقة شراء المنشأة العمومية للاتصالات "تونس للاتصلات" التي يملك فيها الإماراتيون (شركة "اتصالات") 35% من الأسهم، شركة مالطية صغيرة يملك فيها الإماراتيون 65% من الأسهم بقرض يصل إلى أكثر من 300 مليون يورو، لن تستطيع الشركة التونسية بأي شكل من الأشكال، سواء بأرباحها أو أرباح الشركة المالطية أن تسدده دون تدخل الدولة، ومن ثمة توريط البلاد في مزيد من نزيف العملة الصعبة، ونحن نعاني أصلا من ذلك. إهدار المال العام هذا يحصل تحت إشراف وزير الاتصالات المشرف على أحد الأحزاب الحاكمة، الذي يريد مسح هذا الموضوع في رئيس "تونس للاتصالات" رغم أنه مهندس الصفقة مع قيادات من حزبه، أدى أحدهم دور التقييم المبالغ فيه لقيمة الشركة المالكية عبر أحد مكاتب الدراسات. ولم يجد مدير الاتصلات التونسية ما يقوله أمام سيل الأسئلة والإشكالات التي أثارها نواب المعارضة في جلسة مساءلته في البرلمان هذا الأسبوع.
وعلى خلفية كل ذلك، تتوالى المؤشرات على أننا إزاء نشأة حكم كليبتوقراطي بقيادة عائلة السبسي. آخرها تصريحات رضا بلحاج أحد مؤسسي حزب السبسي، وأحد مواطن ثقته سابقا ومدير ديوانه قبل إقالته منذ أشهر قليلة. حيث أكد أن أحد أقرباء السبسي الذي خلفه في موقع مدير الديوان وابن السبسي حافظ السبسي وأخاه الآخر خليل السبسي مع آخرين لم يسمهم (اأرجح يعني زوجة السبسي وزوجة ابنه)، أصبحوا يتحكمون في أجواء القصر ومفاصل السياسة بما في ذلك القرار المفاجئ للسبسي بإقالة ضمنية للصيد، تحت عنوان مبادرته التي لم يستشر فيها أحدا من حلفائه المسماة "حكومة الوحدة الوطنية".
بلحاج الذي لم يتكلم إلا بعد إقالته وإهانته علنا، يثبت ميزة عامة لقيادات حزب السبسي وهي الانبطاح الكامل، والتواطؤ مع سياسات تعفين الجو العام في البلاد، والمساهمة في إرساء حكم العائلة قبل الانقلاب على ذلك، عندما يتم إقصاؤهم وحرمانهم من نصيبهم من الكعكة. ادعى بلحاج في التصريحات ذاتها أن السبسي عرض عليه منصبا ديبلوماسيا ساميا، في حال غادر في صمت مثلما فعل وزير الخارجية السابق الطيب البكوش، الذي تم تعيينه أمينا عاما لاتحاد المغرب العربي فقط لإرضائه، وليس لكفاءاته الديبلوماسية، فالبكوش تميز بأداء كارثي أشهره مطالبة السلطات التركية بإلغاء فيزا وهمية سماها "فيزا الجهاد"، وأيضا مساهمته في تعطل العلاقات مع السلطات الليبية في طرابلس، في وقت كنا نحتاج فيه للتعاون الأمني الوثيق في سياق محاربة الإرهاب.
آخر مظاهر الفوضى التي تهيمن على قصر الباجي، ما تعرض إليه أحد أصدقائه السابقين، الذي عينه في دور مستشار في ملفات الاستثمار. إثر نقده لمدير ديوان وقريب السبسي، أعلنت متكلمة باسم السبسي إنكار وجوده كموظف بصفة مستشار دون حتى إعلامه بنهاية عقده، مع افتكاك سيارته الإدارية في عرض الطريق العام. وربما ما خفي كان أعظم. ممارسات هواة لا تليق بمؤسسة رئاسة الجمهورية.
السبسي الذي لا يستطيع أن يدير قصرا، يريد رغم ذلك صلاحيات واسعة ويتفاوض على تشكيل حكومة "ستنقذ البلاد". السبسي وحكمه العائلي وحزبه المليء بالانتهازيين هو المشكل، ولا يمكن أن يكون حلا لأي شيء. في ظرف سنة وعام أرسى مع "الكفاءات" التي رافقته البلاد في نسبة نمو ترواح الصفر في المئة، وانهيار للعملة الوطنية وتحول الفساد للدين الرسمي للدولة. ورغم ذلك لا يزال هناك بصيص أمل في المجتمع المدني وباقي الأحزاب التي لم تنسق وراء وهم "وفاق" تعزز سياسات اقتصادية واجتماعية تقوض الديمقراطية عوض أن تحصنها.
نقول مثلما يقول تونسيون شرفاء آخرون للسبسي وحزبه وقانونه وعقلية الفساد وتبييضه: ما يتعداش!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: