من أورلاندو إلى باريس هجمات فردية عملت على إحياء مفهوم "الجهاد الفردي" وتنشيط مصطلح "الذئاب المنفردة"، وهي ظاهرة برزت في سياق العولمة وتم استدخالها في قاموس الجهادية العالمية عن طريق تنظيم القاعدة وطورها تنظيم الدولة الإسلامية، وقد باتت مقلقة لأجهزة الاستخبارات العالمية نظرا لسرعة انتشارها وصعوبة اكتشافها وعدم القدرة على التنبؤ بنتائجها ومعرفة دوافع أفرادها، وفداحة وخطورة خسائرها. فعملية إطلاق النار في أورلاندو الأمريكية في 12 حزيران/ يونيو 2016 على يد عمر متين هي بدون شك الأكثر دموية في تاريخ الولايات المتحدة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
هجوم أورلاندو بولاية فلوريدا الأمريكية، الذي نفذه عمر متين وهو أمريكي من أصل أفغاني على ناد للمثليين، أسفر عن سقوط 50 قتيلا و53 جريحا، وقد أعلن متين في اتصال هاتفي مع شبكة الطوارئ الأمريكية ولاءه لتنظيم الدولة الإسلامية، كما تبنى تنظيم الدولة العملية، وفي خضم تداول مصطلح "الذئاب المنفردة" الذي أثارته عملية أورلاندو أمريكيا، جاءت الاستجابة سريعا أوروبيا حيث قام العروسي عبد الله بقتل ضابط شرطة ورفيقته طعنا بعد أن احتجزهما في منزلهما بباريس في 14 حزيران/ يونيو 2016، وكان العروسي قد أعلن عن انتمائه لتنظيم الدولة الإسلامية، وسارع التنظيم بتبني العملية، ولا شك بأن منفذَي هجمات باريس وأورلاندو يشتركان في مفهوم "الجهاد الفردي" ويقعان تحت مصطلح "الذئاب المنفردة".
تعود الجذور التاريخية في الفضاء الجهادي العالمي لظاهرة الجهاد الفردي والذئاب المنفردة إلى بداية حقبة التسعينيات من القرن الماضي، حيث عملت الجهادية العالمية على تطبيقه على نطاق محدود، ويعد رمزي يوسف أحد أوائل الجهاديين الذين نقلوا المفهوم إلى حيز الواقع، حيث كان أحد المنفذين لتفجير مركز التجارة العالمي عام 1993، إلا أن الظاهرة شهدت تطورا مع بروز العولمة في العصر الرقمي من قبل تنظيم القاعدة الذي عمل على ترسيخ نماذج جديدة من الجهاد والجهاديين، كالجهاد الفردي، وتتميّز ظاهرة "الجهاد الفردي والخلية الفردية"، بأنها لا تخضع للتنميط وأعضائها ينحدرون من خلفيات اجتماعية متنوعة غير مهمشة اقتصاديا إلا أنها تشعر بالتهميش الاجتماعي والثقافي، ولا تتوافر لدى الأجهزة الإستخبارية قاعدة معلومات خاصة بها، فأعضاؤها خاملون في المجال الاجتماعي الواقعي وناشطون في العالم الافتراضي ويتوافرون على قدرات علمية وتقنية عالية في مجال الاتصالات، فالجيل الثالث من جهاديي القاعدة كان ينتمي إلى خلفيات متنوعة بدون قيادات فعلية ويتعاملون مع قيادات رمزية على شبكة الإنترنت لا أحد يعرف هويتها الواقعية الحقيقية، وقد شهد العالم الافتراضي ظهور موجات من القيادات الافتراضية، فقد اشتهر من الموجة الأولى من الجهاديين الافتراضيين التي ظهرت عام 2002م: أبو بكر الناجي، وأبو عبيدة القرشي، ولويس عطية، ومن الموجة الثانية التي ظهرت عام 2006م: حسين بن محمود وعطية الله، ومن الموجة الثالثة التي ظهرت عام 2009م: عبد الرحمن الفقير ويمان مخضب وأسد الجهاد 2.
يعتبر أبو مصعب السوري وهو أحد منظري السلفية الجهادية (اعتُقل في عاصمة بلوشستان الباكستانيه عام 2005 وسُلِّم إلى سوريا، ولايزال قيد الاعتقال)، من أوائل المنظرين الجهاديين الذين تناولوا "الجهاد الفردي" وقد طور رؤيته الخاصة بالاستناد إلى تراث السلفية الحركية الإخوانية، ممثلة بسيد قطب وعبد الله عزام، مرورا بمروان حديد، والاتكاء على مفهوم "حرب المستضعفين"، الذي أرسى قواعده التراث الماركسي الثوري المتعلق بحرب العصابات والأنصار، وتنظيرات ماو تسي تونغ، وتشي غيفارا، وتعد كتابات السوري مرجعية أساسية للجهاديين، وخصوصا، كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية" الذي أنجزه نهاية عام 2004، والذي يؤسس لبناء "سرايا المقاومة الإسلامية"، ومفهوم الجهاد الفردي (الذئاب المنفردة)، وتحويل الجهاد إلى مشروع أمة، من خلال إنشاء خلايا يجمع بينها الفكر والعقيدة والهدف دون أن تكون في تنظيم يعتمد على هيكلية التنظيمات التقليدية، وتنشئ فكرة السرايا نظاما للعمل أكثر من كونها تنظيما، لتشكل شبكة تُجمع من خلالها نتائج العمل الجهادي بأكمله، وتكون هذه السرايا مرنة بحيث تتعاون مع الآخرين دون فرض البيعة أو الولاء، واستقطاب الفاعلين المحليين، ويكون هدفها "دفع الصائل" عبر آليات المقاومة العسكرية دون التسرع في مشروع إقامة الدولة الإسلامية أو إعلان الخلافة، وقد أسهب السوري في التنظير لمفهوم "الجهاد الفردي" مستعرضاً فوائده وضرورته الأمنية؛ كونه يعتمد على خلايا منعزلة يصعب رصدها، وجاءت رؤيته كاستجابة للتحديات الأمنية التي واجهها تنظيم القاعدة في أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر والجهد الدولي في مجال الحرب على الإرهاب.
أما القيادي في تنظيم القاعدة محمد خليل الحكايمة، فقد أولى عناية خاصة بمفهوم "الجهاد الفردي" (قتل في قصف أميركي في أفغانستان في آب/ أغسطس 2008)، ويعد الحكايمة أول من دعا لاستراتيجية متكاملة للجهاد الفردي سنة 2007 التي باتت تعرف بظاهرة "الذئاب المنفردة"، حيث صنف كتابا بعنوان "الجهاد الفردي والخلية الفردية"، لكن تنظيم القاعدة المركزي بزعامة بن لادن لم يكن في هذا الوقت يتبنى الظاهرة بشكل رسمي، إلا أنها استحوذت على اهتمام فرع التنظيم في جزيرة العرب ــ اليمن، وسطوع نجم الداعية الجهادي أنور العولقي، والذي دعا إلى شن هجمات فردية، حيث برز جيل جديد من الجهاديين الفرديين يتمتعون بسمة المبادرة والقدرة على التواصل عن طريق الإنترنت، ولا يعتمدون على الطرق التقليدية في التواصل والتجنيد، ويعتبر الرائد نضال مالك حسن، نموذجا إرشاديا لظاهرة الذئاب المنفردة، وهو أمريكي من أصل فلسطيني التحق بالجيش بعد الثانوية، ثم أرسل إلى الكلية الطبية وتخصص بمجال الطب النفسي، دخل العالم الافتراضي للجهاديين عن طريق الإنترنت، وبدأ بالبحث والسؤال والتواصل دون أن يلتفت إليه أحد، وعندما أصبح جزءا من هذا العالم نفذ هجوما في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 م، على زملائه في قاعدة "فورت هود " في ولاية تكساس التي عمل فيها معالجا نفسيا للجنود الأمريكيين العائدين من العراق وأفغانستان، وقد أسفر هجومه عن مقتل 13 جندي أمريكي، وجرح 31 آخرين، وقد اعتبرت هذه الحادثة أكبر عملية داخل الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، قبل هجمات أورلاندو، وفي أيار/ مايو 2010 قام فيصل شاه زاد بمحاولة فاشلة لتفجير سيارة مفخخة في ساحة "تايمز سكوير" في مدينة نيويورك.
لقد كشفت "وثائق آبوت أباد" أن بعض المقربين من بن لادن حاولوا إقناعه بشن هجمات أكثر تواضعا وأكثر سهولة بسبب تهديد الطائرات بدون طيار بينما التنصت جار في كل مكان، كما حاول بعض منظري وقيادات "القاعدة" إقناع بن لادن بتوسيع نظاق "الجهاد الفردي" و"الذئاب المنفردة"، مبررين ذلك بأن العمليات الصغيرة كالهجمات التي يشنها أفراد معزولون يمكن أن تضعف الغرب اقتصاديا، لكن بن لادن لم يقتنع بهذه الاستراتيجية، وكان يصر على تنفيذ هجمات كبيرة على أهداف محددة.
عقب مقتل بن لادن في 2011 وتولي أيمن الظواهري زعامة القاعدة، باتت فكرة "الجهاد الفردي" سمة أساسية لعصر قاعدة الظواهري، مع انتقال ثقل التنظيم إلى فرع القاعدة في جزيرة العرب ــ اليمن، وكان فرع اليمن قد أصدر في صيف 2010 مجلة "إنسباير" الإلكترونية الصادرة باللغة الإنكليزية، حيث دعا إلى تفعيل الجهاد الفردي، وقدم وصفات عملية لهذا الجيل بعنوان: "كيف تصنع قنبلة في مطبخ أمك؟"، داعيةً المتعاطفين في الدول الغربية إلى القيام بعمليات إرهابية فردية، كما نشرت المجلة في العدد ذاته مقالة لأنور العولقي حرَّض من خلالها المسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا على القيام بعمليات في أوطانهم تطبيقا لفكرة الذئاب المنفردة، وبعد مقتل بن لادن بعدة شهور أصدرت مؤسّسة السّحاب للإنتاج الإعلامي، التابعة للقاعدة في 4 حزيران/ يونيو 2011 شريطا تحريضيا طويلا بعنوان "لا تُكَلّفُ إِلّا نَفسَكَ"، يتبنى فيه رسميا مسألة "الجهاد الفردي" و"الذئاب المنفردة"، وقد تحدث فيه عن مشروعيته أبرز منظري القاعدة أمثال أبو يحيى الليبيّ، وعطيّة الله الليبيّ، ثم أطلق تنظيم القاعدة "ورشة" في 6 حزيران/ يونيو 2012 تهدف إلى تجنيد انتحاريين لتدربيهم على شن عمليات "فردية" وحدد شروطا لقبول هؤلاء وأهدافا رئيسية لهم تتصدرها المصالح الأميركية والإسرائيلية والفرنسية، وذلك في بيان حمل توقيع "اللجنة العسكرية ــ تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" بعنوان "قافلة الشهداء قم فاركب معنا للتواصل مع عشاق العمليات الجهادية الفردية"، جاء فيه إن "الهدف من هذه الورشة هو التواصل مع الإخوة الذين يبحثون عن تنفيذ عملية تحدث مقتلة ومذبحة عظيمة في أعداء الإسلام"، وأضاف "من الواضح الآن أن الجهاد الفردي أو ما يسمى الذئب المنفرد بات أكثر شيوعا وبدأت ملامحه بالظهور وباختصار هي عملية جهادية كاملة يقوم بها أخ لوحده منفردا".
مصطلح الذئاب المنفردة من المصطلحات الجهادية الجديدة، للدلالة على الأشخاص المتعاطفين مع التنظيمات الجهادية، والذين قد يقدمون على تنفيذ عمليات تصفها بالعنيفة، من دون أن يكون لهم ارتباط مباشر بتلك المنظمات, وهو مصطلح باتت تستخدمه الجماعات الجهادية للتعبير عن تكتيك تستخدمه عندما تشتد الرقابة عليها، ويتم تضييق الخناق عليها لأبعد الحدود، مما يصعب عليها معه العمل بطريقة جماعية منظمة نظرًا لقوة الدولة ويقظة أجهزتها الأمنية، والذئب المنفرد، يتصرف بمفرده، لدعم معتقدات أو فلسفات تخص جماعة متطرفة، من دون أوامر أو توجيهات خارجية. وتقنيات الذئب يتم تطويرها وتوجيهها، ذاتياً، كما ينظّر كورتيس لذلك: "لا يمتلك الذئب المنفرد أي تواصل شخصي مع المجموعة التي يتماهى معها، ما يجعل من تعقبه، من قبل مسؤولي مكافحة الإرهاب، أمراً بالغ الصعوبة".
إذا كان تنظيم القاعدة قد تبنى نهج عمليات "الذئاب المنفردة"، فإن تنظيم الدولة الإسلامية توسع باستخدامها، ولم تعد ضوابط القاعدة تتمتع بأهمية فالناطق باسم التنظيم أبو محمد العدناني، دعا في كلمة بعنوان "ويحيى من حي عن بينة"، إلى تفعيل وتوسيع نظاق العمليات الفردية بكافة الطرق والوسائل، حيث قال:"وها قد أتاكم رمضان؛ شهر الغزو والجهاد، شهر الفتوحات، فتهيّؤوا وتأهبّوا، وليحرص كل منكم على أن يمضيه في سبيل الله غازيًا، طالبًا ما عند الله راجيًا، لتجعلوه بإذن الله شهر وبالٍ على الكفار في كل مكان. ونخص جنود الخلافة وأنصارها في أوروبا وأمريكا؛ فيا عباد الله، يا أيُّـها الموحدون؛ لئن أغلق الطواغيت في وجوهكم باب الهجرة، فافتحوا في وجوههم باب الجهاد واجعلوا فعلهم عليهم حسرة. وإن أصغر عمل تقومون به في عقر دارهم أفضل وأحب إلينا من أكبر عمل عندنا وأنجع لنا وأنكى بهم. ولئن كان أحدكم يتمنى ويسعى جاهدًا للوصول إلى دولة الإسلام، فإن أحدنا يتمنى أن يكون مكانكم ليُنَكِّل في الصليبيين ليل نهار لا ينام، ويرعبهم ويرهبهم حتى يخاف الجارُ من جاره. فإن عجز أحدكم فلا يستهن بحجر يرميه على الصليبيّ في عقر داره، ولا يستحقر من عمل فإن مردوده على المجاهدين عظيم، وأثره على الكفار وخيم. وقد بلغنا أن بعضكم لا يستطيع العمل لعجزه عن الوصول لأهداف عسكريّة، ويتحرّج من استهداف ما يسمى بالمدنيين فيُعرض عنهم لشكه بالجواز والمشروعيّة.
فاعلموا أن في عقر دار الصليبيين المحاربين لا عصمة للدماء، ولا وجود لما يسمى بالأبرياء، ولا يسع المقام لذكر وتفصيل الأدلة، فقائمتها طويلة، وأقلها من باب المعاملة بالمثل، فلا تُفرّق طائراتهم عندنا بين مسلح أو أعزل، ولا امرأة أو رجل. واعلموا أن استهدافكم لما يسمى بالمدنيين أحب إلينا وأنجع، كونه أنكى بهم وأوجع لهم وأردع".
خلاصة القول أن ظاهرة الذئاب المنفردة تشير إلى تنفيذ عمليات فردية، يقوم بها أشخاص تربطهم بالجماعات الجهادية صلات إيديولوجية أو نفسية أو اجتماعية دون ضرورة وجود صلات تنظيمية مباشرة، وهي ظاهرة مرشحة للنمو والانتشار نظرا لتوسع الظاهرة الجهادية، وهي تشكل تهديدا خطيرا لصعوبة رصدها وتوقعها والتنبؤ بطبيعة منفذيها وأماكن وقوعها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: