المقدمة
إنَّ الحديث عن المواجهة الأولى بين الجيشين العربي والبيزنطي في شمال إفريقيا يفرض الحديث أوَّلًا عن السياق السياسي المحلي الذي حصلت فيه هذه المواجهة. وتتمثَّل أولى الأحداث المرتبطة بهذا السياق في انفصال جرجير (Grégoire) عن القسطنطينية، وسير (معركة سبيطلة)، وبالأخص (ملحمة ابنة جرجير)، وقد ألحَّ عليها المؤرخون من أقدمهم (ابن عبد الحكم)، إلى مؤرخي القرن الثامن عشر الذين دوَّنوا تاريخ المغرب الإسلامي، شأن الصفاقسي محمود مقديش.
* انفصال جرجير:
الحدث الأول الذي ترويه كتب التاريخ العربية والبيزنطية على حدِّ السواء، هو: انفصال جرجير عن الحكم المركزي في القسطنطينية، واستئثاره بمنصب الملك. فقد خلع على نفسه لقب ملك، أُسوة بأحد أسلافه وهو هرقل ([2]) الذي استولى على الحكم في القسطنطينية (سنة 610م) في ظرف مختلف. ويُعدُّ ابن عبد الحكم أقدمَ من روى هذا الحدث. يقول: «فخرج عبد الله بن سعد إليها (إفريقية)، وكان مستقرُّ سلطان إفريقية يومئذٍ بمدينةٍ يُقال لها: «قرطاجنة»، وكان عليها ملك يُقال له: «جرجير» كان هرقل قد استخلفه، فخلع هرقل، وضرب الدنانير على وجهه، وكان سلطانه ما بين طرابلس إلى طنجة. حدَّثنا عبد الملك بن مسلمة، حدَّثنا ابن لهيعة، قال: كان هرقل استخلف جرجير فخلعه. قال: ثم رجع إلى حديث عثمان بن صالح وغيره، قال: فلقيه جرجير فقاتله فقتله الله. وكان الذي تولَّى قتله فيما يزعمون عبد الله بن الزبير» ([3]).
نجد ذكرًا لهذا الحدث كذلك لدى المؤرخ البيزنطي تيفانوس (Théophane) ([4]) المعاصر للمصري ابن عبد الحكم، فرغم كونه كان مقيمًا في القسطنطينية؛ فقد كان من ضمن المؤرخين البيزنطيين الأقرب إلى الأحداث. يقول: «في السنة 6138 من خلق العالـم (1 سبتمبر 646- 31 أوت 647): ثار أهل إفريقية بقيادة بطريقهم جرجير على السلطة الإمبراطورية».
بعض النصوص العربية المتأخرة خلعت على البطريق جرجير لقب ملك ([5])، بل إنَّ بعضها مال إلى الحديث عن مُلك ([6]) إفريقية العظيم ([7])، وإذا كان من المؤكد أنَّ القصد من ذلك التعظيم من نصر المسلمين الذين هزموا ملكًا، وليس مجرد والٍ؛ فإنَّ الأوكد أنَّ انفصال جرجير كان أمرًا واقعًا؛ فقد واجهه العرب في (معركة سبيطلة) بصفته سيَّد مقاطعة إفريقية كلِّها، وليس بصفته واليًا بيزنطيًّا. فتحصُّنه في سبيطلة وفي تلك المنطقة بالذات لـم يكن بسبب الخشية من العرب بقدر ما كان خوفًا من البيزنطيين. وينبغي التنبيه إلى أنَّ كثرة الأخبار القائلة بأنَّ جرجير قد يكون ضرب السكة على وجهه إعلانًا لاستقلاله عن بيزنظة لا تؤيدها المعلومات الأثرية رغم وفرة الكنوز البيزنطية المكتشفة إلى حدِّ الآن. فقد ظلَّت التواريخ العربية تتحدث إلى القرن الثاني عشر عن الدينار الجرجيري، ولكن دون أنْ تحدِّد هل المقصود بذلك الوزن المعلوم للدينار، وهو (4.40)، (أربع غرامات وأربعون مليغرام)، أم إنَّ المقصود السكة التي ضربها جرجير لدى انفصاله ([8]).
فبأية معنويات واجه (ملك إفريقية) العرب؟
من المهم أنْ نُحلِّلَ في هذا الإطار الدور الموكول إلى جرجير بصفته أبًا، وإلى ابنته التي عُرضت كجائزة لجند الفريقين المتحاربين.
* مصير ابنة جرجير:
لدراسة الأمر؛ سعينا إلى الاطلاع على كلِّ النصوص العربية التي تناولت الحدث.
* النصوص:
كتب ابن عبد الحكم: «وكانت ابنة جرجير - كما حدَّثنا أبو عبد الله بن الحكم، وسعيد بن عفير -، قد صارت لرجل من الأنصار في سهمه، فأقبل بها منصرفًا قد حملها على بعير له، فجعل يرتجز:
يا ابنة جرجير تمشي عقبتك
إنَّ عليك بالحجاز ربتك
لتحملنَّ من قباء قربتك» ([9]).
وكتب النويري: «ولـم يرَ ابن الزبير عبد الله بن سعد في الحرب، فسأل عنه فقالوا: «هو في خبائه وله أيّام ما خرج منه»، ولـم يكن ابن الزبير قد اجتمع به، فمضى إليه وسلَّم عليه، وبلَّغه وصية عثمان، وسأله عن سبب تأخره. فقال: «إنَّ ملك الروم أمر مناديًا فنادى باللغة الرومية والعربية: معاشر الروم والمسلمين: من قتل عبد الله بن سعد زوجته ابنتي، ووهبت له مائة ألف دينار. وكانت ابنته بارعة الجمال، تركب معه في الحرب، وعليها أفخر الثياب، وتحمل على رأسها مظلة من ريش الطاووس، وغير خافٍ عنك من معي، وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام، ولا آمن أن يرغِّبهم ما بذل لهم جرجير فيقتلوني، فهذا سبب تأخري». فقال له ابن الزبير: «أزل هذا من نفسك، وأمُر من ينادي في عسكرك ويُسمع الروم: من قتل الملك فله ابنته ومائة ألف دينار، وواحدة بواحدة». فلمَّا سمع ملك الروم النداء، انتقل ما كان عبد الله يجده من الخوف إليه [...]؛ فانهزمت الروم، وقتل ملكهم ... وأسرت ابنة الملك، وأتي بها إلى عبد الله بن سعد، فسألها عن أبيها. قالت: «قتل»، قال: «أتعرفين قاتله؟» قالت: «نعم؛ إذا رأيته عرفته». وكان كثير من المسلمين ادَّعوا قتله. فعرض عليها من ادَّعى قتله. فقالت: «ما من هؤلاء من قتله»، فأحضر ابن الزبير، فلمَّا أقبل قالت: «هذا قاتل أبي». فقال له ابن سعد: «ما منعك أن تعلمنا بذلك لنفي بما شرطناه؟»، فقال: «أصلحك الله! ما قتلته لما شرطت، والذي قتلته له يعلم ويجازي عليه أفضل من جزائك، ولا حاجة لي في غير ذلك». فنفَّله ابن سعد ابنة الملك، فيقال إنَّ ابن الزبير اتخذها أمَّ ولد» ([10]).
وأخبر ابن عذاري: «فلمَّا رأى جرجير خيل العرب، اشتد رعبه وأهمَّته نفسه. فأخرج ديدبانه ([11])، وصعد فيه يشرف على العساكر ويرى القتال، وأمر ابنته فصعدت الديدبان، وسفرت عن وجهها. وكان عُدَّة خدمها اللاءي صعدنا الديدبان أربعين جارية، في الحلي والحلل، من أجمل ما يكون. ثمَّ قدَّم كراديسه، كردوسًا كردوسًا، وهو تحت الديدبان، ثمَّ قال لهم: «أتعرفون هذه؟»، فقالوا: «نعم! هذه سيِّدتُنا ابنة الملك، وهؤلاء خدمها!»، فقال لهم: «وحقّ المسيح ودين النصرانية! لئن قتل رجل منكم أمير العرب عبد الله بن سعد، لأزوِّجه ابنتي هذه، وأعطيه ما معها من الجواري والنعمة، وأنزِّله المنزلة التي لا يطمع فيها أحد عندي». وما زال ذلك في قوله، حتى مرَّ على مسامع خيله ورجله، فحرَّض بذلك تحريضًا شديدًا». وإنَّ عبد الله بن سعد لـمَّا انتهى إليه ما فعل جرجير، وما كان من قوله، نادى في عسكره، فاجتمعوا، فأخبرهم بالذي كان من جرجير. ثم قال: «وحقُّ النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - لو قتل أحد منكم جرجير نفَّلته ابنته ومن معها [...]، وذكر أشياخ من أهل إفريقية أنَّ ابنة جرجير لـمَّا قتل أبوها تنازع الناس في قتله، وهي ناظرة إليهم، فقالت: «ما لي أرى العرب يتنازعون!»، فقيل لها: «في قتل أبيك!»، فقالت: «قد رأيت الذي أدرك أبي فقتله»، فقال لها الأمير ابن أبي سرح: «هل تعرفينه؟»، فقالت إذا رأيته عرفته!»، قال: فمر الناس بين يديها، حتى مرَّ عبد الله بن الزبير، فقالت: «هذا والمسيح! قتل أبي!» [...] ،فنفله ابن أبي سرح ابنة الملك جرجير. فيقال إنَّه اتخذها أمَّ ولد» ([12]).
وذكر ابن ناجي: «وقيل إنَّه لـمَّا حضر القتال، أخرج جرجير ابنته وألبسها حليَّها وثيابها وأسفر عن وجـهها. وكان عدَّة خدمـها اللاتي صعدن معها الديدبان أربعين خادمًا. قال جرجير المـلك: أتـدرون من هذه؟ فقالوا: نعم يا سيِّدنا، هذه ابنة الملك، وهؤلاء خدمها، فقال لهم: وحق المسيح والنصرانية، لا يقتل عبدَ الله بن سعد رجل منكم إلَّا زوجته ابنتي، وسقت إليه ما معها من الخدم والحليِّ، وأنزلته المنزلة التي لا يطمع فيها أحد عندي. فلم يزل يقول ذلك حتى مشى على جميع رجاله، فحرَّض بذلك الروم تحريضًا كثيرًا، فلمَّا انتهى إلى عبد الله بن سعد ما فعل جرجير، نادى في عسكره وأخبرهم بالذي كان من جرجير. ثم قال لهم: وحق محمد ابن عبد الله، لا يقتل رجل منكم جرجير إلَّا نفلته ابنته ومن معها» ([13]).
أمَّا المالكي؛ فقد أورد عدة روايات متفاوتة التفاصيل، بعضها قصير حيث اختصر الحدث في ما آل إليه من تنفيل عبد الله بن الزير ابنة جرجير. ومع ذلك نعثر لديه على رواية تتطابق مع الرواية المذكورة آنفًا في حين أورد رواية أخرى تبدو أنَّها الرواية الأصلية بمقتضى أنَّها تخبر أنَّ: «ابنة الملك أشرفت في عسكرهم (العرب) فاستقلتهم، فقالت لأبيها: «لا تسرع بالقتل في هؤلاء، وأنْحلنيهم» ([14])، فقال: «قد أنحلتكهم». فالتقوا وهي تنظر، فهزم الله المشركين، وقتل أبوها جرجير وهي تنظر، فتنازع الناس في قتله. فقالت: «ما للناس يتنازعون؟»، فقيل لها: «في قتل أبيك»، فبكت وقالت: «قد رأيت الذي أدركه وقتله». فقال لها عبد الله بن سعد: «هل تعرفينه؟»، قالت: «إذا رأيته عرفته»، فأخذ عبد الله بن سعد الناس بالعرض، فمرُّوا بين يديها وهي تنظر، حتَّى مرَّ عبد الله بن الزبير، فقالت: «هذا قاتل أبي» [...]، فنفله ابن أبي سرح ابنة الملك [...]، وقيل: إنَّه لـمَّا حضر القتال أخرج جرجير ابنته، فألبسها حليَّها وثيابها وأسفر عن وجهها، فكان عدة خدمها اللاتي صعدن معها الديدبان أربعين خادمًا، فقال لهم جرجير الملك: «أتدرون من هذه؟»، فقالوا: «نعم سيِّدَنا! هذه ابنة الملك، وهؤلاء خدمها»، فقال لهم: «وحق المسيح والنصرانية، لا يقتل عبد الله بن سعد منكم رجل إلَّا زوجته ابنتي وسقت له ما معها من الحلي والخدم، وأنزلته المنزلة التي لا يطمع فيها أحد عندي» [...] فحرض بذلك الروم تحريضًا كبيرًا. فلمَّا انتهى إلى عبد الله بن سعد ما فعله وقاله جرجير نادي في عسكره، وأخبرهم بالذي كان من جرجير، ثم قال لهم: «وحق محمد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يقتل أحد منكم جرجير إلَّا نفلته ابنته وما معها» ([15]).
وروي ابن الشمّاع: «قيل: إنَّه لـمَّا نزل المسلمون لقتال جرجير، أبرز جرجير ابنته، وقد كانت من أجمل النساء، فقال من يقتل عبد الله بن سعد؛ فله نصف ملكي، وأزوِّجه ابنتي، فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال: أنا أصدق من العلج، وأوفى بالعهد منه، من يقتل جرجير؛ فله ابنته. فقتله عبد الله بن الزبير، فدعا عبد الله بن سعد ابنته، فقيل: إنَّه اتخذها أمَّ ولد ابن الزبير» ([16]).
وأخيرًا؛ ذكر محمود مقديش: «ونفل عبد الله بن أبي سرح عبد الله بن الزبير ابنة جرجير؛ لأنَّه قتل جرجيرًا» ([17]).
* الخلاصة:
يُمكِنُنا أن نستخلص من هذه المدوَّنة الحضور الفاعل لابنة جرير. إنَّها تحضر في هذه المدوَّنة في صورة امرأة نبيلة فاخرة الثياب، بارعة الجمال، كثيرة الخدم. وقد شهدت المعركة التي كانت تدور تحت نظرها وهي جالسة على أريكة. دورها هو نفس دور الأيقونات التي اعتادت مصاحبة الجيش البيزنطي لتأمين النصر ([18]). لقد جعلت النصوص العربية (معركة سبيطلة) مرهونة بها. فالنصر سيكون حليف المقاتل الذي ستزداد قدراته القتالية اهتياجًا سعيًا للظفر بها. لقد أسندوا لها نفس الدور التهييجي للطاقات القتالية الذي كانت تقوم به النساء العربيات اللواتي كُنَّ يشهدنَ كلَّ المعارك حتى البعيدة والخطيرة. من ذلك: أنَّ معاوية أُمر باصطحاب زوجته إذا أراد فتح جزيرة قبرص، وأنَّ أحد أصحابه، وهو عبادة بن الصامت قد شهد وفاة زوجته أم حرم بنت ملحان على سواحل قبرص. وقد صار قبرها مع الأيام مزارًا ومحجًّا لمسلمي الجزيرة إلى اليوم ([19]).
لقد أولت النصوص العربية هذا الحدث اهتمامًا بالغًا متغاضية عن تفاصيل المعركة؛ إذ لـم تهتم سوى بعدد الجنود البيزنطيين الذين كان عددهم - وكالعادة - أكثر بكثير من عدد الجنود العرب. أمَّا سير المعركة؛ فقد اختصر في بعض الجمل المقتضبة. وفي المقابل حضرت التفاصيل بكثافة عند الحديث عن ابنة جرجير.
ألحَّت هذه النصوص على سفورها، فرآه البعضُ أمرًا مدبَّرًا خصوصًا إذا علمنا أنَّ المرأة العربية لا تنزع حجابها إلَّا أمام محارمها أو عبيدها، وهكذا؛ فإنَّ سفور ابنة جرجير هو علامة احتقار لأولئك الذين يسميهم البيزنطيون «عبيد سارة» Sarrasins. وبهذا الصنيع دِيس شرف العرب فوجبت الحرب. أمَّا البعض الآخر فرأى أنَّ البطريق جرجير هو الذي أسفر عن وجه ابنته، ففهم ذلك على أنَّه علامة احتقار جرجير للعرب؛ إذ يعتبرهم من قبيل العبيد الذين يجوز للنساء السفور أمامهم. ولكن سلوكه هذا يشينه كأبٍ - وبالأخص كملك - جلب العار إلى ابنته وأهله. وتلك حجة أخرى على شرعية الفتوحات العربية، فمجتمع إفريقية الذي يمثله جرجير مجتمع مشرك همجي وكافر؛ لذلك فهو يستأهل الفتح والإسلام.
لنذكِّر بأنَّ الحجاب كان منذ الجاهلية لباسًا مميزًا للمرأة الحرة. ومع مجيء الإسلام أصبح حكرًا على المرأة المسلمة الحرَّة لا الأمة، فالإماء المسلمات وُجدن بما أنَّ نصوص الفقه تقول بأنَّ الأمة يجب أن تصلِّي وأن تتنقَّل سافرة ([20]). هؤلاء الإماء لا يمكن أن يكنَّ موضوع شهوة الرجال، ولا يمثلن خطرًا على النظام الاجتماعي والأخلاقي، بل ربما يكنَّ في خدمته؛ إذ يصرفن نظر الرجال عن الحرائر. إنَّ الأمَة التي ترتدي الخمار يمكن أن يُنظر إليها على أنَّها خرقت النظام الاجتماعي والقواعد الأخلاقية. وهكذا؛ فإنَّ ظهور ابنة جرجير سافرة من على الديدبان وقبولها بأن تكون هدية لمن يقتل قائد الحملة الإسلامية لا يمكن إلَّا أن ينال منها في نظر المؤرخين العرب ويبيح أسرها. بل ويزيل العقبات أمامهم للسير قدمًا، فالمجتمع الذي يواجهونه لا يعرف الشرف الذي عرفه العرب منذ الجاهلية وعززه الإسلام الناشئ.
أمّا بخصوص مصير الأميرة؛ فلدينا روايتان، فحسب البعض: فقد كانت من نصيب عبد الله بن الزبير، حملها إلى الحجاز، وحسب آخرين فقد نُفِّل بها مقاتل من الأنصار، ولكنَّها انتحرت، وهي في الطريق إلى الحجاز.
ليس مُهمًّا لمن نُفِّلت، ولكنَّ المهم أن نعرف نهايتها. نصَّان يخبراننا بأنَّها صارت أمَّ ولدِ ابن الزبير، ممَّا يعني أنَّها اندمجت في المجتمع الجديد، فحازت وضع امرأة حرَّة، فوفق الفقه الإسلامي؛ فإنَّ المرأة السبيَّة أو الأمَة التي تُشترى تصبح آليًّا حرَّة عندما تضعُ مولودًا ذكرًا؛ إذ يخيَّرُ الأبُ بين أن يحتفظ بها زوجة شرعية أويعتقها ([21]). ولا مجال بعد ذلك لاعتبارها أمة. وهكذا، وحسب هاته الرواية؛ فقد اندمجت ابنة جرجير في المجتمع الإسلامي رغمًا عنها.
الرواية الثانية تقول: بأنَّ الأميرة قد انتحرت بأنْ ألقت نفسها من على الدابة التي كانت تركبها، فدقَّت عنقها، وذلك عندما قال لها سيِّدُها [مرتجزًا]:
يا ابنة جرجير تمشي عقبتك
إنّ عليك بالحجاز ربتك
لتحملنَّ من قباء قربتك
لدينا ثلاث روايات مختلفة - على الأقل - لهذه الأبيات، ولكنَّها تُجمع على أنَّ الأميرة حملت إلى الحجاز، وعلى ما ينتظرها هناك (جلب الماء من قباء). هذه الرواية تضع نهاية الحدث مطابقة لخُلق الأميرة التي وصفت بأنَّها متكبرة، أسفرت عن وجهها عمدًا، واثقة من نصر جنود أبيها، ومطالبة والدها بأن يُنحلها الجنود العرب، وبذلك تظل رغم هزيمتها امرأةً فاضلة أَبَتِ الذل وفضلت الهلاك.
إنَّ لسفور الأميرة معانيَ عديدةً؛ فقد يكون تنبؤًا بفتح إفريقية التي أضحت بفضل انفصال جرجير مقاطعة مكشوفة لا يمكنها التعويل على مدد بيزنطة وأعمالها غرب المتوسط. ولكن هذا الانكشاف يعني أيضًا أنَّ إفريقية تعرض خيراتها وتدعو الفاتحين إليها، فتجعل حملات العرب مشروعة.
ويمكننا أن نعمِّق هذه المقايسة بين الأميرة والبلد، فنقول: «لقد أدمجت إفريقية رغمًا عنها في الدولة العربية الإسلامية الناشئة، فكانت علاقتها بها مشوبة بالفتن قبل الفتح النهائي وبعده. وهكذا كان التمرُّد والخضوع والطاعة، ونكث العهود ديدن إفريقية في علاقتها بعواصم الخلافة الثلاثة: المدينة، ودمشق، وبغداد».
الخاتمةُ
لقد كانت (معركة سبيطلة) خسارة لثلاثة أطراف:
هي - أولًا -: خسارة للإمبراطورية البيزنطية؛ إذ حُرمت من أنأى مقاطعاتها عن ساحة معاركها الرئيسية في الشرق. والتي كان يمكن أن تكون الملجأ في حال سقوط القسطنطينية؛ وإذ انسلخ الوالي البطريق جرجير عنها وعصى القيصر.
وثانيًا هي: خسارة لجرجير؛ إذ فقد حياته في معقله، أو في نواحي سبيطلة، والأهم من ذلك فقدانه مُلكَه وشرفَه.
وثالثًا هي: خسارة للعرب الذين أضاعوا بقتلهم الملك محاورًا متعاونًا، فوجدوا أنفسهم في مواجهة سلطة مجزأة ومتشظية.
وهكذا قامت في إفريقية سلطة متعددة الزعامات؛ فالأهالي ثاروا وقاوموا مثلما قاومت ابنة جرجير السافرة المسبية، ففضلت الموت على الخضوع. لقد اكتشف العرب بعد هذه المعركة إفريقية بروعتها وخيراتها وبرفضها الخضوع لأسيادها الجُدد لمدة تربو عن النصف قرن عاشتها في القلاقل والخراب.
-------------
([1]) العنوان الأصلي للمقال هو: Une princesse dévoilée, la fille de Grégoire à Sbeïtla in Colloque Histoire des Hautes steppes, Tunis, 2006.. ملتقى السباسب العليا، منشورات معهد التراث، تونس 2006.
([2]) هرقل (Héraclius) (575 - 641م) حكم الإمبراطورية الرومانية الشرقية من (610م) إلى (641م). لمزيد التفاصيل راجع:
HediSlim, AmmarMahjoubi , Khaled Belkhoja; Histoire Générale de la Tunisie, Sud Editions-Tunis 2010, T.1.p. 415 et suite. (المترجم).
([3]) عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، «فتوح إفريقية والأندلس»، تحقيق عبد الله أنيس الطباع، مكتبة المدرسة ودار الكتب اللبناني، بيروت (1964م)، (ص/ 35).
([4]) «في سنة 6138 من بداية الخلق (سبتمبر 646 - 31 أوت 647) ثار سكان إفريقية بقيادة البطريق جرجير ضد الامبراطورية، وفي سنة 6139 (سبتمبر 647 - أوت 648) هاجم عبيد سارة sarrasins (العرب) إفريقية فهزموا المتمرد جرجير وقتلوه وأجلوا جنده عن إفريقية. ثم انصرفوا بعد أن فرضوا ضريبة على أهل إفريقية»: Théophane, The chronicle, trad. HarryTurtledove, University of Pennsylvania Press, Philadelphia, 1982, p. 42.
([5]) أبو بكر المالكي، «رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية وزهَّادهم ونسَّاكهم وسير من أخبارهم وفضائلهم وأوصافهم»، تحقيق بشير البكوش، (ط/ 2)، دار الغرب الإسلامي، بيروت (1994م)، (1/ 21).
([6]) استعمل المؤلف عبارة (Empire) التي تترجم عادة بـ (إمبراطورية). ولـم نعثر على العبارة في النص الذي أحال عليه، بل وجدنا عبارة «ملك عظيم». (المترجم).
([7]) ابن الأثير، «الكامل في التاريخ»، تحقيق أبو الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت (1987م)، (3/ 453).
([8]) قدم حسن حسني عبد الوهاب وصفًا للدينار الجرجيري، ولكن دون ذكر مصادره، فهل سنحت له فرصة رؤيته أم هو تصوُّره قياسًا على النقود البيزنطية المعروفة؟ راجع: «النقود التونسية» في «ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية»، (ط/ 2)، مكتبة المنار، تونس (1972م)، (1/ 398، 399).
([9]) ابن عبد الحكم، «فتوح مصر وإفريقية»، (ص/ 38).
([10]) شهاب الدين النويري، «نهاية الأرب في فنون الأدب»، تحقيق عبد المجيد ترحيني، دار الكتب العلمية، بيروت، (24/ 6 - 8). وبخصوص «أم ولد» انظر:
M.T.Mansouri “Les femmes d’originebyzantine "les Roumiyyat" sous les abbassides: une approche onomastique” in Journal of Oriental and AfricanStudies, Athènes, 11, 2000 - 2002 pp. 169 - 186.
والعمل منشور كذلك في: Mobilité des hommes et des Idées en Méditerranée, Tunis , 2003, pp. 153 - 169.
([11]) الديدبان: كلمة فارسية معرَّبة مركبة من ديد، أي: نظر، وبان، أي: صاحب، وتعني: الرقيب والطليعة، والديدبان: شكل يصنع من عود على هيئة البرج. راجع القواميس العربية، و كتاب الألفاظ الفارسية المعربة تأليف السيّد ادّى شير، (ط/ 2) دار العرب للبستاني، القاهرة - ملتقي أهل الحديث، بيروت (1908م)، (ص/ 61). (المترجم).
([12]) ابن عذاري المراكشي، «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب»، تحقيق ومراجعة ج.س. كولان و إ. ليفي بروفنسال،(ط/ 3)، دار الثقافة بيروت (1983م)، (1/ 10 - 13).
([13]) أبو زيد الدباغ وأبو القاسم بن ناجي، «معالـم الإيمان في معرفة أهل القيروان»، القاهرة (1968م)،(1/ 37).
([14]) جاء في «لسان العرب» مادة (ن ح ل): «والنُّحل - بالضم -: إعطاؤك الإنسان شيئًا بلا استعاضة. وعمَّ به بعضهم جميع أنواع العطاء. وقيل: هو الشيء المعطى. وقد أنحلته مالًا ونحلته إيَّاه. ونُحل المرأة مهرها». (المترجم).
([15]) أبو بكر المالكي، «رياض النفوس»، (1/ 21 - 23).
([16]) محمد بن أحمد الشمّاع، «الأدلة البينية النورانية في مفاخر الدولة الحفصية»، تحقيق الطاهر بن محمد المعموري، الدار العربية للكتاب، تونس (1984م)، (ص/ 42).
([17]) محمود مقديش، «نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار»، تحقيق علي الزواري ومحمد محفوظ، دار الغرب الإسلامي، بيروت (1988م)، المجلد الأول، (ص/ 207).
([18]) الأيقونات (Icones) هي صور وتماثيل للمسيح والعذراء والقديسين كان المحاربون البيزنطيون يأخذونها معهم للحماية وجلب النصر. لمزيد التفاصيل راجع: جان كلود شينيه، «تاريخ بيزنطة»، ترجمة جورج زيناتي، (ط/1)، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت (2008م)، (ص/ 65، وما بعدها). (المترجم).
([19]) M.T.Mansouri, Chypre dans les sources arabes médiévales, Nicosie 2001.
([20]) عبد الرحمن الجزيري، كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»، (ط/ 2)، دار الكتب العلمية، بيروت (2003م) (1/ 171، وما بعدها). (المترجم)
([21]) انظر على سبيل المثال: مالك ابن أنس، «الموطأ»، كتاب العتق والولاء، باب عتق أمهات الأولاد وجامع القضاء في العتاقة. (المترجم).
-----------
بقلم/ د. محمد الطاهر المنصوري
ترجمة/ د. محمد الرحموني
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: