قرار حركة النهضة بقيادة الشيخ راشد الغنوشي بشأن فصل الديني عن السياسي والتحول من جماعة إسلامية إلى حزب سياسي ديمقراطي، أثار لغطا كبيرا في تركيا حول حقيقة هذه الخطوة والرسائل التي تحملها تصريحات الغنوشي التي انتقد فيها "الإسلام السياسي"، لأن الأتراك الإسلاميين يتابعون عموما جميع التطورات المتعلقة بالحركات الإسلامية في العالم، ويرون أن النموذج التونسي الناجح في تفادي رياح الثورة المضادة ولو بالانحناء قليلا يستحق المتابعة والدراسة والتحليل، كما أن زعيم النهضة الذي تمت ترجمة كتبه إلى اللغة التركية له مكانة خاصة عندهم، بالإضافة إلى وجود أوجه التشابه بين البلدين اللذين تعرضا لتسلط العلمانية المتطرفة لسنين طويلة.
العلمانيون الأتراك فرحوا بتصريحات زعيم النهضة واعتبروها انتصارا لهم ضد الإسلاميين، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فقالوا إنها "نهاية الإسلام السياسي". وأما الإسلاميون فحاولوا أن يفهموا ويتفهموا قرار حركة النهضة الأخير، ومبرراته، ودلالاته، وما الذي يقصده الغنوشي بالضبط في تصريحاته حول هذا القرار. وما زال الجدل يدور بين الكتاب والمثقفين الأتراك حول ما توصلت إليه الحركة الإسلامية التونسية.
هناك أسئلة كثيرة أثارتها خطوة حركة النهضة الأخيرة، كما أن انتقادات وجهت إلى الحركة وزعيمها. وجاء رد الحركة على تلك الانتقادات على لسان الشيخ الغنوشي في مقال نشره موقع عربي 21 قبل أيام، ووصف فيه الغنوشي الانتقادات الموجهة لقرار الحركة الأخير بــ"رد فعل مبتسر متسرع". وبعد أن لفت إلى نشأة تنظيمات إسلامية شمولية "تختزن داخلها تمثيل كل أبعاد المشروع الإسلامي الدعوية والسياسية والخيرية وحتى العسكرية"، بالتوازي مع بروز أنظمة شمولية كالنازية والشيوعية والفاشية والقومية، قال متسائلا: "فماذا كسب الإسلام من هذه التنظيمات الشمولية غير البلاء؟! ألم تلاحق الأحزاب الإسلامية تهمة توظيف الدين والمساجد؟".
وكأحد المتابعين للحركات الإسلامية، استوقفني في رد الغنوشي على الانتقادات استخدام عبارات تشير إلى التعميم وعدم التطرق إلى الظروف الخاصة بتونس، لأنه يوحي أن زعيم النهضة يرى ضرورة فصل الأنشطة الدينية والدعوية من السياسية في كل أنحاء العالم الإسلامي، بغض النظر عن الظروف المختلفة التي تنشط فيها الجماعات الإسلامية، كما أن قوله: "فماذا كسب الإسلام من هذه التنظيمات الشمولية غير البلاء؟"، يعني تجاهل الإرث الكبير الذي بنته الجماعات الإسلامية طوال العقود، ويذكِّرني قول الجحا: "أليس للص أي ذنب؟"، بعد أن دخل لص بيته وسرق حماره وبدأ الناس يعاتبونه: "لماذا لم تقفل الباب؟" و"أين كنت عندما سرق الحمار؟".
الجماعات الإسلامية، على الرغم من أخطائها، لا يجوز تحميلها مسؤولية جميع البلايا التي حلت بالعالم الإسلامي، كما لا يمكن تجاهل الخدمات التي قدمتها تلك الجماعات إلى الشعوب المسلمة. وحتى أخطاء تلك الجماعات يمكن أن يستفاد منها في كشف مكامن الخلل ومعالجتها وعدم تكرار الأخطاء نفسها في المستقبل. وفي التجربة التركية، مدرسة "مللي غوروش" التي جمعت تحت مظلتها الأبعاد الدعوية والسياسية والخيرية للمشروع الإسلامي، تخرج منها سياسيون أسهموا في نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية.
رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان ورفاقه حين انشقوا عن تيار الراحل نجم الدين أربكان رحمه الله لم يتحدثوا فيه ولا في تياره بكلمة سيئة، على الرغم من الانتقادات الشديدة التي وجهها أربكان وأقطاب تياره إلى أردوغان وحزب العدالة والتنمية. بل اكتفى أردوغان بالقول: "خلعنا ذاك القميص"، في إشارة إلى التخلي عن أيديولوجية تيار أربكان، وتبني خط سياسي مختلف، دون أن يخوض في التفاصيل، وركَّز على الإنجاز والعمل لتغيير وجه تركيا بمشاريع عملاقة.
أما تهمة "توظيف الدين والمساجد" أو "استغلال الدين لأغراض سياسية"، فهي تهمة فضفاضة يتم استخدامها في محلها وغير محلها. وقد يتهم سياسي مسلم بتوظيف الدين لمجرد ذكره آية قرآنية في خطابه. وبالتالي، فمن الخطأ أن يجعل السياسي المسلم إبعاد تهمة "استغلال الدين" عن نفسه شغله الشاغل.
الصورة لدى المتابعين الأتراك لم تتضح بعد، وهذا يعني أن النقاش حول خطوة حركة النهضة الأخيرة سيستمر حتى تجسد الحركة قرارها بإجراءات ملموسة على أرض الواقع.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: