قراءة في كتاب: "وقف المرأة في عالم الإسلام
مقاربة جديدة لمكانة المرأة في المجتمع" لمؤلفه: محمد الأرناؤوط
قراءة: ملاك الجهني المشاهدات: 3470
لم يشهد أدب التراجم قلمًا نسائيًا شبيهًا بقلم عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، في تحليلاتها النقدية للمرويات التاريخية والأدبية المتعلقة بالمرأة المسلمة، كما في كتابها (تراجم سيدات بيت النبوة)، ومنها المرويات الشائعة عن سكينة بنت الحسين- رضي الله عنه-والتي وصفت بنت الشاطئ حياتها بأنها"الحياة التي راجت فيها مقولات خاطئة ضالة لم تصح في منطق ولا في تاريخ"[8].
هذا ما تذكرته وأنا أطالع كتاب (وقف المرأة في عالم الإسلام : مقاربة جديدة لمكانة المرأة في المجتمع)، لمؤلفه: محمد الأرناؤوط، الكتاب الذي لا تملك وأنت تطالع أخبار وقفيات النساء فيه إلا أن تعجب لحجم العطاء النسائي في عصور الإسلام الزاهرة، وتعجب في الآن نفسه للطريقة التي تم بها تشويه التاريخ الاجتماعي للمرأة المسلمة من قبل أطراف متخالفة، تَعَرَّض تاريخ المرأة بواسطتها لتشويهين ثقافيين، الأول: اجترحه بعض أدباء الإسلام حين أبرزوها في حكايا التنقُّص والخيانة والمجون، وهمشوا حضورها في مجالات أخرى، صمَّ فيها أولئك الأدباء آذانهم عن حكايا وخطابات صدرت عن نساء أخريات أو تضمنت أخبارًا عن نساءلم يجرِ تنميطهن أدبيًا، ومنهن نساء الطبقة العلمية اللاتي لم يكنَّ بمعزل عن المجتمع ولا التواصل مع الرجل شيخًا كان أو تلميذًا، في وسط حضرت فيه المرأة تلميذة وشيخة أيضًا، ومع ذلك لا نكاد نقف على وجود هاته النساء في عالم الأدب، ولولا ما حفلت به كتب التراجم التي ذكرتهن ولم تغيِّبهن أسوة بكتب الأدب لشككنا في وجودهن التاريخي.
ما يحملنا على التساؤل عن مهمة الأدب، وحقيقة ما يشاع من أنه مرآة تعكس الواقع الاجتماعي، فهل خرج الأدب منذ عهوده الأولى عن كونه صنفًا من صنوف الترفيه الاجتماعي يرتهن بالدرجة الأولى لمعايير الجاذبية وذوق المتلقي، وليس سجلاً تاريخيًا حقيقيًا معنيًا بالأساس بتوثيق الأخبار وسردها وقصِّها كما هي في الواقع؟ وهل يصح أصلاً خلط السجلين التاريخي والأدبي بجامع الأسانيد، أم أن الأدب كان معنيًا منذ عهوده الأولى بإنتاج أو انتقاء وتكثيف مجازات وحقائق دافقة بالمبالغات والإثارة، ما يجعلها بصفة أدق أكثر ملاءمة للرواج والتسويق والإمتاع منها للإخبار الصادق عن الواقع!
وبمدية الأدب نفسه تم التشويه الثاني اللاحق بتاريخ المرأة المسلمة، والذي اجترحه المستشرقون حين اختزلوا حياتها في حريم أنتجته المخيلة الاستشراقية، وصورت فيه المرأة آلة للمتعة، وهو تشويه مرتدٌ بدوره لدواوين التراث الأدبي الإسلامي ومستلهمٌ منها.
هذان المؤثران الرئيسان قلَّ من يسلم منهما من الباحثين المعاصرين في موضوع المرأة، ليقدم لنا قراءة موضوعية للمرأة المسلمة في التراث الإسلامي والتراث الاستشراقي على حد سواء.
قراءة لا تستحضرهما إثباتًا ولا نفيًا، ولا تهدف بالأساس لاستبدال نموذج مصطنع أو متخيل بأنموذج آخر لا يختلف عنه سوى بالإيجاب عوضًا عن السلب، فليس المطلوب من الباحث أن يوجِّه موضوعه لإبراز الخيِّرات والحكيمات من النساء، ويُغيِّب بالمقابل النموذج النسائي السلبي، زاعمًا أو مدعيًا أن التاريخ الإسلامي تاريخٌ معصوم لا تشوبه شائبة، فهذا الادعاء الذي يصوِّر مجتمعًا ملائكيًا لم يتحقق في مجتمع الصحابة، بل ولم يقدمه القرآن الكريم في النماذج النسائية في القصص القرآني. والمطلوب المفقود في حقيقة الأمر هو التوصيف الأكثر صدقًا وقربًا للواقع.
في هذا السياق الثقافي جاء كتاب الأرناؤوط ليقدم مقاربة جديدة لمكانة المرأة في المجتمع تتجاوز فيما يبدو هذين المنظورين وإن لم يصرح المؤلف بهما، فهل استطاع المؤلف فعلاً أن يتجاوز هذين المنظورين؟
هذا ما تهتم هذه القراءة باستجلائه، عبر تتبع تحليلات المؤلف نفسها لا ما ساقه من معلومات قيِّمة حول أوقاف المرأة المسلمة.
ونشير بداية إلى أن الكتاب الصادر عن دار جداول يقع في 237 صفحة من القطع المتوسط، وتتوزع مادته على قسمين: قسم للأبحاث وآخر للمقالات، والأبحاث كالمقالات كتبت في مناسبات متفرقة فيما يبدو، ولا ناظم لها سوى موضوعها الأساس (وقف المرأة)، ما يفسر غياب عنصر التسلسل والترتيب المنطقي الداخلي، كالتكرار غير المفيد، والحديث عن وقف النقود في أحد البحوث ثم توضيح مفهومه في بحث لاحق.
لم يكن كتاب الأرناؤوط توصيفًا بحتًا لأوقاف النساء، بل قدم المؤلف مقاربة جديدة كما نص في عنوانه، إذ شيَّد موضوعه تأسيسًا على منظور جندري أشار له في مقدمة كتابه بقوله: "في السنوات الأخيرة يزداد الاهتمام بدراسات الجندر في المنطقة حتى أصبح لدينا في عمّان مثلاً برامج أكاديمية ومراكز بحثية تحت مسمى (دراسات المرأة) التي تشمل مكانة المرأة في الإسلام، ودورها في عالم الإسلام، كما يتمثل في البيئات التي انتشر فيها الإسلام من أندونيسيا إلى المغرب، والتي برزت فيها خصوصيات مع مرور الزمن" [9].
ويضيف:" صحيح أن الإسلام واحد ولكن اجتهاد المسلمين كان يفضي إلى مجتمعات متنوعة تبرز في بعضها مكانة المرأة في السياسة والاقتصاد والمعرفة وتخفت في بعضها الآخر نتيجة للثقافة المجتمعية الموجودة وليس نتيجة للعقيدة الواحدة"[9].
وتأسيسًا على ماذكره يقول:"ولأجل التعرف على مكانة المرأة في المجتمعات المسلمة أو ذات الغالبية المسلمة، فقد اعتمدنا في السنوات الأخيرة على مقاربة جديدة لدراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، بالاستناد إلى مؤسسة الوقف، التي كانت حاملة حضارة المسلمين ومؤشرة على ثقافة البيئات المسلمة فيما يتعلق بالمرأة"[9].
بدأ المؤلف مقدمته بالحديث عن أنواع الوقف (الذري، والخيري)، كما ربط بين امتلاك المرأة للثروة ومشاركتها في المجتمع، لكنه لفت النظر إلى أن مجرد امتلاك المرأة للثروة "لا يضمن في حدِّ ذاته إسهام المرأة في الوقف بما له من دلالات مجتمعية مهمة، بقدر ما هو شرط أساسي يحتاج لثقافة مساعدة على ذلك تقدر مكانة المرأة في المجتمع وتفسح لها مجالاً للبروز. فقد أطلق الإسلام روحًا جديدة فيما يتعلق بالحض على الخير ومساعدة المحتاجين، واعتبر المرأة مساوية للرجل فيما يتعلق بحقها في التصرف بثروتها وذمتها المالية المستقلة، وهو ما أطلق إقبالاً من المرأة على الإسهام في (الصدقات) كما كانت تسمى الأوقاف الأولى"[10].
كما أثبت المؤلف ملحوظة مهمة في السياق نفسه حين عاد ليؤكد أن مكانة المرأة في المجتمع لا تتناسب دومًا مع ثروتها، ذلك أن "المكانة الأثيرة لزوجة الخليفة والثروة الكبيرة لها، لا تعني بالضرورة اهتمام أو إسهام صاحبتها بالوقف على الخير العام، كما هو الأمر مع بوران زوجة الخليفة المأمون التي كانت لها مكانة أثيرة واكتفت المصادر بالحديث عن ثروتها وبذخها دون أن تشير إلى دور سياسي أو إنفاق بعض ثروتها على الخير العام"[24].
ويعود المؤلف ليحدثنا عن المساواة التي رسخها الإسلام وطالتها يدُ الثقافات بالتغيير، فأحكام الوقف كما قعَّدها أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف لم تميز بين المرأة والرجل، ورغم ما ورد في كتاب الخصاف من روايات عن مشاركة الصحابيات في (الصدقات الأولى)، والتي يفترض أن تحفز المرأة المسلمة على الوقف، لكن الحقيقة بحسب ما يراه المؤلف هي وقوع تفاوت بين بيئة وأخرى، ودولة وأخرى، بسبب اعتبارات ثقافية لا دينية [12].
ولم يحدثنا المؤلف عن تلك الاعتبارات ولم يكشف عنها بل أشار لها بعبارات مجملة، مؤكدًا في أكثر من موضع أن الوقف لم يكن مؤسسة ذكورية، وقد سوَّى الإسلام بين الجنسين في التنافس على الخير [16].
وبعد تأكيده قاعدة المساواة في التنافس على الخير في الإسلام، بدأ المؤلف بالتفريع عليها فقرر واستثنى بناء على تحليلات غير متسقة منهجيًا، فبعد أن ذكر تأخر تقعيد أحكام الوقف التي اختلف فيها الصحابة واختلف فيها التابعون من بعدهم حتى نهاية القرن الثاني الهجري، أي بعد انتهاء الحكم الأموي الذي احتفظ خلفاؤه بموقف سياسي يترتب على الزواج بالجواري، يذكر المؤلف بعد ذلك أن المتغيِّر الأساس في البلاط العباسي هو الزواج بالجواري، وترشيح أبنائهن للخلافة بخلاف الأمويين الذين كانوا لا يستخلفون أبناء الجواري [17].
ويذكر المؤلف أن من بين سبعة وثلاثين خليفة عباسي لا يوجد سوى ثلاثة فقط لأمهات عربيات، هم أبو السفاح، والمهدي، ومحمد الأمين، ليرجح المؤلف بعدها أن "هذا المتغيِّر بما حمل من خلفيات إثنية (عرقية) وثقافية ودلالات سياسية، كان له دوره في بروز إسهام المرأة في الوقف خلال الدولة العباسية" [18].
فقد برز الاهتمام بالوقف كما ذكر المؤلف في الدولة العباسية في رأس الهرم، وكانت الواقفات من الجواري اللاتي أقبلن على الوقف لأمرين، أحدهما: أنهن حملن معهن ثقافة أعراقهن وموقفها الإيجابي من مشاركة المرأة في المجتمع، والآخر: رغبة الجارية في تخليد صورة إيجابية لها بما جمعت من ثروات خيالية [18].
وكما ربط المؤلف الوقف في الدولة العباسية الثانية في المشرق الإسلامي بالجواري، فقد ربط الوقف في الدولة العثمانية بنساء بيزنطة والأتراك القدماء، فيقول"ومع ظهور الدولة العثمانية، التي ورثت الدولة البيزنطية في آسيا الصغرى والبلقان، كان للإرث البيزنطي ومشاركة الأميرات البيزنطيات فيه، وإرث الأتراك القدماء، دوره في بروز مشاركة قوية للمرأة في الأوقاف، تعبر عن المكانة التي وصلتها المرأة في المجتمع والدولة وصولاً إلى عهد سليمان القانوني الذي يعتبر الذروة بالنسبة للدولة العثمانية وقوتها [14].
ويبدو أن المنظور الذي حاول المؤلف أن يوظفه في خدمة موضوعه عبر إبراز الوقف بوصفه شاهدًا على عدم هامشية دور المرأة ومكانتها في الإسلام، سيتحول لاحقًا لخدمة هدف ثقافي آخر يغضُّ من شأن شريحة أخرى من النساء.
فقد انزلق المؤلف في المفاضلة بين العرقيات (الإثنيات) الثقافية في العالم الإسلامي بينما كان يبرز مكانة المرأة في عالم الإسلام، وبدلاً من أن يبرز الدافع الديني الذي وحَّد بين الواقفات على مرّ العصور الإسلامية رغم اختلاف أعراقهن، أخذ يرد كل منجز إسلامي للعرقيات الثقافية السابقة على الإسلام الذي لم يزد على إحياء مناقبها، وبدلاً من أن يوقفنا المؤلف على الفوارق الجندرية التي مارستها الثقافات الأخرى ضد المرأة في العالم الإسلامي وأدت لضعف مساهمتها في الوقف، أخذ يؤول إنجازات المسلمات غير العربيات تأويلاً ذا نزعة (شعوبية) وعاها المؤلف أم لم يعيها، حتى جعل أشهر واقفة عربية وهي زبيدة زوجة هارون الرشيد متأثرة بخالتها الخيزران (الجارية ذات الأصول غير العربية)، مؤيدًا رأي مؤلفة كتاب: (ملكتان في بغداد :الخيزران وزبيدة)، وناقلاً قول صاحب كتاب (المرأة والمشاركة السياسية) عن زبيدة:"لا عجب أن تسير ابنة الأخت على نهج خالتها"[21].
ولن نقف طويلاً مع رأي الباحثة التي استشهد بها المؤلف حول الخيزران وزبيدة، والذي استفادته فيما يبدو مما ذكره (ول ديورانت) في قصة الحضارة حول هاتين الشخصيتين، كما فعلت فاطمة المرنيسي وغيرها من الباحثات والباحثين الذين التقطوا إشارة ديورانت واستثمروها في إبراز المشاركة السياسية للمرأة المسلمة، لا إبراز التفوق العرقي أو الإنجاز بالتبعية العرقية كما فعل صاحب كتاب وقف المرأة حين وظف هذه المقولات عرقيًا، ويعضد ما نذهب إليه أن المؤلف لم يستثنِ من مقاربته العرقية حتى أول واقفة عربية، وهي أروى الحميرية القيروانية زوجة الخليفة المنصور وأم الخليفة المهدي، والتي ذكر المؤلف أن إسهام الوقف في الدولة العباسية بدأ بها. ولا يخفى على القارئ إعجاب المؤلف بشخصية القيروانية التي تزوجها المنصور زمن اختفائه في المغرب قبل أن يستتب الأمر للعباسيين، وقد ذكر المؤلف أن المنصور تزوجها على ما وصف بــ(الصداق القيرواني)، وهو أن يجعل طلاق المرأة بيدها، وذكر أيضًا كيف حاول المنصور أن يجد مسوغًا للزواج على أروى فلم يُعْطَه، حتى إذا ماتت أُهديت له مائة بكرٍ لصبره عليها طيلة حياتها[19]. وبطبيعة الحال فلم تستوقف أي من هذه المرويات والأرقام المؤلف ولم تستثر حاسته النقدية.
وأروى القيروانية التي تم إبراز نزعتها النسوية كما هي العادة في الدراسات الجندرية،كانت قد أوقفت ضيعة على المولدات من الإناث دون الذكور، غير أن المؤلف جرَّد سبق القيروانية من أي أثر قد يمت لثقافتها العربية بأدنى صلة، وأرجعه إلى "أن الثقافة المحلية في الغرب الإسلامي (المغرب والأندلس) ساعدت منذ وقت مبكر على بروز مشاركة المرأة في الأوقاف"[19].
ولا يحتاج القارئ لمزيد تأمل ليدرك المراد بالثقافة المحلية للشعوب التي طرأ العرب عليها بعد الفتح الإسلامي وأثرت في ثقافتهم المشرقية، فليست الثقافة المحلية بالأصل سوى الثقافة (القوطية في الأندلس) والثقافة (الأمازيغية في المغرب).
والواقع أن الكتاب رغم ما احتواه من شواهد رائعة على مكانة المرأة في عالم الإسلام خرج من المقاربة الجندرية للمقاربة العرقية.
والمتأمل في تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية يدرك أن الحكم العربي الذي تسنمت فيه العربيات مكانة فريدة في الطبقة الحاكمة في تاريخ الإسلام لا يمثل سوى رقعة محدودةلم تلبث أن اكتسحتها الجواري المنحدرات من أصول غير عربية، وتلك الفترة المحدودة زمنيًا بالكاد تمكننا من إصدار الحكم على خيرية نسائها أو تعسف ثقافتها ضد المرأة، وهل تقارن الفترة الزمنية التي امتد خلالها حكم الأمويين بالمشرق بالفترة الزمنية التي تمددت خلالها الدولة العباسية!
أما ما امتد من الحكم العربي في الغرب الإسلامي (المغرب والأندلس) أرجع المؤلف إنجازات المرأة فيه -كما ذكرنا- لثقافات محلية غير عربية بالأصل.
ثم إن تأخر تقعيد أحكام الوقف وندرة الوثائق الخاصة بوقفيات النساء في أماكن عديدة من العالم الإسلامي، وحصر حدود البحث برقعة جغرافية معينة لم تشمل كافة حواضر الإسلام، أدت جميعًا إلى أحكام وتعميمات متسرعة وغير دقيقة من طرف المؤلف، وأدت من جهة أخرى إلى ترافع المؤلف عن تهم ضمنية وغير مصرح بها، فلا يغيب مثلاً عن القارئ الحضور الضمني لما يصف به المستشرقون العهد الإسلامي والتركي منه بخاصة من حبس النساء فيما يسمى بالحريم، وأن هذا الحريم برز واستحكم مع صعود العنصر غير العربي للحكم، كما لا يخفى على القارئ أن المرأة العربية في صدر الإسلام وقبل ظهور الحواضر الإسلامية الكبرى كانت تتحرك في نطاقات أوسع وتحيا في دوائر أقل من الحُجُب، والمؤلف يحاول إثبات خلاف ما يذكره المستشرقون، مؤكدًا عبر (مدخل الوقف) أن الثقافات الأخرى منحت للمرأة المسلمة مساحة أوسع للحركة الاجتماعية، ثم وباعتراف المؤلف نفسه يذكر كيف اختفت في عصور الحكم غير العربي أسماء النساء الأرستقراطيات أو نساء الطبقة الحاكمة وأصبحن يعرفن تبجيلاً بــ(الحرة أو الجهة أو الدار)، بينما عرفت نساء صدر الإسلام بما فيهن أمهات المؤمنين بأسمائهن ودون حرج أو تقليل مما تستحقه إحداهن من التبجيل والاحترام، وتنزلاً مع ما يفترضه المنظور الجندري للباحث فالمقارنة في هذه الميدان تنتهي لصالح المرأة العربية لا غير العربية، بل لن نأتي بجديد إن قلنا أن المتغير الذي ذكره المؤلف أسهم في تدهور مكانة المرأة العربية كما تشير البحوث المهتمة بهذا الموضوع من منظور جندري كذلك.
ويبدو أن المؤلف كان مشغولاً بدفع تهم استشراقية ضد المرأة المسلمة من العنصر غير العربي تحديدًا، وهو في الوقت نفسه متشربٌ بوعي أو عن غير وعي لمقولات استشراقية أخرى حرصت على التمييز والتفرقة بين المسلمين من منطلق عرقي، ما يشير إلى أن مقاربة المؤلف لمكانة المرأة اعتراها ما اعتراها مما حاد بها عن الموضوعية، ولم تختف الذاتية منها ولم تغب.
وإذا كان المؤلف قد انطلق من مقدمات صحيحة تتعلق باختلاف اجتهادات المسلمين واختلاف الثقافات في موقفها من المرأة، والذي هو واقعٌ متصورٌ ومشهود، فإن دراسة مكانة المرأة عبر تاريخ بالغ الضخامة كالتاريخ الإسلامي ذي الثقافات المتنوعة، تقتضي قدرًا أكبر من الاستقصاء والتحليل والكشف لموقف تلك الثقافات من المرأة ومواضع التفرقة وتمثلاتها، لا إطلاق الأحكام العارية عن الإثباتات.
كما أن الانزلاق في المفاضلة العرقية بين الثقافات التي ضمها العالم الإسلامي انزلاق في مفاضلة عقيمة، فكل الثقافات -رغم امتيازاتها- كانت حين كانت بالإسلام، ولا تُستثنى الثقافة العربية من ذلك.
وإذا كان السبب الذي دفع المؤلف للكتابة في أوقاف المرأة، هو وقوفه على أوقافٍ جميلة للمرأة في البلقان، كانت-كما يقول- سببًا لاهتمامه بالوقف، الأمر الذي يُفسِّر تعاطفه مع الواقفات غير العربيات[15].
فإن هذا التعاطف لا يبرر للمؤلف بحال التفسير الأحادي الذي طرحه بالمقابل، ولا التكلف والتعسف في تجريد الإنجازات النسائية العربية من أصالتها، وإعادة تأويلها لصالح العنصر غير العربي، مما يفصح عن نهج بعيد كل البعد عن روح البحث العلمي الموضوعي من جهة، والروح الإسلامية الجامعة من جهة أخرى.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: