العلمانية الفرنسية حينما تتحول لأحقاد ومحاكم تفتيش
عماد العبار - سوريا المشاهدات: 3846
قبل أيام، هاجمت الوزيرة الفرنسية المكلفة بحقوق المرأة لورانس روسينول بعض شركات الموضة العالمية التي تقوم بتصميم الملابس الإسلامية، واصفة إياها بالشركات غير المسؤولة لأنها تروّج «بحسب تعبيرها» لثقافة تغليف أجساد النساء ولنمط معين في الحياة.. وقد كانت الوزيرة قد أدلت قبل ذلك بتصريح أكثر خطورة تشبّه فيه المسلمات المحجبات بالعبيد السود، الذين يفضّلون الاستعباد، وهنّ بحسب تعبير الوزيرة متشدّدات بالضرورة وينتمين إلى الإسلام السياسي.
لا يعدّ صوت الوزيرة، وهي عضو في الحزب الاشتراكي الفرنسي، صوتا منفردا حيث تشاركها النظرة ذاتها ناتالي كوسكيوسكو النائبة في البرلمان عن حزب الجمهوريين المحافظ.. كما دعت الفيلسوفة الفرنسية إليزابيث بادينتير إلى مقاطعة الشركات المذكورة كنوع من المقاومة تجاه هذه الثقافة المرفوضة.
وبعيدا عن الأوساط السياسيّة، فبالإضافة إلى صدور قرار قبل سنوات يحظر ارتداء الحجاب في المدارس والمؤسسات الحكومية باعتباره رمزا دينيا، ثمة نظرة سيّئة يقابل بها حجاب المرأة المسلمة تكاد تكون عامّة على المستوى الاجتماعي الفرنسي، وتعيش المحجبات تبعات هذه النظرة مع كلّ محاولة للاندماج في الحياة الاجتماعية الفرنسية، أو الحياة الأكاديمية الجامعية، أو في مجالات العمل في القطاعين الحكومي والخاص. لا يستطيع عامّة الفرنسيّين النظر إلى الحجاب بوصفه يمثّل خيارا حرّا للمرأة، بل يُنظر إليه دوما بوصفه علامة لخضوعها مقابل سلطة الرجل، ولعلّ أخطر ما في هذا السياق هو الكلام السابق الصريح للوزيرة الذي تقارن فيه ما بين المحجّبات والعبيد السود، وهو يصب في خانة التنميط الذي يهدف إلى محاصرة اللواتي يدّعين بأنّهن اخترن الحجاب دونما إكراه من الأسرة أو المجتمع، فالمحجبة (بحسب تلك النظرة المتطرفة) امرأة خاضعة مستعبدة، إن كانت اختارت الحجاب أو أُكرهت عليه.
بداية، علينا أن نعترف أنّ مصادرة حقّ المرأة في الاختيار ظاهرة منتشرة في مجتمعاتنا على نطاق واسع، إن كان الأمر متعلقا بالحجاب أو بغيره من التفاصيل، لكنّ ما يمارسه غالبية العلمانيين الفرنسيين، ويقلدهم في ذلك، مع الأسف، كثير من علمانيّينا، هو وجه آخر من المصادرة والإكراه يتم فيه إجبار المرأة على «اللا حجاب» من خلال جعل الحجاب محصورا بين حالتين لا ثالث لهما: فهو إمّا مفروض على امرأة ترفضه ضمنا وتخشى الإفصاح عن رأيها، أو مفروض على امرأة تدافع عنه كما يدافع العبيد عن عبوديّتهم.
يزول استغرابنا من هذا الموقف «العلماني» المعادي لخيار المرأة في لباسها، إذا ما علمنا أنّ النظرة لغطاء الرأس، بوصفه علامة خضوع، تعود إلى أصول إنجيليّة، وبقليل من التدقيق سنجد أنّ هذا الموقف العلماني الجذريّ هو في صميمه موقف من نظرة الإنجيل تحديدا لغطاء الرأس، فلقد ورد في رسالة بولس الرسول إلى أهل كورثنوس في الإصحاح الحادي عشر من العهد الجديد التالي: «فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده. وأما المرأة فهي مجد الرجل، لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل، لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها، من أجل الملائكة».
وهنا يظهر أنّ موقف كثير من العلمانيين تجاه المسألة يخضع لعملية تنميط محكومة بإسقاطات غير واعية، وبقصور شديد في معرفة الفروقات بين دلالات غطاء الرأس في المجتمعات الإسلامية، وتلك التي نفهمها من خلال الآية السابقة من الإنجيل. ليس هذا فحسب، بل من المعيب على دعاة الفكر المتحرّر إطلاق الأحكام المسبقة بدون معرفة ما إذا كان النصّ القرآني يتّفق أم لا مع النص الإنجيلي في اعتبار المرأة خاضعة للرجل، وخلقت من أجله، وتحمل علامة خضوعها على رأسها.. وهنا ينبغي أن ندعو العلماني المتشدّد إلى التحرّر أولا من هيمنة موقفه من الإنجيل، فمن حيث المبدأ؛ يتعارض إسلام القرآن جوهريا مع القول بأنّ الرجل يمثل صورة الله، وأنّ المرأة هي مجرّد كائن خاضع خلق من أجل الرجل، وهو يتعارض بالمناسبة مع ما ورد في العهد القديم عن أصل الغواية وقصة التفاحة المعروفة في قصة الخلق، وتلك الأفكار، الواردة في العهد القديم، أُدخل كثير منها في بعض الروايات المتعارضة مع القرآن أصلا، التي نضعها في خانة الإسرائيليات الدخيلة على التراث الإسلامي بحكم الاحتكاك بين المسلمين وأهل الكتاب.
فاستخلاف الإنسان كان بحسب القرآن استخلاف نوع، ولم يكن استخلاف جنس قط.. أمّا الخطيئة فكانت مشتركة بين آدم وزوجته: « فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ»، بل إنّ العتاب كان مشددا على آدم أكثر من زوجته « فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». والاختلاف بين الجنسين ما هو إلا اختلاف في المهام والمواقع في الحياة الدنيا، وهذا يقتضي التكامل بينهما لا الخضوع..
لا أرمي من خلال مقالة قصيرة إلى استعراض جميع النصوص المتعلقة، ولا إلى مناقشة الآيات المتعلقة بالحجاب من وجهة نظر إسلامية، بل للإشارة إلى كون الموقف العلماني المتشدد تجاه الحجاب لم يكن حرّا على الإطلاق، بل كان يحكمه الاعتراض على نظرة الإنجـــيل لغطاء الرأس ولدور المرأة وأهليّتها، من دون مراعاة لوجود فروقات بين الثقافات والأديان والمجتمعات، وهو يتناقض أصلا مع أبسط مبادئ العلمانيّة الداعية إلى احترام خيارات الناس دونما تنميط وأحكام مسبقة، وبالوقوف على الحياد من معتقدات الجميع..
بتنا نعيش في عالم تحكمه التشنّجات السلفيّة والعلمانيّة وتضيق فيه مساحة تقبّل الآخر المختلف، فطرف يسعى إلى أسلمة العالم وفق مقاييسه التي تكاد لا تستوعب أكثر من 10 بالمئة من المسلمين أنفسهم، يقابله تشنّج يرغب في علمنة العالم بطريقة تكاد تكون أقرب إلى أسلوب المتشدّدين من السلفيّين، لاسيّما بعد أن علت أصوات فرنسيّة من سياسيّين ومثقفين تدعو إلى مقاطعة الشركات العالمية التي تقوم بتصميم الملابس الإسلاميّة لإجبارها على تغيير سياستها الاقتصادية. نعم .. وصل الأمر إلى هذا الحد.. وطالما أنّ أصوات الاعتدال تكاد تكون غير موجودة، يظهر أنّ العالم سيغدو مع استمرار الحال مكانا مثاليا لدعاة التطرّف من الجهتين.
--------
وقع تعديل العنوان الأصلي
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: