نقد أسس التدين البرجوازي: نماذج التدين السعودي والإيراني و التركي
عبد الرحمن أبو ذكري المشاهدات: 3645
البورجوازية (bourgoisie) لفظة فرنسية يتواتَر استخدامها في أدبيات علم الاجتماع، وفي الأدبيات الماركسيّة على وجه الخصوص. أهم دلالاتها وأكثرها شيوعًا هي الدلالة على طبقة اجتماعيّة مدينية تتكوَّن من الشرائح العليا والمتوسِّطة للطبقة الوسطى. طبقة من التجار وأصحاب الحرف والمهنيين تملك حدًّا أدنى من أدوات الإنتاج (رأس المال أو المعرفة التقنية أو المهارات الذهنية.. إلخ) يُتيح لها دخلًا "مستقلًا"، ويجعل منها مُنتجًا لفائض القيمة، ومن ثمَّ مُنتجًا للقيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية "المحافِظة"، وحارسًا عليها. وهي الطبقة التي قادت تاريخيًّا عمليّة التصنيع والتوسُّع الحضري في الغرب، وكانت نواة النظام الرأسمالي الليبرالي.
وقد شَهِدَ العالم الإسلامي، منذ سبعينيات القرن العشرين، عِدَّة تحوّلات اجتماعية واقتصادية اضطلعت بها طبقات بورجوازية وشبه بورجوازية جديدة، طبقات تماهَت مع عملية التحول الفوقي إلى النظام الاقتصادي الرأسمالي، والذي قاده الجيلان الثاني والثالث من النُخب ما بعد الكولونيالية؛ ومن ثمَّ سعَت تلك الطبقات لاستنساخ التجربة الأوروبية في إنجاز التغيير السياسي (والاجتماعي حسب توهُّمها) من خلال الهيمنة الاقتصادية، وذلك على خلفية الضمور الجمعي لمبدأ الحركة الدينية-الاجتماعية وتهمُّش مركزيتها، في وجدان المتدينين بدين الإسلام؛ بعد ضرب تنظيم الإخوان المسلمين في مصر للمرة الثانية عام 1965م. ولعل أبرز إفرازات تلك المرحلة هي تجربة البنوك "الإسلامية" وشركات توظيف الأموال، التي تضخَّمت إبّان عقدي السبعينيات والثمانينيات.
لكن التجربة التي أُجهِضَت في أكثر الدول العربية، قد احتفظت ببعض حيويتها في تركيا وماليزيا، وفي إيران وباكستان بدرجاتٍ متفاوتة؛ لتُثمِر أنظمةً براغماتية أكثر "اعتدالًا" وديمقراطية وانفتاحًا على الغرب، من الدول العربية؛ ولو اكتسى خطابها في بعض الأحيان بقشرة هويّاتية إثنية أو دينية.
وإذا كانت تجربة تحقيق الخلاص الفردي والاجتماعي من خلال النشاط الاقتصادي قد فشلت في العالم العربي، وأثمرت مسوخًا "إسلامية" في خارجها؛ فإنَّ ذلك يرجع لطبيعة الإسلام نفسه وطبيعة دوره، ليس بوصفه مُعاديًا للنشاط الاقتصادي؛ بل بوصفه مُناقِضًا ابتداء لمركزية أي نشاط إنساني في منظومة التوحيد، حاشا الدعوة إلى الله.
لكن هذا الفشل الذريع قد أدى ليس فقط لترسُّخ مركز الثقل السياسي والاقتصادي للعالم الإسلامي خارج العالم العربي، وهو ما بدأ مع حكم العثمانيين؛ بل أدى أيضًا لتراجُع دور العاصمة الثقافية الذي كانت تلعبه بعض الحواضر العربية، مثل القاهرة وبغداد ودمشق؛ لحساب مشروعاتٍ مذهبيّة هويّاتية مثل المشروعين السعودي والإيراني، أو حتى المشروع الذي يُمثله "الإسلام" التركي الأناضولي. وهي مشروعات مذهبيّة قُطرية اكتسبت زخمًا دوليًّا من خلال تمدُّدها اقتصاديًّا، بصيغةٍ رأسماليةٍ ترعاها دولة المنشأ؛ حتى حلَّت في روع الكثيرين محلَّ الحركة الإسلامية بوصفها حركة دعوية-اجتماعية بالأساس.
وبعبارةٍ أخرى؛ فإنَّ هذه المشروعات، السعودية والإيرانية والتركية، هي مسخ "إسلامي" من التمدُّد الرأسمالي للشركات الغربية العابرة للقارات في دول العالم الثالث. مسخ اكتسب شرعيته من تستُّره ببُعدٍ مذهبيٍ تبشيريٍ قُصِدَ به أصلًا إنتاج صيغ وديباجات "دينية" تحفظ مصالح الطبقات الحاكمة الجديدة، وذلك بتقويض فعالية الأمَّة الاجتماعية والسياسية من خلال تقويض مركزية مبدأ الحركة الدعوية-الاجتماعية، وفصم عرى ارتباطه بالإسلام، مع حصر الحركة المتجاوِزَة للحدود القطرية في المجال الاقتصادي المتدثِّر بالتبشير المذهبي، لتخدير الدهماء؛ ترفدها مشروعات تعليمية مثل المدارس التي ارتبطت بالبنوك الإسلامية السعودية، أو المدارس التي ارتبطت ببعض المنتمين إلى الإخوان المسلمين، أو المدارس المرتبطة بحركة فتح الله كولن ونشاطاتها الاقتصادية؛ وهي المدارِس "النخبوية" التي عُهِد لها ولمثيلاتها بتخريج تكنوقراط الطبقة الجديدة.
لقد لاحظ ماكس فيبر انتقال مركز ثِقَل الاقتصاد الأوروبي، عشية ما سُمي بالإصلاح الديني، من الدول الكاثوليكية إلى الدول البروتستنتية. كما لاحظ أنَّ نسبة البروتستنت في أي مجتمع أوروبي تنعكِس في مدى "تطوّر" نظامه الاقتصادي باتجاه المثال الرأسمالي. وبذا كانت طليعة عملية التصنيع (industrialization) والتوسُّع الحضري في الغرب بورجوازية بروتستنتية بدرجةٍ كبيرة، وهي من ثمَّ أنغلوسكسونية السمت بالدرجة ذاتها. وإذا كان فيبر يتقصّى بالأصل العلاقة بين الفكر الديني والسلوك الاقتصادي، كجزء من عملية ترشيد النظام الاقتصادي؛ فإنَّ التحول البيروقراطي لعملية الإدارة الحكومية، باتجاه تفكيك مركزيّة الإدارة، قد أدى لصعود النظام الديمقراطي البورجوازي بوصفه مكملًا سياسيًّا أساسيًّا لعملية ترشيد الفعل الاقتصادي، مكملًا لا يُمكن بحال إِغفال كونه أحد أهم العناصر التي ساهَمَت وتُساهِم في استقرار النظام الرأسمالي. فضلًا عن عوامل أخرى مثل هيمنة نموذج الترشيد المادي على المجتمع كما ساد في المصنع، وسيادة رؤية علموية مادية آلية للكون. الأمر الذي يؤدي في نهاية الأمر لنزع القداسة عن الكون والإنسان، وتقوّض الإيمان بالغيب، برغم كثافة حضور الديباجات العرفانية/الصوفية في خطاب هذه الطبقات.
هذه الباقة "الإصلاحية"، شبه المتلازمة، التي تُسرِّع معدلات علمنة المجتمع تنعَكِسُ بوضوحٍ في تبني المنتمين لطبقة البورجوازية المدينية أنماطًا "جديدة" من الاعتقاد الديني تُعبِّر عن وضعهم الاقتصادي. لتتجلى في ممارساتهم اللحظة النماذجيّة للتديُّن "الجديد"، المعبِّر عن الوضع الاقتصادي، بوصفه سعيًا للتمايُز عن "عوام" المتديّنين ليس بالمنجز الاقتصادي "الانعتاقي" فحسب؛ بل بميتافيزيقا طبقية-اقتصادية خاصة (وأحيانًا بمساجد خاصة كما في حالة فرقة القُبيسيات "النسوية" في الشام ومصر والخليج). وهي ميتافيزيقا طبقية تبرُز دومًا في كل أشكال التديُّن الوثنية، كما نجد عند المجوس والهندوس مثلًا. ذلك أنَّ التديُّن البورجوازي في حقيقته تطويع للدين، وتوظيف له؛ وليس طاعة لتعاليمه وامتثالًا لها.
ولعل المقولة الماركسية بأنَّ الدين "أفيون الشعوب" لا تنطبق على ظاهرة دينية بقدر ما تنطبق على التديُّن البورجوازي نفسه، فضلًا عن محاولات المعتنقين له توظيف مقولاته؛ لتخدير مُتمرِّدي القَدَريّة من الطبقات الأدنى. إذ يهدِف ذلك النمط من التديُّن السكوني لتبرير الانسحاب الاجتماعي-الحركي للطبقات التي تعتنقه، وطمأنة نفس الطبقات إلى أنها تُحقق إرادة إلهها بالنجاح الاقتصادي (أو الانتخابي!) الذي يخدم دعوتها. تلك الدعوة التي صارت هيكلًا أجوفًا هشًّا بغير مضمونٍ حقيقي، حاشا النشاطين الاقتصادي والانتخابي. إذ هو تديُّنٌ لا يتوجَّه لرضا الخالق وطاعته، بل لتحقيق الرفاه المادي والرخاء الاقتصادي، أو "السلام" الاجتماعي البراني الذي تَعِدُ به الديمقراطية البورجوازية. وهو بذلك يُسبِغُ على عملية الخلاص المادي بالأشياء هالة ميتافيزيقية تُقلل من التوترات النفسية للفرد، وتطيل عُمر النمط، وتصرف أنظار معتنقيه عن الخلل الناضح به اعتقادهم وحركتهم في الوجود.
ولهذا التديُّن عدّة سمات في المجال الإسلامي؛ نورِد منها التالي:
أولها: شيوع الاعتقادات الطهورية في معتنقيه، والتي تربِط النقاء العقدي النظري المتوهَّم ربطًا سببيًّا مُباشرًا بالنجاح البراغماتي داخل الدنيا، بحسب المعايير المادية. ومن ثمَّ كان بنو جلدتهم من أصحاب الاعتقادات "المشوَّشة" نظريًّا أبعد الناس عن رحمة إلههم، التي تتجسَّد في النجاح الدنيوي. وهو موقفٌ حدّي لا يتبنون مثله مع "الكافر" الأصلي. ومهما كانت الاعتقادات النظرية جذرية في طهوريتها، فإنَّ ذلك لا يحول دون تبني المتديّن البورجوازي لأي تصورٍ اقتصادي أو سياسي أو علموي، مهما كان في حقيقته معاديًا للإسلام؛ ذلك أنَّ "النجاح" في هذا التصور هو نفسه الإسلام، بمعنى أنَّ النجاح الدنيوي ليس مُجرد مرادف للإسلام؛ بل إنَّه يُعيد تعريف الإسلام وصياغة حدوده، ولو بشكلٍ غير واعٍ. وفي ذلك النزوع البراغماتي تستوي كل الفرق المعاصرة: الأشاعرة والسلفيون والاثنا عشرية والتبليغيون؛ بل والبُهرة الإسماعيليون!
ثانيها: اللجوء لعملية الأسلمة لتوفِّر ظهيرًا معرفيًّا للنمط الجديد، خصوصًا أسلمة الرؤية العلموية الغربية وذراعها الاقتصادي الرأسمالي. وهذا لا يرجع فحسب للضحالة المعرفية، ناهيك عن الجهل بحقيقة شرائع الإسلام، وحقيقة نواميسه؛ بل هي ضرورة يقتضيها الاطراد العملي للنسق، ولو كان أكثر هؤلاء "الجهال" من المشتغلين بما يُسمى "العلوم الإسلامية". ذلك أنَّ إعادة صياغة حدود الإسلام تحت وطأة الواقع المادي تُلزِم "المتديّن"، مُجتهدًا كان أو مُقلدًا، باللجوء للأسلمة أو القبول بها؛ وذلك ليطرد النسق السلوكي بغير توتُّراتٍ نفسية أو اختلالات اجتماعية. ولعل أهم وأخطر ما يؤسلمه التديّن البورجوازي على الإطلاق هو الرؤية العلموية الغربية، بحتمياتها ونمطيتها وطفوليتها الماديين؛ إذ يتعامل معها بوصفها بديلًا نظريًّا-ميتافيزيقيًّا حقيقيًّا للغيب الذي انكمش في وجدانه.
ثالثها: مركزية الخلاص البرّاني بالأشياء: بناء الحضارة المادية "الإسلامية"، واستعادة الريادة العلمية "الإسلامية"، والعمل الاقتصادي "الحر". هذا الانشغال باﻷشياء والأدوات والإجراءات والمنتجات البشرية يجعل الخطاب "الحضاري" السلطوي يربو في روع المنتمين بدلًا من الخطاب الحركي الاجتماعي؛ فالأول له ثمرة منظورة نظريًّا والثاني ثمرته مُغيَّبة كُليًّا؛ ليزدهر خطاب توظيف الإنسان لخدمة القائم بترشيد الواقع، الذي دشنه مالك بن نبي وطوَّره ورثته من دجالي التنمية البشرية الملتحين ورعاه محمد الغزالي وتبناه فتح الله كولن؛ وذلك في مقابل تهميش خطاب بناء الإنسان وتزكيته، لتيسير عروجه إلى الله. بل تصير التزكية أحيانًا مُجرَّد عمليّة تابعة ونتاج مباشر وحصري للتوظيف الدنيوي؛ أي إنَّ "المؤمن" في هذا التصوّر يُزكّي نفسه بفعلٍ دنيوي/علماني مادي محض، بقطع النظر عن موقفه من العبادات المفروضة.
رابعها: يَعتبِر هذا النمط الطهوري البورجوازي من التدين أنَّ عملية بناء الإنسان هي مجرد مرحلة قصيرة تنقضي، وأنَّ "صيرورة الكبد"، إن كان ثمت، هي صيرورة توظيف بطلها ليس هو الإنسان الربّاني؛ بل التكنوقراط العلموي الذي يتحرك بكفاءة في المجال الرأسمالي. ومن ثمَّ يلجأ "المؤمن"، في هذا التصوّر، لتنمية قدراته التقنية ومعارفه الإجرائية القابلة للتوظيف البراغماتي، مع تهميش عملية تزكية النفس؛ ليتساوى في روعه توظيف مهاراته لحساب شيخ أو ملك أو رئيس أو مرشِد، أو الأخ الأكبر أو القائد الملهَم أو حتى الشيطان. ولهذا يُدمَج مُعتنقو هذا التصوّر، بتنويعاته المختلفة، في أي نظامٍ اجتماعي أو سياسي بسرعة، ويسهُل من ثمَّ تماهيهم مع أي قائمٍ بترشيد الواقع، بغض النظر عن صرامة الاعتقادات النظرية الطهورية التي "لا تتزحزح"؛ نظريًّا على الأقل!
خامسًا: لكن ذلك التصوّر الطهوري المعادي للإنسان يطوي وجهًا قبيحًا يُسفِرُ عن نفسه حين يفشل النمط في تحقيق الطوبيا الموعودة؛ إذ تتبدّى ساعتها هشاشة البنية النفسية لمعتنقيه، وضعف التماسُك الاجتماعي لأفراده، ويشيع بينهم المروق من الدين أو اللامبالاة بتعاليمه، كاحتجاج على السلطة التي فشلت في سَوقِهم للفردوس الأرضي. إذ إنَّ "عقد" التديُّن الموهوم، الذي روَّج له دعاة السوء وشيوخ جهنم ومشعوذو التنمية البشرية، كان في مقابل النجاح داخل الدنيا، فإذا "تخلى" الإله عن خاصته/شعبه؛ خرجوا على طاعته. إذ مثل الإله، في هذا التصور، مثل الحكومة التي تجيء بها إجراءات الديمقراطية البوروجوازية: مُجرَّد موظَّف لتحقيق هدف الرفاه والحماية الدنيوية من الأغيار؛ فإذا "فشل" سقطت حاكميته الهشة.
إنَّ الحضارة الاستهلاكية، التي يستمد منها أي تديُّن بورجوازي لاهوته، تُنمِّط كل شيء، بما في ذلك الإنسان؛ وذلك في سبيل استمرار الإنتاج الكبير وسهولة تسويقه عالميًا. ولا تنميط بغير تسطيح؛ لذا يتعيَّن تسطيح الدين والفن والثقافة والعاطفة، أو صناعتهم وتشكيل قوالبهم وخطابهم الجماهيريين على صورةٍ موافقةٍ للسلعة بوصفها مركزًا للكون. إذ لا يُمكن للإنسان/الإنسان استهلاك السلعة التي لا تُراعي احتياجاته الإنسانية المتعيّنة والمركَّبة على نطاقٍ كبير، نطاق مُشبع بتصوّرٍ "خلاصي" يتجاوَز الثقافات واللغات والعادات والأديان؛ لا يُمكن له الاستهلاك المتكرر لهذه السلعة اللاشخصية الباهتة، مؤمنًا بقُدرتها "الميتافيزيقية"؛ إلا بتحويله إلى الإنسان/الشيء أو الإنسان/المستهلك، وهو إنسانٌ بغير أدنى عُمقٍ في التجربة ولا في الخبرة ولا في المشاعر: إنسانٌ ذو بُعدٍ واحدٍ؛ بحسب هربرت ماركوز. كائنٌ مادي برّاني لا خصوصية له. كائن هَلوع يسعى لتلبية احتياجات مادية غير حقيقية، لا تعبر عن حقيقة ذاته، ويُمكنه الاستغناء عنها ببعض المكابدة؛ لكنه لا يستطيع ذلك بما أنَّ بُعده المادي الأحادي/الغريزي الذي "تصالَح" معه أسيرٌ لتوجيه الإعلام وتلاعُبه. هذا الكائن المفتَقِد للعمق الجوّاني قد استغرقه الهلع البرّاني الذي يُضرِمُهُ الإعلام؛ فاستنفد جهده كليًّا، ولم يبق ثمة جهد يسمَح له بمكابدة الرغبات التي يصطنعها ويوجهها القائم بترشيد الواقع.
هذا التسطيح الاستهلاكي، الذي تروِّجه الثقافة الجماهيرية المصنَّعة، يُعجِز المبتلى عن التديُّن الحقيقي كما يُعجزه عن الحب العميق، برغم شدة حاجته إليهما؛ ناهيك عن صيرورتهما مركزًا يؤوب إليه وجوده. يُعجِزُهُ عن حب البشر المتعيِّنين ناهيك عن حب الله. ذلك أنَّ مركزيّة الدين/الحب تقتضي قدرًا من الثبات الجوّاني الذي يُعيد هذا الحب/الدين صياغته، ومن ثمَّ ينسحِبُ المبتلى مؤقتًا من دوامة الاستهلاك، ولو ظلَّت خيالاتها تُهيمن على وجدانه. هذا النوع المنكود من البشر تهزُّه بعنف أية رواية/فيلم/أغنية تطوي قدرًا ولو ضئيلًا من العمق الإنساني؛ وذلك لشدَّة حرمانه من أيَّة وجودٍ جوانيٍ مستقل. وكما صار التديّن البورجوازي مُجرَّد "لاهوت استهلاكي"، فكذا الحب-المركز المتوهَّم، والذي تُروِّجهُ بعض مُنتجات هذه الحضارة؛ فهو ليس بمركزٍ حقيقي يضرِب بجذوره في أعماق النفس، بل هو محض إشاراتٍ جوفاء تم تسطيحها وتفريغ مدلولها في الممارسة الجنسيّة العرَضيّة، فتقوّض مدلولها التاريخي أنطولوجيًا ورُدَّ للبراني البيولوجي، أي للذّة التي توظِّفها منظومة الاستهلاك. هذا التفريغ الكامل للذات يتجلّى في الفن الحديث وفي العمارة، سواء في الخطوط الهندسيّةٍ العشوائية أو في التكويناتٍ اللونيّةٍ التي لا تعكس جوهرًا إنسانيًا ما؛ بل تعكِسُ تسطيحًا عبثيًا مُشوِّشًا يُمكن تأويله على كل وجه. كذا يُلاحَظ أنَّ المبتلى، ذكرًا كان أم أنثى، غالبًا ما يفتَقِدُ لمهاراتٍ إنسانيةٍ هامة مثل الطهي، والذي يقتضي حميمية شعورية عميقة لا تتوفَّر لطهي المطاعم اﻵلي الرشيد. وهو بالتالي يفتقد للقدرة على التفرقة بين الطعوم المختلفة أو التمييز بين مستويات الجودة الحقيقية؛ فقد انحدرت في روعه معايير الجودة إلى دركٍ كمّي بائس: حجم الوجبة وسعرها وكثرة محتوياتها.
لقد "تفوَّق" الوجدان البروتستنتي الأنغلوسكسوني على اللاتيني بخاصيةٍ هامة تكاد لحظاتها النماذجيّة تنحصِرُ في الحضارة الأمريكية. خاصية صارت سمتًا للحضارة الغربية التي تُهيمن عليها الأيديولوجية الاستهلاكية الأمريكية المنشأ. خاصية انتقلت إلى كل أنماط التديُّن البورجوازي المعاصرة، في إعادة إحياء لنمطٍ جرَّده شريعتي تحت مسمى: "دين ضد الدين". إنها القُدرة على "استيعاب" الأديان والأيديولوجيات والقيم والثقافات المختلفة، ليس من خلال أسطورة "بوتقة الصهر" الحضاريّة، التي فككها المسيري رحمه الله؛ والتي يُفترَض أن تُثمر أيديولوجية أو هويّة أمريكية أكثر عُمقًا وتجانُسًا. بل تتجِّه هذه القدرة بالأساس لتفريغ الأديان والأيديولوجيات والقيم والثقافات وإشاراتها ورموزها المختلفة؛ لتوظيفها لصالح الحضارة الاستهلاكية والنظام الرأسمالي، فيما يُمثِّل عكسًا لمراد النسق الديني أو الثقافي أو الأيديولوجي الأصلي؛ أي دينًا مُختلقًا لمواجهة الدين الأصلي. "دين" يستخدم الإشارات والرموز نفسها، بمدلولات مناقِضة؛ لتقويض الدين الحق. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي استيلاء الظهير المعرفي لأيديولوجية الاستهلاك، ممثلًا في لاهوت الرأسمالية الليبرالية (والنيوليبرالية)، على الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية، وإفراغها النسبي من مضمونها، كما فُعِلَ بمقولات التيار الرومانتيكي الأمريكي (الترانسندنتالية)؛ ليوظَّف الهجين الأيديولوجي الجديد، الذي انبنى على قواعد الفلسفة البراغماتية بعد أن أضيفت له عناصر بيوريتانية؛ بوصفه بنية فوقيّة للنظام الرأسمالي.
هذا التفريغ الوجداني والقيمي نفسه هو عصب الأزمة الروحية التي يُسببها الاستهلاك، والتي أدت إلى ظهور حركات الثقافة المضادة في الغرب، مثل الهيبيز، والتي استوردت بدورها ديباجاتٍ روحية من البوذية والهندوكية والشامانية، لتُغذّي لاحقًا صعود تيار العبادات الجديدة الذي أحيا الميثولوجيا الوثنية الأنغلوسكسونية السابقة على المسيحية، والتي تُعبِّر عنها أعمال فنية شهيرة مثل "سيد الخواتم Lord of the Rings" و"لعبة العروش Game of Thrones". وقد تجلّى الدمج الكامل لهذه الشذرات الدينية "الشرقية" فيما يُطلق عليه "ثورة تقنية المعلومات الحاسوبية"، والتي كان أكثر روادها أنفسهم من الهيبيز، المتأثرين عميقًا بالفلسفات الشرقية الوثنية، والذين نفروا من الحواسب أول الأمر بوصفها أدوات هيمنة بيروقراطية يُسيطر بها الأخ الأكبر على الدهماء. لكن ما إن تمَّ دمج تياراتهم وديباجاتهم الروحية المستوردة في منظومة الاستهلاك؛ حتى صاروا هم أنفسهم مُبشّرين بالتقنية نفسها بوصفها خلاصًا "روحيًّا" للبشرية؛ بل صاروا أنبياء ذلك الخلاص، وتحوّلت عملية إنتاج واستهلاك منتجات الثورة التقنية (الحواسب والهواتف الجوالة والأجهزة اللوحية.. إلخ) إلى عبادات جديدة (cults)، ليؤول التديُّن البرجوازي البروتستنتي إلى خليطٍ من النزعة العلموية المتطرِّفة المشبعة بحزمة متنوِّعة من الخرافات الوثنية، وهو ما أسميه "ميتافيزيقا الرأسمالية".
ويحدث الشيء عينه في أي نسقٍ ثقافي/ديني يتعرَّض فيه "المعارِض" المهزوم نفسيًّا لبعض بريق الأداة/الإجراء الذي يرفضه قيميًّا أول الأمر لأسبابٍ أيديولوجية، ثم يُستدرَج لاستخدامه بدعوات شتى، وهي أول خطوة تؤدي لاستيعابه داخل قفص ما كان يرفضه ابتداء، حتى يصير جزءًا لا يتجزأ من صيرورته، ويعجز حينها كليًّا عن تجاوزه بعد أن تلبَّس بوجدانه وأعاد تشكيل تصوراته وهيمن على مخيلته. وهو عين ما حدث مع الإسلاميين في قبولهم للدولة الحديثة وديمقراطيتها البورجوازية واقتصادها الرأسمالي.
وكما كان "الإصلاح البروتستنتي" هو نُقطة التحوّل العميقة التي اكتسب من خلالها الوجدان الأنغلوسكسوني خاصيّته التفكيكية، بوصفه علمنة وتقويضًا لكثير من المعتقدات الكاثوليكية؛ فقد حدث الشيء نفسه في السياق الإسلامي تحت تأثير أكثر الدعوات التجديدية المعاصرة، من محمد بن عبد الوهاب إلى محمد الغزالي.
وإذا كان أصحاب هذه الدعوات التجديدية أنفسهم قد اشتهروا بكونهم عُبَّادًا زاهدين، لا يختلفون في ذلك كثيرًا عن البيوريتان الأوَل؛ إلا أنَّ دعواتهم التي حصرت كل أسباب "تخلُّف" الأمة في "التصوّف الانسحابي" الناتج عن خلل الاعتقاد والمؤدي للتأخُّر عن ركب العلوم الطبيعية، بغير بيانٍ لحقيقة التصوّف ومركزيّة العبادة والتزكية، قد آلت إلى صعود وهيمنة النزعة العلموية الإلحادية، ومن ثمَّ تمدُّد رُقعة العلمنة ليس فقط لتقوّض الممارسات الخرافية؛ بل لتنال بالتدريج من مكانة الشعائر العبادية نفسها. هذه المتتالية التي انعكست بعد فترة؛ لتعود الخرافات في ثوبٍ علموي جديد، وتسُد الفراغ الذي خلفه ضمور دور العبادة في وجدان المبتلين.
لقد كان أكثر هؤلاء المجددين واعين بالناموس القرآني: "أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا، وهم لا يُفتنون؟ ولقد فتنّا الذين من قبلهم؛ فليعلمن الله الذين صدقوا، وليعلمن الكاذبين". كانوا واعين بأنَّ المؤمن مُبتلى على الدوام. لكن رد الفعل المتطرِّف على ما اعتُبِر "تخلُّفًا" عن ركب الحضارة ورفضًا لما سُمي "خطاب المحنة"، خصوصًا منذ سبعينيات القرن العشرين؛ قد آل لعكس مرادهم. فما كان الإسلام أبدًا ردَّ فعل على الشرك.
------
وقع تعديل طفيف للعنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: