نوال زويدي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4501
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مثلت دلالات الألوان في العربية عمق جذورها، تزامن الحياة بكل تطوراتها وتغيراتها الحضارية والثقافية عبر التاريخ. وقد تجلى ذلك جليا في النصوص الشعرية القديمة.
فكانت الأشعار زاخرة بالألوان كرغبة في تغير الحياة السائدة آنذاك. ولم تكن الألوان حاضرة محل الصدفة بل كانت لها مدلولات خاصة. فأخذت معان ذات أبعاد أخرى تتعلق بالزمن وصولا إلى وقتنا الحاضر. ويتطور فن اللون كما تنمو اللغة العربية كغيرها من الكائنات الموجودة.
انعكس وفقا لما تقدم الاهتمام الفائق بالألوان المتكلمة ومتغيراتها ومثالنا في ذلك المؤرخ المسعودي صاحب كتاب’ مروج الذهب’ والذي نظم دراسته حول ثلاث مناهج:
- الجذر الأول للون دراسة صرفية اشتقاقية .
- مدلول اللون والزمان.
- تأثير المكان في اللون.
ورجوعا إلى الثلاث مناهج نلاحظ الاهتمام باللون وجانبه الدلالي حيث حاول المسعودي ربط اللون بدلالته على الصورة وذلك في حديثه عن الأمم السابقة، حين عبروا عن تقاسيم الجيش باللون، وهي التقاسيم الخمسة المعروفة. فأخذ كل قسم منها صورة خاصة وكل صورة لونا حيث تجسدت في الألوان الأساسية وهي السواد والبياض والصفرة والحمرة والخضرة ولون السماء.
وليس في وسعي إلى أن أقول أن اللون يمثل ظاهرة اجتماعية و أن رمزية الألوان لا تكتسي صبغة عامة، يتغير اللون وفق الثقافات لتكون كل ثقافة نظرة خاصة بها للألوان. غير أن ذلك قد لا ينفي وجود تطابق بين بعض الشعوب في نظرة نقول عنها مماثلة للألوان لكنها لم تكن إلا من محض الصدقة فلا يحق لنا وقتها القول أن لثقافة الألوان نظام شمولي متماثل وفي معايشتنا للألوان والبحث عن ذلك الاختلاف من كل ثقافة ومن كل مجتمع فإننا نعيش معها كل تلك التقلبات التي تربكنا أحيانا ولكنها تكشف لنا سرها لتعلن أن الاختلاف كائن لا محال من إنكاره.
نساءل بعضنا عن أي الألوان نفضل وأيها ننبذ وأي الألوان نراها محرمة، كلها كانت تمثل لنا أساليب لندرك انتماءنا إلى هذه الثقافة أو تلك، فصار إدراك اللون متعلق بشتى الأساليب الثقافية.
ولقد اكتشف العرب مختلف ألوانهم من ألوان قوس قزح السبعة. فصنفوها إلى ألوان لها مسمياتها وأخرى لا أسماء لها في اللغة العربية نذكر منها: النيلي البنفسجي والبرتقالي وتبقى الألوان التي يتعذر تسميتها مبهمة لا تحديد لها غير أنها ليست بالغربية بما أن العين أدركتها ورأتها في قوس قزح.
في المقابل تتجدد باقي الألوان ليتواجد الأحمر مع الأخضر اللونين المكملين لبعضهما حتى في الطبيعة لا تكاد ننفي تواجدها وذلك التناسق الذي يحدث بقرب هذا إلى الأخر تراهما عين الثقافة العربية فتستمتع بذلك الانصهار والتكامل والتجاوب بينهما، هو كذا الخلق الإلهي الذي نعيشه في الفكر العين.
ويختلف اللونان الآخرين الأصفر والأزرق خاصة المثير لاشمئزاز تشعر به الثقافة العربية نظرا للمخزون الثقافي الذي يعيشه العرب من إدراك لون لأخر وتعرف الثقافة العربية إذن بستة ألوان بإضافة الأبيض والأسود أعطتها صيغة صرفية خاصة بها وهي ‘ أفعل ‘ يسميها النحاة ‘ اسم اللون’ وهذه الألوان الأساسية هي: أحمر+أخضر+أزرق+أصفر+أسود(أو كما يسمى أكحل) +أبيض.
بات من البين إذن أن تشكيلة الألوان لدى العرب أخذت مخرجا منخفضا من حيث العدد غير أنها شهدت ارتفاعا مقارنة لبعض الثقافات القديمة التي اقتصرت على ثلاث ألوان: أحمر+أصفر+أخضر، يعود ذلك لاعتبارهم أن اللون الأزرق متأخر الاكتشاف (في الكيمياء القروسيطية).
كما حملته-اللون الأزرق- الثقافة العربية معاني محيرة ومربكة ومرعبة أحيانا أخرى واعتبرته اللون العدم النهاية والموت. يعود هذا العدم والمعاني الثقيلة إلى اللغة العربية حيث لا وجود لصيغة مقلقة تثير الفجع أكثر من الصيغة التي تشتق من الفعل ‘ زرق’ (بفتح الراء) يعني أصبح أزرق أي تغوّط. أما إذا قلنا ‘زرق’ (بكسر الراء) فذلك يعني تحول إلى أزرق أي تحول من حال إلى حال –عميّ- كما نقول في ثقافتنا وفي وصفنا لشخص شرير عدو (عدو أزرق).
أما إذا كان الموت بحادث عنيف وما ينجر عنه من أحداث مؤلمة نقول عليه ‘موت أزرق’.
هذه المعاني الغريبة والمؤلمة تعود أيضا إلى عدة مفاهيم وصفات شريرة نرجعها إلى لون ‘ الزبانية’ وهم المكلفون بتعذيب الكافر والملحدين في جهنم عيونهم زرقاء الذين سيكون -الكافر- عذابهم شديد ولونهم أزرق يوم القيامة من شدة العطش.
اكتسى اللون الأزرق بعدا مترد ومنحط في الثقافة العربية فجعلته منبوذا مكروها من كل الأوساط وفي كل المجالات، يتجلى أوّلها في استعمالنا اللغوي لهذا اللون، لا نكلم به ولا نتكلم عنه ولا نتخاطب به بما أنه تصوير جليّ لجملة من المآسي والكوارث، لأنه علامة سوء نغض النظر عنه ونتحاشه خوفا من تبعياته فآلت العرب إلى القول بالسماوي لتجنب نطق كلمة أزرق. صار وفقا لذلك رفض تام لهذا اللون رفض ثقافي، نفسي اجتماعي.
غير أن هذا الاستثناء لم يكن جليا في المجالات التي اهتم بها العرب كمجال الفنون مهد الحضارات وجسر التواصل بين الثقافات. حيث مثل الرسم أحد اهتمامات العرب، فلم يستبعدوا من لوحاتهم هذا الأزرق المتكلف باهظا لأنه مستخرج من اللازورد شأنه شأن لون الذهب الأصفر.
وبقي إذن الأزرق يشهد حضورا استثنائيا لقلة مادته ولدلالات رمزه السقيمة، فكان الحضور قليلا حتى لا تفقد اللوحات صدق تصويرها لثقافة العرب، إلا أنها تعبر عن تركيب الألوان في العربية الإسلامية هذا الاستعمال اللوني للأزرق ربما يعكس في باطنه الانفتاح الذي حصل بين مختلف الثقافات العربية الفارسية، الأندلسية، فصار لونا ذو قيمة وقائية تحمي المساكن والسكان من العين الشريرة، حيث نجد مثلا شريط أزرق يحيط بأعلى باب أو خاتم مرصع بحجرة زرقاء، أو حجاب به آيات قرآنية منقوشة بطلاء أزرق.
تطور حظ الأزرق بانصهار الثقافات وبانفتاح العربي على ثقافات أخرى وحرية الفكر فصرنا نراه لون الجمال والخلق مثلا العيون الزرقاء التي تغنى بها الشعراء والمغنين العرب، تربطهم الذاكرة إلى عيون الأوروبيات الزرقاء بعد أن كانت رمزا لعيون الشيطانية شريرة في القديم. استقى إذن الأزرق قيمته من الرمزية المسيحية. ولكنه بقي قليل الحضور في أوساط المغرب العربي والشرق الأوسط ومصر، ويبقى الأزرق لصيق اللون المشئوم. يومك أزرق تعني يومك كله ويل ومشاكل وبالطبع كان الأزرق قليل الحضور، ثقافة انفتحت لكن الأخرى أقصته. إذ نجد مثلا البلاد التونسية كانت تستعمله لتكليس الجدران (سليمان - تستور) ولكن بالانفتاح وإرادة المواكبة أقصى اللون الأخضر ليحل محله الأزرق خاصة في سيدي بوسعيد وفي أبواب الزوايا والمساجد. كما اتخذته أربعة أقطار إسلامية لونا رسميا في جملة سبعين لونا مرسوم في أعلام خمسة وعشرين دولة إسلامية وهذه لأربع دول ماليزيا –موريتانيا-والصومال.
وتعتبر هذه المناهضة للأزرق التي تقلصت شيأ ما في الدول حاضرا بعيدة بعض الشيء عن أختها الغربية التي أجلت الأزرق اللون الروحي الباعث على الطمأنينة.
الأصفر:
يتلازم الأصفر مع الأزرق في ذلك التحديد المعنوي الذي يربكنا في اختياره، غير أنه شأنه شأن الأزرق كل ذلك لا يفقده قيمته. ويبقى الأصفر لون الجوع والمرة والجنون وتشير صيغة ‘صفر’ إلى الفراغ. ونقول في اللغة العربية رجع صفر اليدين أي فارغ اليدين.
والرجل الأصفر أي الفقير وبالنسبة للغنم أصفر أي الفناء.
يبقى إذن الأصفر في بعض الثقافات والغربية منها لون الإمتاع والثراء وعن التلألؤ والشحوب والفقر إذ يقترن بالشمس، النار والذهب هذا التقارب بين التحديد اللوني في الثقافة العربية والغربية يعود إلى التضارب المعنوي في تحديد مفهوم أصفر، ثروة أحيانا ليكون أحيانا أخرى فقر وجوع، نار أي عذاب ليكون لون الذهب ورخاء العيش هذا التقلب اللوني جعلنا ثقافتنا تتفق مع الغربية في تحديد رمزيته وهو أيضا ما جعل لون الألوان الإسلامية تقبل حضور الأصفر يكثر من الفطنة والحذر ليصور تباين المشاعر ويساهم الأصفر في تفعيل هذا التباين فهو ليس الجنة وليس جهنم ولكنه يساهم في هذا وتلك انه صفة من صفات الجنة.
هذا الغموض الرمزي في الأصفر يصور عدة ملامح من الثقافة العربية الإسلامية فنذكر مثلا الشعراء في حديثهم عن الألوان يحبذون ألوانا أخرى على الأصفر مثلا الوردة الحمراء على الصفراء، شأنه شأن اللباس كما ينبذ من الأحلام.
وفق ذلك لا تولي الثقافة العربية أهمية خاصة للون الأصفر فلا يتضمن أي علم من الأقطار الإسلامية على وجوده إلا في ثمانية أقطار من مجموع خمسة وعشرين.
ومقارنة بالسبع ألوان الأساسية التي خيرها العرب يبقى اللون الأصفر أقل أهمية من الألوان الأخرى، لاسيما في مقارنته بالأحمر، الباهت (الأصفر) أمام القاني وهذا ما يحملنا إلى الحديث عن الأحمر في تقابل معانيه مع اللون الزاهي، الفاتح، اللطيف: الأصفر.
الأحمر:
أحمر اللون القاني، الفعال، المثير، القوى، الدم، النشوة(الخمر) هو لون عديد المعاني، ثري وزاخر يؤثر ويتأثر. يدعوني وأستدعيه. يثير في عديد التوهجات والكلمات. والأحمر من فعل حمر وكما ورد في لسان العرب له شحنة حيوية في الثقافة الإسلامية.
ويمثل الأحمر اللون المثير للشهوة الجسدية لما له من مدلول بالغ الأهمية يرغب فيه الرجال كما النساء هو لون الأنوثة كما لون الرجولة تتزين به المرأة في مادتان تحمر الجسم:
الحناء: تلون وتزين اليد والقدمين كمظهر من مظاهر الاحتفال والسعادة ويلون بها الشعر واللحية للتخصيب ولتدليل على الشباب والتجديد.
السواك: يضيف لون قرمزي داكن على الشفاه واللثة مظهر من مظاهر الزينة وهذا ما يساهم في تطوير صباغة تهتم باستغلال القرمز الأرجواني، وأيضا استعمال الفوّة: نبتة معرشة توجد في أقطار معتدلة المناخ، تتم استخراج صبغ أحمر، والمرق: رخويات توجد في البحر الأبيض المتوسط تنتج أيضا صباغ أرجواني فضلا عن قشور الرمان.
مثل إذن الأحمر لون التجدد والحياة جعل العرب يقبلون على البحث في الأصباغ التي تنتج هذا الأحمر الطبيعي الحي وحتى في اللباس كالشاشية المغربية أما إذا تحدثنا عن الأعلام فانا نلاحظ حظه الوفير في الاستعمال، عشرون دولة إسلامية من مجموع خمسة وعشرون.
وتتعدد الدلالات في سياق حضور اللون الواحد الأحمر ليكتسب لدى الشعوب مكانة عظيمة وقائية: مثلا نضع نقطة حمراء من خيط بين حاجبين الرضيع حين تتملكه حازوقة.
وفي حديث سابق قلنا الأحمر مكمل للأخضر يتباهيان بتجاورهما الأول للثاني في أبهى صورة في حضور ايجابي يعج بالمشاعر فان الأخضر شأنه شأن الأحمر فياض بالمعاني الجميلة.
الأخضر:
الأخضر كما الأحمر جميل المشاعر لكنه يشكل معانيه في هدوء، هو لون الصلاح والحياة والروحانية لدرجة تقديس العرب لهذا اللون.
و يشتمل الأخضر كل نزعة طبيعية كالزرع والنباتات الغزيرة. وفي نقيضه نقول جاف، مكسور، مجفف، يابس، ميت. والأرض الخضراء أرض خصيبة حية وفيرة الإنتاج والخضراء تعبر عن الوفرة والازدهار ولدرجة حب العرب لهذا اللون وصفوه بلون السماء لجماله ودرجة صفاءها فلا يبصروها إلا بالأخضر.
واستعمل اللون الأخضر في معمارنا لينقل لنا كل إحساس جميل بالحياة فوجدناه في أبواب المساجد والزوايا كما وجدناه في السناجق المزينة لأضرحة الأولياء. وانتقل هذا اللون إلى لون الغذاء في حياة العالم الإسلامي في مناسبة رأسي السنة الهجرية –الملوخية-
والأخضر هو لون الرسول(صلى) المفضل الموجود في عباءته وهو ما يجعل الأخضر يكتسي كل معنى قدسي في حياتنا العربية الإسلامية.
فهو لون ملتصق بالإسلام و رمزه الحي رغما أنه حضوره قليل في أعلام الدول مقارنة بصديقه الأحمر.17 دولة إسلامية من مجموع 25 دولة.
والأخضر أيضا اسم يطلق على شخص شعبي خيالي- الخضر- وهو حليف نصوح وقت الشدة ورؤيته في المنام مفيدة يمهد بتحقيق الازدهار والوفرة والصحة والأمان والسلام.
ونستنتج أن هذا اللون في الثقافة العربية الإسلامية يقوم بنفس الوظيفة الحلمية التي يقوم بها الأزرق في الرمزية المسيحية بما أنه يمثل ملذات الكائن الحي والروحانية.
حملتنا الثقافة العربية الإسلامية إلى استجلاء الألوان الواحد في حضرة الأخر مررنا من الأزرق المنبوذ إلى الأصفر الخافت إلى الأحمر القاني القوي إلى الأخضر الهادئ الخصب وها نحن الآن أمام الأكحل أو الأسود لون السلطة والشرف.
أسود الأكحل:
شهد الأسود نفسه التحول الذي عاشه لون الخصب، حيث إذا تحدثنا عن الأسود فنحن سنذكر حتما نقيضه الأبيض فالأسود والأبيض لا يمكن تصورهما إلا ضمن ارتباط متناقض. لكن الواقع يعكس تكامل بينهما بما أن الأسود ليس يعني ضرورة العدم أو الحداد والحزن فهو ليس لون سلبيا. ونعود لنقول أن سود تعني القيادة السلطة والسيادة والشرف والسواد الجرأة الدهاء والعدد.
ومن المصدر س.و.د اشتقت كلمة -سيد- التي تعني الأسد. وتعبر صيغة أسود عن اللون الأسود وهي من أفعال التفضيل أي الأعز. أما أسودان فهي تعني من ناحية العقرب و الثعبان ومن ناحية أخرى التمر و الماء.
وتختلف رمزية الأسود من ثقافة لأخرى حيث هو رمز للشر في المسيحية وهذا ما أل إليه العربي للتعبير عن شخص حقود لا خير فيه حين يقول ‘قلب أسود’. ولكن يبقي هذا الترميز بالأسود نادر الوجود لأن الأسود في الثقافة العربية يعد ايجابيا فهو ميزة لجمال باهر حين نقول شعر أسود وعينان سود. حتى أن بعض الفنانين تغنوا أو تغزلوا بالمرأة السمراء أو العين السوداء. وفي مغربنا العربي ننادي أسمر اللون بكلمة -وصيف- لكن هذه الكلمة في الخاطر لا تحمل أي رمز سلبي.
وفي الكتابة نفضل الحبر الأسود حين يخط على ورق بيضاء يثبت الفكرة ويعطيها معنى ودلالة لمن لا مدلول لها يثبت المفاهيم المجردة وكأنه مساحة حرة للهروب بالفكرة والعودة.
يخط الفكر ويمثل الحبر الأسود العربي المتأمل والفكر والكاتب في ذات الآن كالجرعة السحرية يسكر به المدون فتنفذ الفكرة من اللاشيء لتتجه نحو اللاتناهي. فتكون المادة التي تسمح للون أخضر، أحمر أو أسود بأن يصبح مناسبة أوعيدا تحتفل به كل حواسنا. وفي مجال اللباس يمثل أسود اللون لون التأنق وهو اللون الرسمي للحلفاء العباسين وفي حدود ق11 كان الرجال المتميزون من ذوي المحتد الكريم يلبسون الأبيض والأسود، ولا يرتدي الملابس الملونة سوى الفنانين والمغنين والقصاصين الذين يطلقون العنان لنزواتهم أو العبيد والفلاحين.
أما في مجال التجميل، فكانت النسوة ترغبن في الشعر الأسود باستعمال أدوات شعبية رائحة كالمردومة (تونس) والكحل وهي متأتية من كلمة أكحل وتعني أسود اللون لإبراز حدود العين وأشكالها وتمديدها وتستعمل الدبغة لتغليظ الحواجب ( مادة سوداء مزيج من الزرنيخ+ أكليل وأكسيد الحديد) هذا فضلا عن الحرقوص ويستعمل لتزين اليد بنقاط وخطوط متقطعة، مما يكسب اللون الأسود أبعاد ودلالات تجمليه تزينيه تحتفل بها المرأة العربية في بيتها وفي المناسبات الدنية.
ويكتسي الأسود بخصائص دينية روحية لما لدلالة الحجر الأسود من معنى قدسي ذلك أن الكعبة المرصعة بحجر أسود وكسائها أسود. أما في الأعلام فان ثمانية أقطار عربية من مجموع اثني عشر تستعمله. وحديثنا عن الأسود يقتضي حتما استحضار نقيضه الأبيض الذي قلنا عنه متكامل مع الأسود لا يناقضه.
الأبيض:
الأبيض لون تحضر فيه جميع الألوان يؤلف بينها فهو لون مستقل بذاته ايجابي وثري بالمعاني وهذا ما تشرك فيه رمزية الأبيض في الثقافة العربية مع الثقافة الغربية.
وتعني كلمة بياض على كل شيء يوصف بالأبيض كالحليب/ الوضوح /النهار / البيضة /القلب/ الماء. أما المصدر ب.ي.ض *تشير إلى فكرة البياض والعذوبة والمحبة.
ونقول يد بيضاء فإننا حتما نقصد بريئة نظيفة عكس الثقافة الغربية التي تراها يد قوية محسنة وقلب أبيض أي خال من الحقد وفي اللغة العربية نقول بيض لمن كتب بفن وذوق عكس سود. كما تشير الصفحة البيضاء إلى الصفحة متقنة مزينة تروق لقارئها وتسره.
إذن يتمتع العربي بسماع الأبيض أو رؤيته حتى في المنام لأنه بشرى له. فهو لون الحكمة والمعرفة والعلم وتعتبر الملابس البيضاء عن علامات المشايخ والمدرسين والفقهاء والأئمة وكأنه لون الوقار.
ورغم ما يتسم به هذا اللون من معان سخية فان وجوده يكون نادرا فهو مصحوب بألوان أخرى وخاصة الأسود على سبيل الاشتراك لا الاعتراض ويمثل هذا الاشتراك نمط من أنماط الهندسية المعمارية الزخرفة في فضاء عربي جمالي.
هذا التلازم الدؤوب بين الأسود والأبيض يفسره العربي بتداول الليل والنهار أي القائم والنائم يحاول تجسيده في بعض المباني كأقواس المباني العربية أشرطة سوداء تناوبها أشرطة بيضاء( حمامات/مساجد/صحون/أسواق...) كما نجد أشرطة بيضاء وأشرطة حمراء وهذا موجود في مسجد قرطبة. وتتزين بعض المنسوجات بهذه الألوان كالسجاد والزربية في شكل مركبات بين الأبيض والأسود.
ويقدم الأبيض مع الأسود تضاربا مندمجا ومنسجما ليصور ويعكس مجموع العقائد الإسلامية المتعلقة باليوم الآخر التي ترتكز حول أعمال الإنسان الحسنة والسيئة. الذي لا يلبث على حال كذلك تناوب اللونين في تشكلهما مع بعض ونقول تباعا هي نظرة تناوبية يمكن من خلالها الانتقال من وجه إلى أخر.
وهذا التضارب بين الأسود والأبيض هو ذاته تضارب بين الألوان الأساسية الخمسة فالأزرق يعادل في مستوى الأحلام الأسود المسيحي ذلك أن إدراك الأزرق إدراك تجميدي يفضي إلى سد أفاق الأحلام. ويمثل الإدراك الحسي حركة لونية تتجه نحو المشاهد إذا كان اللون ساخنا وتبعد عنه إذا تعلق الأمر بلون بارد.
فإدراك الألوان يعبر عن حقيقة طبيعية تعود إلى أصل اللون فالأزرق مثلا صبغة باردة وكابحة فهو لون منطو على نفسه في حين الأصفر اللون المشع نحو الخارج لنجد الأخضر الذي يحدث توازنا وهدوءا جامعا بكميات معتدلة بين الأصفر والأزرق ليعدل بين الحار والبارد فينتج معنى متوازيا.
ويبقى تقدير الأخضر مقابل رفض الأزرق شيئان متلازمان من ذلك السماء الزرقاء التي يرتاح العرب حين يصفونها بالخضراء وكأنها تبحث في خلق توازن في رؤيتها، اتزان في الأزرق والأصفر يعني في الحار والبارد لإنتاج مبدأ التساوي في البصر بمعنى لا إفراط في الحار ولا إفراط في البارد. وبعبارة أدق البحث عن نوع من البرودة المنصهرة في نوع من الحرارة وهو ما أنتج الأخضر كمثال لهذا الحدث في الأوساط العربية الإسلامية.
فلا غرابة في الجمع بين المتناقضات: الحار/البارد والأبيض والأسود وتتفاعل الألوان في تأدية وظائفها كل يبحث على إرادة معينة كذا البعد الوظيفي للأحمر الذي يبحث على الحماس والعمل.
وما يجدر ذكره أن الألوان تساعد في ارتفاع ضغط الدم خاصة الحارة منها فيما تتمتع الباردة الأخضر/الأزرق/الأسود بمفعول عكسي. ومن هنا كان من الأهمية أن نختار بدقة الألوان الطاغية على الأماكن التي نقضي فيها وقتا بريئا من حياتنا لعل أهمها غرف النوم والجلوس.
وعادة ما تتمثل الألوان الحارة بموجات طويلة تنشط الحالة النفسية كما ذكرنا الأحمر وما يبعثه من حماس ونشاط. وتتميز الألوان الباردة بقصر موجاتها حيث تبعث الفاتحة منها على الراحة والطمأنينة أكثر من الداكنة.
----------------
تقديم نوال زويدي، قفصة.
جامعية باحثة في الفنون التشكيلية، الحضارة واللغة العربية وآدابها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: