شهادات المعتقلين والاختفاء القسري بين تونس والعراق
هيفاء زنكنة - لندن
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3493
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
خلال الاسبوع الماضي، أصغيت لمعتقلين عانيا من التعذيب بكافة اشكاله. يفصل ما بين الاثنين المكان والزمان واسم الجلاد وان تشابهت ممارساته. المعتقل الأول هو العراقي علي القيسي والثاني هو التونسي بشير الخلفي. لم يكن لقائي بالقيسي شخصيا بعكس الخلفي الذي التقيت به أولا عبر كتابه «دراكة ـ ستار يحجب الحقيقة»، عن تجربة الاعتقال والسجن مدة 17 عاما، ثم التقيت به شخصيا في ندوة أقامتها منظمة « ألسن»، بتونس، تحدث فيها عن كتابه الجديد «المدغور».
قد لا يتعرف الكثيرون على القيسي عند اللقاء به شخصيا، او رؤية صوره المنشورة وهو يتحدث في الندوات. الا انهم ستعرفون عليه، حتما، حالما يرون صورته التي تم توزيعها في جميع انحاء العالم، واصبحت مطبوعة في الذاكرة الجماعية، عربيا وعالميا، كرمز للتعذيب في معتقل أبو غريب، ببغداد، من قبل قوات الاحتلال الأمريكي، وبصمت وتبرير الساسة العراقيين المتعاونين معه. علي شلال القيسي هو ذلك المعتقل الذي ارادوه بلا وجه ليحرموه من انسانيته، فاصبح وهو الموضوع على صندوق، مادا ذراعيه المربوطتين بالاسلاك الكهربائية جانبا، رمزا للأنسان المعذب، كاشفا عن الوجه القبيح لأدعياء حقوق الانسان.
تزامن اصغائي للخلفي والقيسي مع انعقاد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فى جنيف، في دورته الحادية والثلاثين. فما يجمع الاثنان، بالاضافة إلى تعرضهما للاعتقال والتعذيب، اختيارهما النشاط في مجال الدفاع عن حقوق الانسان، كطريقة يواصلان خلالها نضالهما السلمي، لتحقيق العدالة والكرامة. فأسس القيسي جمعية «ضحايا الاحتلال الأمريكي في العراق» وأسس الخلفي جمعية «صوت الأنسان» لتكون «صوت الانسان ضد القهر والظلم والقمع وطمس الحقائق من اي…كائن كان».
اختارا ان تكون تجربتهما لا اداة انتقام يتماثلون من خلالها مع الجلاد بل مسارا يتسامون فيه على نزعات الانتقام، لأيمانهما بانها ستقود، بالنتيجة، إلى خرابين : شخصي وعام. خراب الذات والبلد.
تحدث القيسي، في ندوة عقدها «مركز جنيف الدولي للعدالة»، عن أوضاع حقوق الانسان في العراق. مركزا، بصوت الشاهد الذي عاش تجربة مريرة لا تمحى من الذاكرة، على جرائم الاحتلال الأمريكي وكيف شرعنت استمرارية استخدام التعذيب، في السنين التالية، تحت مسميات وأعذار متعددة. في شهادته، وثق القيسي، بالصور، مظاهر قاسية من أساليب التعذيب وتحدّث عن حالات لمعتقلين آخرين، من بينهم اكاديميون ومثقفون، كانوا معه في السجن وتعرضوا لأبشع صنوف التعذيب. واكد ان الاحتلال، ورغم استخدامه كل هذه الأساليب البشعة، الا انه فشل فشلا تاما في التأثير على مواقف هؤلاء المعتقلين بل ان ذلك زادهم صلابة وإصرارا على موقفهم المبدئي.
يهدي بشير الخليفي كتابه الاول «دراكة» عن تجربة الاعتقال والتعذيب والحبس « لكل واحد رفع الصوت من غير ما يخاف من الموت… وكل انسان بتهمة «الفكرة» يشنقونه، ومن غير عنوان يدفنونه». مؤشرا بذلك إلى موضوع كتابه الثاني «المدغور» أي المخفي في مكان لا تصله العيون، والمطعون غدرا، عن ضحايا الاختفاء القسري، وأحدهم هو كمال المطماطي الذي يحكي الخلفي قصة اعتقاله وتعذيبه ومن ثم اختفائه، على مدى عشرين عاما، وانعكاسات ذلك على زوجته نفسيا وجسديا وقانونيا، اذ بقيت معلقة في برزخ مظلم من عدم المعرفة بمصيره ومعاناتها لعدم وجود وثيقة رسمية تثبت وفاته.
يتساءل كمال «هل سمعتم عن ميت بلا جثة ولا شهادة وفاة ؟ وتصر الوثيقة على اني موجود حي، رغم اني ميت»، تاركا للذاكرة الانسانية التي «لا يستطيعون طمسها أو تغيير معالمها لأنها حية إلى الأبد كما الحقيقة» مسؤولية سرد وتوثيق اختفائه والمطالبة بكشف الحقيقة. ليصبح كمال، كما بقية المختفين قسرا، وقضاياهم المعلقة، بالنسبة لبشير الخلفي والناشطين في مجال العدالة الانتقالية، هي الحقيقة.
هل من امل بتطبيق العدالة الانتقالية بتونس مع تعرض سيرورتها للكثير من المصاعب بعد مرور خمس سنوات على الثورة؟
نعم، يؤكد بشير الخلفي «لأن تطبيق العدالة هو الذي سيجنب تونس فصلا مؤلما لا نريد أن يتكرر. وما مورس علينا يجب الا نمارسه على غيرنا». تم تقديم 27 ألف قضية إلى هيئة الحقيقة والكرامة حتى الآن. وأعداد ضحايا العهدين السابقين المتوجهين إلى هيئة الحقيقة والكرامة للإدلاء بشهادتهم وبما سُلِّط عليهم من انتهاكات طالتهم وطالت عائلاتهم، وكما ذكر أحد الضحايا على موقع الهيئة «يجب أن نتعاون جميعًا لمحاسبة الجناة ولكي يأخذ كل ذي حقٍّ حقّه، يجب الإدلاء بالشهادات على المظالم لحفظ الذاكرة وللتاريخ».
وهذا ما يطمح اليه بشير الخلفي، وعدد آخر من ضحايا الاعتقال التعسفي الذين اختاروا كتابة تجاربهم المؤلمة ليطلع عليها الناس، وليوثقوا، لئلا يكرر التاريخ نفسه تعذيبا واهانة وسلبا للكرامة. ويشكل اعتراف محكمة تونسية يوم 30 حزيران/ يونيو 2015، بقتل كمال المطماطي بتاريخ 8/ 10 /1991، وحكمها بوفاته والأذن لعائلته باستخراج حجة وفاة، خطوة اولى نحو كشف الحقيقة في سيرورة تقتضي خطوات عدة و فترة طويلة لإنجازها كما لاحظنا في جنوب أفريقيا.
بالمقارنة مع تونس، يغلف الصراع السياسي والمحاصصة الطائفية والعرقية حالات الاختفاء القسري، واذا ما حدث تحقيق فهو انتقائي على الرغم من تجاوز اعداد المختفين مئات الآلاف من كافة شرائح المجتمع. إذ لا وجود لنص قانوني يجرم ممارسة الاختفاء القسري. واعتبار الاختفاء القسري جريمة ضد الانسانية، كما تنص اتفاقية الأمم المتحدة، يطبق فقط على فترة حكم البعث ( 1968 ـ 2003) وكذلك قانون حماية المقابر الجماعية، تاركا كل ما حدث بعد الغزو، ربما باستثناء جرائم الدولة الإسلامية (داعش)، بلا تشريع قانوني، مما يمنح المجرمين من الميليشيات والقوات الامنية، حرية ارتكاب الجرائم بلا مساءلة أو عقاب، خالقا في ذات الوقت حاضنة طبيعية للظلم والانتقام.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: