البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

بريجنسكي وسؤال الاختيار

كاتب المقال عزالدين اللواج - ليبيا    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 3468


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


يستمد كتاب "الاختيار-السيطرة على العالم أم قيادة العالم" أهميته من كونه يتضمن متصور ابستمولوجي صادر عن أحد أبرز باحثي ومفكري هذا العصر، ونقصد بذلك مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق "زبغينو بريجنسكي" والذي يعمل حاليا كخبير في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية وأستاذا للسياسة الخارجية بجامعة جونز هوبكنز، كما أن ذلك الكتاب لا يزال حتى وقتنا الراهن أحد أبرز كتابات الفكر الاستراتيجي المعاصر وبالأخص ما يتعلق بنمط الكتابات التي تقع ضمن دائرة هيمنة العمق الميتااستراتيجي على مضمونها، أي هيمنة متصور فلسفي ما على رؤاها ومقترحاتها الإستراتيجية، فالكتاب الذي صدرت ترجمته العربية في عام 2004م وهو نفس العام الذي صدر فيه الكتاب في الولايات المتحدة، يتضمن آراء واستخلاصات فكرية هامة ترتبط بجملة المستجدات التي تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحديدا خلال المرحلة التي تفاعلت فيها إدارة بوش الابن مع معطيات ذلك الحدث المفصلي في التاريخ السياسي الأمريكي المعاصر...
كتاب بريجنسكي الصادر في نسخة من الحجم الكبير احتوى على مقدمة ومبحثين رئيسيين وخاتمة، احتوتهم صفحات تربو عن ال250 صفحة.
فيما يلي سرداً مقتضبٌ لأهم مضامينها:-

-1-
هواجس بريجنسكية
يوطئ بريجنسكي لكتاب الاختيار بمقدمة يشرح من خلالها أهم المبررات والدوافع التي كانت وراء إصدار الكتاب، والذي يصفه في تلك المقدمة بأنه كتاب ذي صبغتين معرفيتين هما الصبغة التنبؤية والصبغة التوجهية، كما أنه ينطلق من فرضية رئيسة مفادها "أن الثورة الحديثة في التكنولوجيا المتقدمة، وخصوصا في مجال الاتصالات، تعزز بشكل مطرد بروز مجتمع عالمي ذي مصالح مشتركة متزايدة محوره أمريكا، لكن العزلة الذاتية المحتملة للقوة العظمى الوحيدة قد تغرق العالم في فوضى متصاعدة، يزيد من شرورها انتشار أسلحة الدمار الشامل، وبما أن قدر أمريكا بالنظر إلى الأدوار المتناقضة التي تلعبها على الصعيد العالمي، أن تكون العامل المساعد اما في مجتمع عالمي، واما السبب في فوضى عالمية، فعلى الأمريكيين تقع المسؤولية التاريخية الفريدة في تحديد أي الأمرين سيتحقق، وخيارنا يكمن بين الهيمنة على العالم وبين قيادته". (1)
وعن مضمون الكتاب يشير بريجنسكي في مقدمته إلى أنه سلط الضوء عبر مبحثيه ومطالبه الخمسة على العديد من القضايا التي تتطلب إجابة شاملة من الناحية الابستمولوجية، قضايا اختزلها بريجنسكي في الهواجس الاستفهامية التالية: (2)
* ما هي التهديدات الرئيسية التي تواجه أمريكا؟
* هل يحق لأمريكا الحصول على أمن أكثر من الأمم الأخرى بالنظر إلى مكانتها المهيمنة؟
* كيف ينبغي أن تواجه أمريكا التهديدات المهلكة المحتملة التي تصدر بشكل متزايد عن أعداء ضعفاء لا عن منافسين أقوياء؟
* هل تستطيع أمريكا أن تدير بشكل بناء علاقتها على المدى البعيد بالعالم الإسلامي، الذي ينظر العديد من أبنائه البالغ عددهم 1.2 مليار نسمة إلى أمريكا بشكل متزايد على أنها العدو اللدود؟
* هل تستطيع أمريكا بشكل حاسم حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بالنظر إلى مطالب الشعبين المتداخلة والمشروعة في آن واحد بالأرض ذاتها؟
* ماذا يلزم لإيجاد استقرار سياسي في بلاد البلقان العالمية الجديدة المتقلبة والواقعة على الحافة الجنوبية لأوراسيا الوسطى؟
* هل تستطيع أمريكا تأسيس شراكة حقيقية مع أوروبا، بالنظر إلى تقدم أوروبا البطيء، نحو الوحدة السياسية وتزايد قوتها الاقتصادية؟
* هل يمكن ضم روسيا التي لم تعد منافسه لأمريكا، إلى إطار أطلسي تقوده أمريكا؟
* ما الدور الذي يمكن أن تمارسه أمريكا في منطقة الشرق الأقصى، بالنظر إلى استمرار اعتماد اليابان وان بشكل متردد على الولايات المتحدة،فضلا عن تنامي قوتها العسكرية بهدوء، وبالنظر إلى تنامي القوة الصينية؟
* ما مدى احتمال أن تؤدي العولمة إلى ولادة مذهب معاكس أو تحالف معارض متماسك يواجه أمريكا؟
* هل ستصبح الديموغرافيا والهجرة تهديدين جديدين للاستقرار العالمي؟
* هل تتوافق ثقافة أمريكا مع المسؤولية الامبريالية بالضرورة؟
* كيف ينبغي ان تستجيب أمريكا إلى بروز عدم المساواة في القضايا الإنسانية، وهي مسألة تعجل الثورة العلمية الحالية في ظهورها وتزيد العولمة من حدتها؟
* هل تتوافق الديمقراطية الأمريكية مع دور الهيمنة السياسية، مهما كان الحرص على تمويه تلك الهيمنة؟ وكيف ستؤثر الضرورات الأمنية لذلك الدور الخاص على الحقوق المدنية التقليدية؟

-2-
الهيمنة الأمريكية والأمن العالمي
هذا هو العنوان الذي وسَّم به المؤلف القسم الأول من كتابه، عنوان حاول من خلاله بريجنسكي السبر في أهم دلالات وملامح العلاقة الارتباطية التي تجمع متغير الهيمنة الأمريكية بمتغير الأمن العالمي، وذلك في ضوء ثلاثة معضلات رئيسية هي (معضلة الأمن القومي- معضلة الاضطراب الجديد- معضلة إدارة التحالف)...
لا يفوت على بريجنسكي إبان تقديمه لهذا القسم أن يوظف نرجسيته القيمية من أجل إقناع المتلقي بأن زوال الهيمنة الأمريكية لن ينطوي "في نهاية الأمر على إعادة تعددية الأقطاب إلى القوة الرئيسية المعروفة التي سيطرت على شؤون العالم في القرنين الأخيرين، كما أنه لن يؤدي إلى سلطة مهيمنة أخرى تحل محل الولايات المتحدة بحيازتها تفوقا سياسيا وعسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا وثقافيا واجتماعيا متشابها على الصعيد العالمي، فالقوى المألوفة التي سادت في القرن الماضي أضعف وأكثر إعياء من أن تتولى الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة حاليا". (3)
بعد ذلك نجده يعود في سطور أخرى ليؤكد على أن عدم وجود بديل آني للهيمنة الأمريكية لا يعني عدم وجود تحديات تحول دون استقرار وتوازن تلك الهيمنة، تحديات يتناولها بريجنسكي من خلال نمطين رئيسيين هما نمط المعضلات الداخلية التي اختصرها في معضلة الأمن القومي، ونمط المعضلات الخارجية التي حددها في معضلتي الاضطراب العالمي الجديد وكيفية إدارة التحالف الذي سيواجه تلك التحديات الإستراتيجية.
وعلى مستوى التحديات الداخلية يدشن بريجنسكي تحليله الابستمولوجي لمعضلة الأمن القومي الأمريكي بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تأخذ بعين اعتبارها جيدا البعد الاتصالي للعولمة، سيما وأن تلك المتغيرات باتت تترك بصماتها الواضحة على مظلة الحماية التقليدية للدول، يقول بريجنسكي:-(4) "التكنولوجيا هي الأداة العظيمة المعادلة لقابلية تعرض المجتمع للخطر، فقد أدى التضاؤل الثوري للمسافات الذي أحدثته وسائل الاتصال الحديثة، والقفزة النوعية في الشعاع التدميري لوسائل القتل المتعمد إلى اختراق مظلة الحماية التقليدية للدولة، زد على ذلك ان الأسلحة أخذت تصبح الآن خارج النطاق القومي من حيث امتلاكها والمدى الذي يمكنها الوصول إليه، بل ان اللاعبين الفاعلين من غير الدول، مثل المنظمات الإرهابية السرية، أخذوا يحسنون تدريجيا من طرق حصولهم على أسلحة أكثر تدميرا، وما هي إلا مسألة وقت قبل ان يحدث عمل إرهابي متطور تكنولوجيا في مكان ما من العالم".

ترى كيف سيحدث ذلك العمل الإرهابي المتطور الذي يعتقد بريجنسكي بأنه سيكون من السذاجة تجاهل حدوثه إبان بناء أي إستراتيجية للأمن القومي الأمريكي؟.
بريجنسكي من خلال سطور هذا القسم الأول من كتابه يجيب على السؤال الآنف من خلال التأكيد بأن ذلك الحدث الكارثي لن يحدث مرة واحدة أو بشكل مفاجئ، بل ستسبقه سيناريوهات عنفوية متوقعة تتراوح بين العمليات التقليدية والعمليات المبتكرة، وهذه السيناريوهات هي: (5)
1- حرب إستراتيجية مدمرة ومركزية، لا تزال ممكنة في هذه المرحلة وان تكن بعيدة الاحتمال، بين أمريكا وروسيا أو بين أمريكا والصين أو بين الصين وروسيا.
2- حروب إقليمية كبيرة تشن بواسطة أسلحة فتاكة للغاية، بين الهند وباكستان أو بين إسرائيل وإيران على سبيل المثال.
3- حروب اثنية تقسيمية بين الدول المتعددة الاثنيات ومنها على سبيل الذكر لا الحصر "اندونيسيا والهند".
4- أنماط متنوعة ومتباينة لحركات التحرر الوطني للمضطهدين ضد هيمنة عرقية موجودة أو مزعومة، كما هو الحال بالنسبة إلى طبقة الفلاحين الهنود في أمريكا اللاتينية، أو الشيشان في روسيا، أو فلسطين ضد إسرائيل.
5- شن هجمات عنيفة من قبل دول ضعيفة نجحت في تصنيع أسلحة دمار شامل وفي إيجاد طرق إيصالها إلى جيرانها أو يشنها مجهولون على الولايات المتحدة.
6- هجمات إرهابية متزايدة الشدة تشنها مجموعات سرية ضد أهداف إستراتيجية، مكررة ما حصل في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001م.
عموما يتوقع بريجنسكي أيضا إمكانية حدوث انفجار نووي يحدث فجأة على متن سفينة غير معروفة تربض في أحد الموانئ الأمريكية، أو هجوم الكتروني شامل على منظومات الطاقة ونظم الاتصالات والخطوط
الجوية يحدث شللا فعليا في النسيج المجتمعي الأمريكي، لذلك نجده يحرص على ضرورة تبني الاحتياطات الإستراتيجية التالية: (6)
1- وجود استخبارات نشطة ووقائية، تأخذ في الاعتبار كافة الأخطار الإستراتيجية المألوفة وغير المألوفة.
2- ضرورة أن يستوعب صانع القرار ومتخذ القرار السياسي الأميركي أن الحرب على الإرهاب تفرض على الجميع استجلاء مقولة كلاوزفيتز الشهيرة التي يقول فيها "إن الحرب هي استمرار للسياسة بوسيلة أخرى"، وبالتالي فان مواجهة الإرهاب تتطلب سياقا استراتيجيا لا يعمل فقط على استئصال ذلك الإرهاب، بل يعمل أيضا على استئصال الظروف التي أدت لظهوره.
ومن الملاحظة الأخيرة يبدأ بريجنسكي في تناول جملة التحديات الخارجية التي تقف عقبة كؤود أمام استمرار الهيمنة الأمريكية، تحديات يختزلها كما أشرنا آنفا في معضلتي الإرهاب العالمي الجديد وإدارة التحالف.
فعلى صعيد معضلة الاضطراب العالمي الجديد يشير بريجنسكي إلى أن ما يصفه بالإسلام المضطرب وهو يقصد هنا اضطراب الأوضاع الداخلية داخل البلدان الإسلامية، يمثل تحديا مربكا لأمريكا، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بالدكتاتورية والفساد وانعدام البنية العلمانية التي تأخذ في الاعتبار مختلف تجليات وأبعاد الخصوصية الدينية الإسلامية، يقول بريجنسكي: (7)
"تشكل الأسباب العلمانية مثل الفساد والتوزيع غير العادل للثروة مصادر رئيسية أيضا لعدم الاستقرار السياسي، حتى ولو بدا الدين الحافز الأول للاضطراب السياسي، فبعض البلاد الإسلامية تعاني من فقر مدقع، مثل أفغانستان التي يقل فيها إجمالي الناتج القومي عن 200 دولار لكل فرد، وباكستان التي تقارب فيها 500 دولار، في حين يتجاوز عتبة ال2000 دولار للفرد في الكويت المجاورة، كما أن الاختلافات في مستويات المعيشة ليست بارزة بين البلدان فحسب، ولكن ضمن نخب البلدان أيضا، حيث لا تخجل بعض النخب من سعيها وراء تكديس الثروة والاستمتاع بها في السر غالبا برغم الحرمان الاجتماعي السائد، كما أن الوقائع المشاهدة بكثرة للإثراء الشخصي للحكام في العديد من البلدان الإسلامية أضفت درجة من الإثارة على تماثل ممارسة السلطة السياسية مع تكديس الثروة".
أسئلة عديدة تؤرق بريجنسكي إبان تأمله في مسألة إدارة التحالف العالمي المناهض للإرهاب، أسئلة ترتبط في مجملها بمدى تقبل الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا واليابان للإدارة الأمريكية لذلك التحالف، الذي يؤكد بريجنسكي على أن أخطر تحدي يواجهه يكمن في شبح بروز حركة جامعة أوروبية وأخرى آسيوية معاديتين لأمريكا، لأن ذلك وفق متصور بريجنسكي سيؤدي إلى هدم أي تطور عالمي حدث على صعيد توازن الأمن العالمي المساند للهيمنة الأمريكية، كما أنه قد يخرج أمريكا من أوراسيا. (8)

-3-
الهيمنة الأمريكية والصالح العام
بعد أن يعلن عن وفاة الدبلوماسية التقليدية وولادة مجتمع عالمي غير حكومي فرضته تفاعلات وتداعيات ظاهرة العولمة، يبدأ بريجنسكي في القسم الثاني من كتابه بتحليل أهم المضامين والأبعاد العلائقية التي تنطوي
عليها فرضية الهيمنة الأمريكية والصالح العام، وذلك من خلال مطلبين رئيسيين هما المطلب المتعلق بمناقشة معضلات العولمة، والمطلب المتعلق بمناقشة المعضلات الديمقراطية المهيمنة...
السؤال المركزي الذي يصدر من خلاله بريجنسكي حواره النظري مع معضلات العولمة ومع التحديات التي تفرضها معضلات الديمقراطية المهيمنة، يتمحور في الأساس حول ما إذا كانت أمريكا قادرة في عصر العولمة على الوصول إلى توازن استراتيجي بين الهيمنة السيادية وبين مجتمع عالمي بدائي وناشئ؟ وما إذا ان بإمكان أمريكا أيضا أن تحل ذلك التناقض الذي يرافق معادلة قيمتها الديمقراطية ومستلزمات القوة العالمية.(9)
وبغية الإجابة على السؤال الآنف يرى بريجنسكي أهمية استجلاء التعريف المفيد الذي قدمه البرفسور تشارلز دولان للعولمة، حيث عرفها هذا الأخير على أنها "تفاعل تكنولوجيات المعلومات والاقتصاد العالمي، ويشار إليها بدلالة كثافة الصفقات الدولية ومداها وحجمها وقيمتها في مجالات المعلوماتية والمالية والتجارية والإدارية على نطاق العالم، وتمثل الزيادة الحادة في معدل هذه الصفقات خلال العقد الأخير، وبالتالي مستواها، أكبر مظهر يمكن قياسه لعملية العولمة".
انطلاقا من التعريف الآنف يتناول بريجنسكي أهم الملامح والتجليات الايجابية للعولمة، وهي ملامح وتجليات ايجابية يختزلها بريجنسكي في النزوع الأمريكي للعولمة والمسمى في العديد من الأدبيات ب"الأمركة"، وبريجنسكي إذ يرى في ذلك عاملا ايجابيا، فانه بحس فكري استراتيجي مرموق ينبه لخطورة تداعيات أمركة العالم على الولايات المتحدة الأمريكية، سيما وأن العولمة باتت "تحتضن معاداة شديدة للأمركة، ويرجع ذلك إلى حد بعيد إلى التصور الشائع بأن العولمة ليست وعاء للتغيير الاجتماعي الاقتصادي وحسب، بل للتجانس الثقافي والسيطرة السياسية أيضا، وبالتالي فإن مذهب العولمة يولد نقيضتها، حيث يخدم انصهار العولمة مع الأمركة كحافز لظهور عقيدة معاكسة معادية في آن واحد للعالمية ومعارضة في الواقع لتفوق الولايات المتحدة السياسي" (10)، ويحذر بريجنسكي إبان تناوله لمعضلات العولمة من خطورة وتداعيات ظاهرة الترميز المعاكس والتي يعرفها بالقول: (11)
(الترميز المعاكس ظاهرة معروفة في عالم السياسة، تبرز هذه الظاهرة عندما يتبنى فريق ضعيف "ظاهريا على الأقل" قيم ومبادئ اللعبة التي يمارسها القوي، ويستخدمها بعد ذلك ضد القوي).
هكذا يستمر بريجنسكي في سرد هواجسه من تحولات العولمة وتداعيات الهيمنة الأمريكية وعلى الصالح العام الأمريكي، مبرزا أهمية تبني أمريكا في سياق مواجهتها لتلك التحولات والتداعيات لمبدأ التماسك الاستراتيجي الداخلي، وهو تماسك يتطلب من وجهة نظره استحداث جهاز استراتيجي مركزي للتخطيط في الحكومة الأمريكية، فبريجنسكي يرى أن تنامي تورط أمريكا في الشؤون العالمية بات يتطلب مثل ذلك النمط من الأجهزة الإستراتيجية، والجهاز المقترح من قبل بريجنسكي هو جهاز تكون وظيفته الرئيسية، تحسين الحالة العامة عبر إيجاد علاقة تشاورية رسمية بين القادة رفيعي المستوى للجان الكونغرس التي تعالج الشؤون الخارجية، وبين الجهاز الذي يفترض أن يكون تابعا لمجلس الأمن القومي، فبالإمكان والكلام هنا لبريجنسكي "أن تخدم مجموعة تخطيط استراتيجي مركزية واضحة في البيت الأبيض، يرأسها موظف رسمي رفيع المستوى يرفع إليه المخططون رفيعو المستوى في وزارتي الخارجية والدفاع تقريرهم، كمنتدى للاستشارات
الدورية مع القادة المناسبين من مجلس الشيوخ في ما يتعلق بالخطط بعيدة المدى، والمشكلات الجديدة البارزة، والمبادرات المطروحة، وهذا ما قد يخفف بعض الشيء من الخطر الحالي المتمثل في الانزلاق التدريجي للقوة العالمية شبه الامبريالية بعيدا عن المراقبة الشعبية الديمقراطية" (12).

عموما يصل بريجنسكي في نهاية كتابه إلى استخلاص استراتيجي مفاده أن الاختيار الذي يجب أن تراهن عليه أمريكا هو قيادة العالم وليس السيطرة عليه، فالهيمنة مجرد ومضة تاريخية عابرة سيكون مصيرها عاجلا أم آجلا الأفول، وبريجنسكي إذ يصل إلى ذلك الاستخلاص، فانه يضع جملة من الاشتراطات التي من المفترض أن ترافق الرهان الأمريكي على خيار قيادة العالم، وهذه الاشتراطات هي: (13)
1- العمل المشترك المنسجم والمنظم والهادف لإشاعة الاستقرار في منطقة البلقان.
2- تفعيل آليات حلف الناتو وجعله حلفا أوروبيا-أمريكيا، وليس حلفا ذي صبغة دولتية قومية، أي أن يستمر على سياق ملمحه الذي يختزله في تحالف مجموعة من الدول القومية.
3- مراعاة أن القيادة الحكيمة للشؤون العالمية تتطلب التالي:
أ: سياسة حماية ذاتية عقلانية ومتوازنة من أجل تخفيف حدة المخاطر الأكثر رجحانا والأكثر تهديدا للمجتمع الأمريكي، وبدون ان تثير هوسا جنونيا بالأمن القومي.
ب: جهدا مستمرا ومطولا لتهدئة المناطق الأكثر تفجرا في العالم، والتي تولد معظم مشاعر العدائية العاطفية التي تغذي العنف.
ج: جهدا مستمرا من أجل إشراك الأجزاء الأكثر حيوية وحميمية من العالم في إطار عمل مشترك، لاحتواء المصادر المحتملة لأكبر الأخطار والتخلص منها، إذا أمكن ذلك.
د: الاعتراف بالعولمة بوصفها أكثر من مجرد فرصة لتعزيز التجارة وزيادة الأرباح، بل ظاهرة ذات بعد أخلاقي أعمق.
هـ: تربية ثقافية سياسية محلية تستوعب المسؤوليات المعقدة في التكامل والاندماج العالميين.

-4-
خمسة أبعاد وراء سؤال بريجنسكي
من خلال العرض الآنف يمكن القول بأن الكتاب احتوى على جملة من الأبعاد ذات الصبغة الفكرية الإستراتيجية، وهذه الأبعاد هي:
1- البعد الميتاإستراتيجي الذي ارتكز على نرجسية قيمية تجعل من حقيقة الهيمنة الأمريكية الراهنة بمثابة متعالي لاهوتي غير قابل للنقاش والجدل، صحيح أن أمريكا بمعايير حقل العلوم السياسية هي دولة عظمى في منتظمنا الدولي، لكن ارتكاز الفكر الاستراتيجي الأمريكي في أغلب كتاباته على تلك النرجسية يطرح استفهام فلسفي يتعلق بمدى تماهي تلك النرجسية القائمة على عنف رمزي "وفق منظور بورديو" مع سمات وخصائص العقول الظلامية التي تجمع في ذهنيتها المتطرفة بين العنفيين الرمزي والمادي.
2- البعد المفاهيمي القائم على متصور نظري يستجلي مؤشرات إجرائية ضيقة وذات عمق سياسوي وليس سياسي، ومن ذلك مثلا مفاهيم (الدول المغفلة- الترميز المعاكس).
3- البعد التوفيقي القائم على محاولة الدمج بين النرجسية القيمية الأمريكية وبين المتغيرات والمستجدات العالمية الراهنة.
4- البعد التخطيطي المتعلق بالسياسة الداخلية الأمريكية ومنظومة صناعة القرار السياسي، ومن أهم ما ورد في هذا الشأن اقتراحه تأسيس جهاز مركزي للتخطيط تابع لمجلس الأمن القومي الأمريكي.
5- البعد المتعلق باعتماد مقاربة خشنة لمفهوم الأمن، مقاربة تنظر للأمن من متصور استخباراتي، يرتكز على أهمية وجود استخبارات وقائية نشطة، تواجه تحديات الأمن القومي الأمريكي، وهو عموما اعتماد يدفعنا لطرح أسئلة عدة حول التوازن الاستراتيجي الرشيد الذي يفترض أن يجمع بين مقاربتي الأمن الخشن والأمن الناعم، توازن نراه حدث بشكل مثمر وبناء في العقيدة الإستراتيجية التي اعتمدتها مؤخرا إدارة الرئيس باراك أوباما.
ختاما...
رغم سقوطه في دكتاتورية اللحظة القيمية، ورغم ملاحظتنا على المقاربة الأمنية التي اعتمدها، يظل بريجنسكي مفكرا استراتيجيا كبيرا، لعب ولا يزال يلعب دورا هاما في إثراء حقل الفكر الاستراتيجي المعاصر.

-----------------------
الهوامش:
(1) ص11
(2) صص 10-11
(3) ص13
(4) ص 22
(5) ص 23
(6) صص 40-42
(7) صص 64-65
(8) ص 145
(9) ص 158
(10) ص 169
(11) صص 170-171
(12) صص 226-227
(13) صص 238-254


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

زبغينو بريجنسكي، الفكر السياسي، التفكير الإستراتيجي، أمريكا، الهيمنة العالمية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 14-03-2016  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
د- محمود علي عريقات، د- جابر قميحة، سعود السبعاني، عبد العزيز كحيل، بيلسان قيصر، إيمى الأشقر، عبد الرزاق قيراط ، الناصر الرقيق، إسراء أبو رمان، صالح النعامي ، محمد علي العقربي، د- هاني ابوالفتوح، د. عادل محمد عايش الأسطل، د- محمد رحال، مصطفي زهران، سفيان عبد الكافي، د. صلاح عودة الله ، فتحي العابد، سليمان أحمد أبو ستة، إياد محمود حسين ، أحمد بوادي، حاتم الصولي، صلاح الحريري، فهمي شراب، العادل السمعلي، د. كاظم عبد الحسين عباس ، د. أحمد محمد سليمان، محمد الطرابلسي، د. طارق عبد الحليم، محرر "بوابتي"، د - صالح المازقي، كريم فارق، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، ضحى عبد الرحمن، محمود طرشوبي، فتحـي قاره بيبـان، نادية سعد، علي الكاش، حسني إبراهيم عبد العظيم، وائل بنجدو، عمار غيلوفي، د - محمد بنيعيش، د. ضرغام عبد الله الدباغ، الهادي المثلوثي، د - الضاوي خوالدية، رافع القارصي، أبو سمية، أنس الشابي، خبَّاب بن مروان الحمد، المولدي الفرجاني، أحمد النعيمي، أشرف إبراهيم حجاج، محمد اسعد بيوض التميمي، الهيثم زعفان، سلوى المغربي، المولدي اليوسفي، صفاء العراقي، جاسم الرصيف، محمد عمر غرس الله، عمر غازي، أحمد الحباسي، محمود سلطان، د. مصطفى يوسف اللداوي، د - المنجي الكعبي، د.محمد فتحي عبد العال، خالد الجاف ، د - مصطفى فهمي، صفاء العربي، محمد العيادي، عبد الغني مزوز، د. أحمد بشير، عراق المطيري، د - محمد بن موسى الشريف ، سلام الشماع، طلال قسومي، كريم السليتي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، علي عبد العال، عزيز العرباوي، ياسين أحمد، تونسي، عبد الله زيدان، مجدى داود، سيد السباعي، رافد العزاوي، محمد أحمد عزوز، حسن الطرابلسي، رحاب اسعد بيوض التميمي، مصطفى منيغ، محمود فاروق سيد شعبان، منجي باكير، رمضان حينوني، عواطف منصور، رشيد السيد أحمد، حميدة الطيلوش، د - شاكر الحوكي ، د. خالد الطراولي ، ماهر عدنان قنديل، صلاح المختار، محمد شمام ، فتحي الزغل، أحمد ملحم، صباح الموسوي ، مراد قميزة، فوزي مسعود ، يزيد بن الحسين، طارق خفاجي، عبد الله الفقير، د. عبد الآله المالكي، سامر أبو رمان ، أ.د. مصطفى رجب، سامح لطف الله، د - عادل رضا، محمد يحي، محمد الياسين، أحمد بن عبد المحسن العساف ، رضا الدبّابي، حسن عثمان، يحيي البوليني،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة