الخط العربي من المنظومة التواصلية إلى العبارة التشكيلية
سامي العافي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4169
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يعتبر الخط العربي فنّا مستقّلا بذاته لإكتسابه قدرة مخيالية على التأسّلب تزخر بأبعاد تشكيلية مختلفة كالمدّ و الرجع و الاستدارة و التزويق و التداخل و التشابك... هذه الأبعاد التي تجعل هذا الفن يتهادى في رونق جمالي مستقل عن مضمونه مرتبط معه في الآن نفسه.
وهو ما يؤول إلى إعادة الفرضية و تجاوز الأسئلة البسيطة عن قواعد بناء الحرف و قوانينه و نظمه ... للغوص في قدرته التشكيلية و المخيالية و طاقاتها الإبداعية التّي تحوّل عناصر التضادّ بين الخطوط إلى ثراء تشكيلي تترجمه تراكيب جرافيكية، تشكيلية تطمس المعنى و تحجب الدلالة، تومئ بروح الخط دون أن تصرّح، تلمّح دون أن تتقيّد تماما ... خصوصا إذا تعلّق الأمر بخطوط عربية تجمع بين طبائع مختلفة، فاتحة المجال للحديث عن تلك القيم التشكيلية المتجددة في ثنايا الحروف العربية و إكتشاف قدراتها التعبيرية الأبلغ و مكوناتها الجمالية الأبهى عبر توليد ‘تكوينات مجردة’ ترفض التمثيل و المحاكاة...
ومن هنا يمكن التساؤل عن إشكالية ‘التكوين الفني’ و أهميته بالنسبة للخط العربي، هذا الإشكال المرتبط أشد الارتباط بقضية ‘الإبداع’ المخترق لمسألة الشكل الفني و الحسّ الجمالي لصالح قضايا المضامين و الدلالات... التي يوحي بها التكوين أو تتجلى من وراء فضائه الحيوي المتجدد ذو الحركية الدائبة و الإيقاع المتتابع ... النابع من جدلية الكتل الخطية و فضائها اللاّمحدود، الذي يزيد ‘التكوين’ دعامة للتساؤل عن كيفية التعامل مع فن الخط العربي: هل من جهة كونه لغة تشكيلية مرنة قابلة للأسّلبة أو جهة كونه قواعد و قوانين، فتكون بذلك صناعة حرفية و حروف مقروءة و جزء من ثراث نمطي تزويقي؟ وهل يمكن لهذه الانسيابية الشاعرية المرنة و التراكيب الهندسية الصلبة أن تفسّر علاقة الجسد بالحرف و الكتابة بالرسم -مثلا– خاصة أن ‘التكوين الحروفي’ يمكن أن يعرّف في هذه الحالة بكونه ‘نسقا كاليغرافيا لنص لغوي محدد تتوزع مفرداته حسب حاجة الفضاء التشكيلي و المساحة الفنية القائمة على اتباع أصول تحويل الحروف و الكلمات و الجمل ... من الطابع النمطي السكوني إلى طابع حركي جديد متدفق داخل -بنية تجريدية جديدة – تحكمها جملة من الجرافيزمات الخطية و البنى التشكيلية’؟...
إنها لأسئلة عديدة وافتراضات شتّى تمنح لهذا ‘النمط الفني الخاص’ طبيعته التشكيلية محددة هويّته التعبيرية الزاخرة بالقراءات والتآويل...
ومن هنا لابدّ من التّأكيد على أن جمال الخّط وروّعة التكوين من جمال العناية بأدوات الكتابة وعناصر التشكيل... هذه العناصر التي ظلّت حاضرة في أعمال كلّ من الفنان التشكيلي طارق عبيد ونور الدين العوني وخاصة على الأمجد النوري ... التي تميّزت أعماله ‘بالحركة’ رغم جمادها... تجذبك إلى عالم مثير من الحسّ الملموس، أين تحرّك فيك كل الحواس، جاعلة إيّاك تشعر بكل الأفكار المقدّمة والقضايا المطروحة... من خلال جملة عناصره الخطّية واللونية والجرافيكية المستحوذة على الفضاء... المحتفظ بذاكرة من الصور... لها من الجوانب الفنية والجمالية أكثر من المضمون، وأحيانا العكس تماما، وفي أحيان أخرى تتداخل الصور بالخيال فتشدك بزخارف إسلامية وغرافيزمات تشكيلية... تثير فيك السؤال عن الخطّ، عن التركيب، عن التنوّع ، عن الاختلاف وخاصة عن ميزة هذا الفنان التشكيلي وأفكاره ‘الخاصّة’ ‘الحاطّة’ إزرها عن الفضاء غير عابئة بدور الكلمة ودلالاتها اللغوية وأنساقها الرمزية... عن تراكيب خطيّة -كسّرت قيود الإفصاح عن المعاني الجلية والإيماءات الوفية التي لا يفهمها غير أصحابها-... وجرافيكية جعلت من تشتّت العناصر التشكيلية تآلفا ومن تجزّئها تناغما راغبة في أن تكون بُنَى تشكيلية تتعانق فيها القيم الضوئية وتتغازل فيها الألوان وتتناسل عبر الأفكار... محاكية بعض الصور الفوتوغرافية للتعبير عمّ يخالج النفس ممتطيا القصبة أداة والتشكيل وسيلة، آخذا بعين الإعتبار ‘الكيف’ دقة و’اللماذا’ مرتبة أولى إحتلها العمل...
ونلحظ ذلك تقريبا في جلّ أعمال الفنان التشكيلي علي الأمجد النوري وخاصة في تكوينه الحروفي المسمى ‘تونسية’، هذه اللوحة التي صوّر فيها إمرأة بدوية بسيطة... تفنّن النوري في ابراز عفوّيتها من خلال تركيزه على إظهار تلقائيتها في الجلوس وملامح وجهها وزيّها الموغل في العروبة...
فلكأننا بالفنان التشكيلي علي الأمجد النوري هنا يتجاوز حدود الخط والحرف والكلمة... ويخترق حدود التركيب والتوليف منساقا وراء ‘قضيّة تونسية’ لم ‘تعثر’ –إلى حدّ الآن- على قيمتها و’إنسانيتها’ ‘كإمرأة’ إلاّ من خلال فضاء النوري التشكيلي ‘الجميل’...
إنه عالم موازي... تسرح فيه بخيالك وبأفكارك، موهما إياك ‘بجمال’ كيفيات البناء ومهارات ‘التطريز’ وعمق البحوث... بعالم هاته التونسية ‘الأصيل’، منسيك واقعها المرير.
لكن يظلّ دائما السؤال عن: سرّ بساطة التكوين وقوّة الترميز وكراهية الفراغ وحبّ الفنان لمثل هذه المواضيع المثيرة للسؤال... ولماذا صاغ صورة ‘تونسية’ بالذات بأحرف عربية دون سواها، عاضدا إيّاها بغرافيزمات خطية ظلت تلازم الفنان -كنمط فني أو لا ربما كمبدأ تشكيلي- في جلّ أعماله، منتقي لها ما يناسبها من تقنيات تشكيلية كالتخطيط والخربشة والتطبير والبناء والتحكّم في المساحة والإيهام بالبعد الثالث...
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: