يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الاغتيال السياسي وقتل الطغاة قديم في العالم، وقد قتل المصريون والأشوريون والهنود واليونان والرومان طغاتهم؛ لأنه لم يكن لديهم في تلك الأزمنة السحيقة طريقة مثلى لإقصاء العظماء غير المرغوب فيهم واسترداد السلطة من أيديهم سوى القتل السياسي، وما زالت هذه الطريقة شائعة حتى أدركت اليابان في عصر نهضتها، فكان مصرع المركيز إيتو (١٩٠٩) فاتحة لسلسلة من هذا الجرائم في الشرق الأوسط (الهند في ١٩١٠ و١٩١١ وما بعدهما) إلى الشرق الأدنى، ولكن هذه الطريقة خاطئة وتدل على تقهقر الأمم والجماعات التي تلجأ إليها.
أما فيما يتعلق بمصرع بكر صدقي باشا فقد وصف الأستاذ أمين سعيد صاحب الرابطة العربية كيف كان يعيش قبل مصرعه، بل كاد يتنبأ بهذا المصرع لسعة اطلاعه على أمور الشرق العربي، فقد علم أن الرجل لا يملك مغادرة بغداد في هذه الظروف العصيبة والابتعاد عنها؛ لأسباب في مقدمتها كثرة أعدائه وخصومه، وترقبهم الفرص للانقضاض عليه، والانتقام منه للذين سقاهم كأس الردى من قبل.
أما وصف الأحراس الذين كانوا يحيطون بالرجل قبل وفاته في بغداد فأقرب شيء إلى وصف حراس لينين في أخريات أيامه ولياليه لشدة ما كان يلحقه من الرعب من الانتقام، ولكن الله يعصم من يشاء من الناس ويغنيهم عن الحماة والحراس، فلم ينفع القائد الصريع وصاحبه الطيار حرس ولا جرس، ولم يقهما الموتَ جنود ولا بنود، فإن السيف لا يمنع الحتف، والمدفع لا يرد الردى إذا حانت الآجال، وقد ينقلب اجتهاد المرء في المحافظة على نفسه وبالًا عليه، وقبل مصرع هذين الرجلين صبغت شهوات السياسة وجه الأرض بالدماء.
كان الأقدمون يكرمون الجناة الذين يغتالون الطغاة ويحسبونهم محسنين لأوطانهم، وكان الإغريق يقولون بوجوب قتل الطاغية، ومن أكبر كتَّابهم بلوطارخوس صاحب كتاب «العظماء»، قال في أحد فصوله: «إن قتل الطاغية فضيلة قومية.» وعندما وثق تمليون بأن شقيقه يسعى للطغيان صمم على القضاء عليه، وأقام بعض اليونان تمثالًا لإديموس وأرستجتون لقتلهما هيبس، وسار الرومان على هذه الخطة العوجاء في نظرنا والنبيلة في نظرهم، فحبذها سيسرون وكاتون (من أشهر رجال السياسة والخطابة والقانون).
وكما قتل تيمليون أخاه انتصارًا للعدل، كذلك مد بروتوس يده بالخنجر لقتل متبنيه يوليوس قيصر، فلما رآه قيصر وكان يقاوم القتلة اصفرت الدنيا في عينيه وقال جملته الشهيرة: «حتى أنت يا بروتوس إذن هانت الحياة.» ودبر نيرون مقتل أمه أجربينا في قصرها المنعزل، فلما رأت القتلة يجردون أسيافهم قالت لمقدمهم وقد كشفت عن ملمس عفتها: «اضرب هنا في هذا المكان وأحكم الطعن، جزاءً وفاقًا لهذا المكان الذي دفع إلى العالم بولد يستبيح قتل الأم!»
وقد نقل هذا الكلام إلى نيرون ففرك يديه وقال: «مصلحة الدولة فوق احترام الأمهات! مسكينة يا أماه، لقد ذهبت فداء لمنفعة الوطن.» ثم تلى عن مصرع «فضلى الأمهات» — وكان هذا لقبها الذي يناديها به — بأنشودة وقعها على قيثارته.
ولم يدر نيرون وهو يقول هذه الكلمة أنها سوف تكون سندًا ومرجعًا لمن يأتي بعده، فقد انتشر الاعتقاد بإباحة قتل الطاغية لمصلحة الدولة، وما زال سائدًا حتى القرون الوسطى، وفي مقتل مارشال شامباني ومارشال نورماندي، خطب زعيم الدهماء (ديماجوج) مارشال في الجماهير مؤيدًا مشروعية قتل الطغاة، وخاطب ممثلي الشعب المجتمعين في ساحة المجلس البلدي قائلًا: «ألا إن ما حدث إنما تم لمصلحة الدولة ونفعها.» فأيده الشعب وأقره بالصياح والهتاف والموافقة.
وسخرت أقلام أساتذة اللاهوت والقانون في جامعة السوربون في باريس لتبرير مقتل دوق أورليان بأمر دوق بيرغنديا، ومن الأساتذة حملة العلم والقلم البروفسور يوحنا الصغير، فكتب رسالة طويلة جاء فيها «أن دوق أورليان قتل تقربًا إلى الله؛ لأنه كان عدو الله وفي خدمة الملك؛ لأنه كان أميرًا خائنًا لمولاه ولمنفعة الدولة؛ لأنه كان ظالمًا، وما دام قاتله أتقن الحيلة وحذق في حبك أطرافها وأنقذ حياة الملك بالقضاء على خصمه، فقد خرجت يده بيضاء ناصعة وضميره نقيًّا، وما دام بعيدًا عن الخطر فهو لا يخشى عاقبة جريمته».
وإن هذا الكلام الذي يبدو كأنه صدى حوادث القرون المظلمة لينطوي على مبادئ شديدة الخطر والخطورة، فإنها تبرير للقتل السياسي لا أكثر ولا أقل، وهي نوع من رأي العلماء «دوكترين» الذي يَهَبَ الجريمة متكأً وموئلًا وكنفًا وظلًّا وارفًا.
وإن الشرقيين ليعذرون إذا كانوا في القرون الوسطى قد نظموا القتل السياسي في سبيل إنقاذ أوطانهم من الأجانب أيام الحروب الصليبية، ما دام أساتذتهم في المدنية قد وضعوا لذلك قواعد وقوانين ودافعوا عنه بألسنة علمائهم وأقلامهم، فإن ثلاثة من علماء الشرق الأدنى اجتمعوا في القرن السادس عشر في مدرسة واحدة وهم:
نظام الملك، حسن بن صباح، عمر الخيام. وهم مزيج من الكرد والفرس والعرب خضعوا لحكم السلاجقة، فلما كانوا رفاقًا في المدرسة تعاهدوا على «الحب الصافي» والتعاون، وأن الناجي منهم يأخذ بيد أخيه، ولكن الأقدار فرقت بينهم تفريقًا عجيبًا، فصار نظام الملك وزيرًا وأسس جامعة «النظامية» ودعا إليها أحد رفيقيه أو كليهما للتدريس بها فاعتذر، والخيام صار شاعرًا وفلكيًّا ومجاهدًا في الحروب الصليبية، أما حسن بن صباح فقد أسس جماعة الفدائية الذين أطلق عليهم وصف «أساسينو» محرفة في الإيطالية عن الحشاشين، فقد نسبوا إليه أنه كان يخدر مريديه وأتباعه ودراويشه بالحشيش ليسلب إرادتهم ثم يوجههم أنى شاء، وقد بنى حصنًا عاليًا في رأس الجبل (ولذا سمي شيخ الجبل) وأوهم الغزاة من الإفرنج أن لديه مئات الألوف من الذين يطيعونه طاعة عمياء، فكان ذلك سببًا في ارتدادهم عن مقر سلطته، وكان يستعمل رجاله في إرهاب الأمراء وسلاطين الدويلات المجاورة له وابتزاز أموالهم حتى كوَّن دويلته على الحديد والنار والدم.
وفي نظرنا أن هذا الرجل لم يكن أقل من دوقات فرنسا ولا بعض قواد الإنجليز (كرومويل) ولا أمراء إيطاليا (أسرة بورجيا الخبيثة الذكر)، فقد ألَّف ميكافيلي كتابه الأمير وأهداه إلى قيصر بورجيا بعبارة يدل أسلوبها على الذل والهوان، ولم يكن يعلِّمه إلا اقتناص الممالك بالغدر والقتل ويضرب له الأمثال من التاريخ القديم الحديث.
وإن أوروبا التي ترمينا بأدوائها وتنسل لمخضبة عروشها وقصورها وميادينها بدماء الطغاة أو الأبرياء، فقد كان القتل يقع عليهم زرافات وأفواجًا، كما حصل في مذبحة القديس بارتلميه. وفي القرن الثامن عشر تولت كاترين الثانية عرش روسيا ودافعت عن حقها في قتل الطغاة، ثم أمرت بقتل بعلها بطرس الثالث (لأنه لم يكن يحسن صنعة الحب كما ترغب قرينته وتشتهي، فاتخذت من السياسة سببًا لقتله لتتخذ من تشاء من محترفي الغرام وشهدائه).
وأصدرت منشورًا دافعت فيه عن جريمتها، فتلقفه «علماء القتل السياسي» وضموه إلى سجلاتهم، وجعلوا منه سندًا جديدًا لتأييد نظريتهم ومرجعًا قضائيًّا عندما تعوزهم «حيثيات الحكم»!
ومما جاء في هذا المنشور العجيب أن بطرس الثالث كان عدو الأمة والدين (الله والوطن) وأن الذين أنقذوا البلاد والملة من شرِّه أبطال يستحقون تقدير الوطن!
ولما انقسم الثوريون الفرنسيون على أنفسهم وانشقوا الانشقاق الذي دمر صرخ ثورتهم وصاروا شيعًا كاليعقوبية والجبلية والكونفنسيونية، قال اليعاقبة بحق قتل الطغاة، وألف الهاربون من الطغيان حزبًا في خارج فرنسا، ونطق بلسانهم كاتب اسمه بلتييه في صحيفة دورية فقال: «ليس للمغتصب عرشَ فرنسا حقٌ في الوجود، وقتله واجب.»
ولم ينج بونابرت وهو في ذروة مجده من المؤامرات لقتله، وأهمها مؤامرة البارود، ويظن أنها من تدبير فوشيه رئيس الشرطة السرية وزعيم رجال الخفية في أكثر من عهد واحد، وقتل كليبر في مصر بيد سليمان الحلبي بسبب سياسي، وكان من أشباه نابوليون في قوة الأمر والنشاط والذكاء.
وقد سرت فكرة القتل السياسي للحلبي وهو طالب أزهري من تعاليم الفرنسيين الذين صحبوا حملة بونابرت، وكان لمعارفهم وفنونهم أثر كبير في أذهان الشرقيين.
وتأسست جمعيات سرية فظيعة غايتها القتل، ويجب هنا أن ننبه إلى خطأ شائع وهو لا مكان له من الحقيقة، فإن جمعية الماسون أو البنائين الأحرار لم تلوث أياديها في أي عهد من العهود بشيء من هذه الجرائم؛ لأن قوانينها تحول دون ذلك، وإن كان خصومها قد اتهموا ظلمًا بذلك، وقد اتهموها لعلو نفوذها وخطورة شأن رجالها وأعمالها التي قامت بها في كل العصور، حتى إن أعظم منافسيها من الكهنة والقساوسة لم يستطيعوا أن يكتبوا سطرًا يؤيدون به هذه التهمة، ولم يساعد على تقوية الشائعات وترديدها إلا أنها جمعية سرية، ولكن السرية شيء والجريمة شيء آخر.
ومن الجمعيات التي أنشئت في أوربا للقتل السياسي جمعية أنصار المساواة، ومنها تخرج دارميس الذي تعدى على لوي فيليب وترافع كنسيه أمام المحكمة بقوله: «تربيت ودرجت على فكرة قتل الملوك، ورضعت لبان هذه النظرية في أحضان الجمعيات السرية.» ودافع البيو عن نفسه قائلًا ما ثبت على لسانه في محاضر الجلسات:
الاعتداء على الملك من حق الرجل الذي لا يستطيع الوصول إلى الحق إلا بيده، وإنني حين اعتديت على الملك لم أكن أقل صنعة أو أضعف حقًّا من بروتوس حين قتل يوليوس قيصر.
وما زالت أوروبا ترمينا بكل بلية من أمراضها وجرائمها، ولم تنقطع سلسلة القتل السياسي في عواصمها، ففي سنة ١٩٠٣ قتل الملكان إسكندر ودراجا في ليلة قمرية من شهر يونيو ليصعد إلى العرش مكانهما بطرس قره جيورجوفتش الذي كانت تساعده فرنسا، وفي سنة ١٩٣٤ في مرسيليا قتل ملك الصرب ووزير خارجية فرنسا اغتيالًا.
وفي إيطاليا سنة ١٩٢٤ قتل ماتيوتي النائب البرلماني الشيوعي؛ لأنه قاوم الفاشية صراحةً، وفي باريس قتل رئيس الجمهورية دومير سنة ١٩٣٢، ودافع القاتل عن نفسه دفاعًا فلسفيًّا دل على أنه مخبول، وحاول رجال من اليمن في سنة ١٩٣٥ أن يغتالوا عبد العزيز آل سعود وهو يطوف بالكعبة، وشرع جنديان مخدران في قتل محمد علي الكبير في أحد مواكبه في سكة الغورية ولم يصب بأذى فأحضرهما وعفا عنهما وقربهما وأغدق عليهما النعيم والرتب وصبر عليهما حتى تذوقا لذة الترف وطعم الزواج والأبوة ثم حاسبهما فجأة على جرمهما القديم وأعدمهما قائلًا: «كنتما بالأمس صعلوكين لا قيمة للحياة عندكما، أما الآن فلها قيمة تستحق أن تسلب منكما.»
فالاغتيال السياسي في العالم شرقًا وغربًا وباءٌ مقيم ليس في شفائه حيلة إلا بتعرف أسبابه، وهو في الشرق أقل خطرًا منه في الغرب، فإن جناة الغرب يقتلون الملوك والعظماء لأجل مبدأ القتل السياسي، ولأنهم لا يريدون ملوكًا ولا عظماء، ولذا يتطوع الروسي والإيطالي واليهودي في قتل الإنجليزي والفرنسي والأمريكي، أما في الشرق فالدافع هو الانتقام أو الحسد أو تطلع الرجال — الذين يسلحون أيدي القتلة — إلى السلطة التي في يد المقتول، وداء القتل للمبدأ لا يزول، بل يشتد وينمو كلما نمت أسبابه، وهي اقتصادية واجتماعية وسياسية، أما داء القتل لأجل الانتقام والحسد والبغضاء لأسباب عامة فقابل للشفاء بالقضاء على أسبابه.
------------
مجلة الرابطة العربية
٢٥ أغسطس ١٩٣٧
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: