يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
هناك شيء غريب وغير قابل للتصديق يحدث في العالم وللعالم. فعندما نريد أن نصف طاغية بمنتهى الوحشية والعنف والتعطش للدماء ننعته بأنه نيرون. لكن عند مقارنة ما حدث في روما منذ حوالي ألفي عام وما يحدث في سوريا اليوم ماذا نجد؟
أن سوريا تحترق وتتمزق وتدمّر منذ خمس سنوات قابلة للتجديد إلى أمد غير منظور تحت أنظار العالم “المتمدن” المعني بالحقوق والديمقراطية.
وبينما جعل التاريخ من نيرون مثالا للطغيان، لا تزال القوى العالمية المهيمنة تعتبر أفعال بشار الأسد وسلوكه شرعية؟ فهو الرئيس “الشرعي المنتخب”؛ تلك الشرعية المستندة إلى الآلاف من الجنود المرتزقة الملمومين من شتات الكرة. شرعيته التي تحمي نظام إيران وبلسان مرشده الأعلى ولذا يفرضها بدوره. شرعيته التي تدعي محاربة الإرهاب والتطرف، والإرهاب المقصود هو نفسه الشعب السوري الذي انتخب رئيسه “الشرعي” بنسبة 99,9 بالمئة من الأصوات!!
فما الذي فعله نيرون في روما أكثر مما يفعله بشار الأسد وحلفاؤه في سوريا أو حلب مثلاً ليتحول إلى مثال الوحشية، بينما يظل الأسد رئيسا منتخبا ومقبولا؟
تخيل نيرون سنة 64 ميلادي أن يعيد بناء روما. نشب فيها الحريق من القاعدة الخشبية للسيرك الكبير فانتشرت النيران بشدة لمدة أسبوع في أنحياء روما، والتهمت عشرة أحياء من جملة أنحاء المدينة الأربعة عشر.
وهلك في هذا الحريق الآلاف من سكان روما واتجهت أصابع اتهام الشعب والسياسيين تشير إلى نيرون في أنه هو المتسبب في الحريق المتعمد، وتهامس أهل روما بالأقاويل عليه وتعالت كلماتهم وتزايدت كراهية الشعب له. ما جعله يحتاج إلى كبش فداء يحمّله مسؤولية ما حصل أمام الشعب. كان أمامه أن يختار إما اليهود وإما أتباع المسيحية حديثة العهد في روما، فألصق التهمة بالمسيحيين، وبدأ يلهي الشعب في القبض على المسيحيين واضطهادهم وسفك دمائهم.
واستمر الاضطهاد الدموي أربع سنوات ذاق فيها المسيحيون كل ما يتبادر إلى الذهن من أصناف التعذيب الوحشي، وكان من ضحاياه بولس وبطرس اللذان قتلا عام 68. ولما سادت الإمبراطورية الرومانية الفوضى والجريمة أعلن مجلس الشيوخ “السناتو” أنه أصبح “عدو الشعب”. فمات منتحرا في عام 68.
ما الحكمة التي نستنتجها من حكاية نيرون؟ أن روما ومجلسها لم تحتمله أكثر من 4 سنوات بعد حريق روما، وأنه عندما أعلن عدوا للشعب انتحر. ونستنتج أيضا أن نيرون لم يحرق روما جهارا وعلانية، ولم يرمها بالبراميل الروسية المتفجرة تحت أنظار العالم المتفرج والأخرس وبغطاء دولي من مجلس الأمن. وأن ضحاياه بالآلاف ولا بالملايين.
والمفارقة أن ما حصل في روما منذ ألفي عام لم يكن معروضا ومتابعا لحظة بلحظة بشكل فاضح وأمام أنظار البشرية كما هو حاصل اليوم.
تحولت حلب إلى جحيم حيث تقوم الطائرات الحربية الروسية بتدميرها بالقصف الجوي المكثف لتغطية تقدم رجال إيران وميليشياتها برا، أما قوات الأسد فربما تقوم بدور المرشد السياحي للمعتدين على الشعب السوري. يُقصفُ السكان بالقذائف المحظورة دوليا، تهدم المنازل على رؤوسهم. إضافة إلى ذلك يحاصرون المدينة ويطوقون المناطق والأحياء ويجوّعون السكان دافعين بهم إلى ترك منازلهم واللجوء بالآلاف إلى الحدود التركية الملزمة بقبولهم.
يوصف الوضع في حلب بالجحيم حيث مئات الآلاف يعانون الجوع ويرتعدون من البرد مختبئين في المدن المدمرة على رؤوسهم. مشهد الآلاف من السوريين المهجرين المنتشرين في أنحاء المنطقة تحت أنظار العالم المتفرج يثير الاستغراب. الآلاف من اللاجئين السوريين يحاولون الهرب من جحيم نظام الأسد والجماعات الإرهابية المؤيدة له لا يمكن لعقل أو منطق أن يجد له تبريرا.
في مطلع سبتمبر الماضي كان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يصرح “الأسد رئيس شرعي والجيش السوري هو القوة الفاعلة لمحاربة “داعش”. نافيا نية موسكو التدخل.
بعد أشهر قليلة وفي أعقاب فشل جولة المباحثات في جنيف مع ممثلي المعارضة السورية، هدد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، أنه إذا لم ينجح خيار الاتفاق السياسي فسيستمر النظام السوري، بمساعدة جوية روسية، في الحسم العسكري حتى الانتصار. لم يعد الحسم العسكري المقصود ضد تنظيم داعش، بل ضد فصائل المعارضة السورية المعتدلة.
أما الأسد فقد أعلن، بعد أن اطمأن إلى صواريخ الروس ومشاة الإيرانيين، أن هدفه استعادة كل الأراضي السورية، مقدرا أن ذلك قد يتطلب وقتا “طويلا” في ظل الوضع الحالي في سوريا. فتخيلوا استمرار هذا الوضع لسنوات قادمة؟ هل يعقل كل هذا؟
تعتقد كل من إيران وروسيا أن بقاء بشار الأسد هو أمر حيوي لأنه يعطي التدخل الأجنبي الشرعية المطلوبة لإجهاض أي طعن قانوني على أساس الأعراف والقوانين الدولية.
الشرعية التي يعتمدون عليها هي شرعية الانتخابات التي أجريت بعد الثورة وأثارت سخرية العالم أجمع نظرا لظروف البلاد التي دمرت معظم بناها التحتية، وتعطلت معظم مؤسسات الدولة في دمشق، وتم تشريد أكثر من نصف السكان وقتل أكثر من نصف مليون سوري بعد أن أوقف العدّ.
ثمة مفهوم بدائي وخبيث للديمقراطية يروّجه الأقوياء ومفاده أن الانتخابات تضفي شرعية على السياسي المنتخب، وأن هذا هو مؤشر وجود الديمقراطية.
لكن الانتخابات ليست مرادفا للديمقراطية، إنها جزء من النظام الديمقراطي المبني على فصل السلطتين التنفيذية والتشريعية، ودستور يكفل الحريات الأساسية من سياسية ومدنية، ونظام قضائي مستقل.
طالما كانت أنظمة الاستبداد تجدد هيمنتها المتسلطة أو تلبسها الشرعية من خلال الانتخابات – المهزلة، التي تحسم قبل عملية الاقتراع.
درج الأمر في بعض أوساط العلوم السياسية على الحديث عن شرعية نظام سياسي ما كأنها خاصية ملتصقة به حصرا يفضي غيابها بالضرورة إلى أزمة شرعية أو إلى اللاشرعية.
فكيف تتشرعن سلطة معينة؟ وهل اعتماد العنف العاري وسيلة مقبولة ديمقراطيا؟
الشرعية بحسب ماكس فيبر ترتبط بالهيمنة ويحتل مفهوم الهيمنة الشرعية مكانة مركزية في السوسيولوجيا السياسية لفيبر الذي أورد تصنيفا لها. لكن ما يهمنا هنا هو أن هذه الأنماط التي عددها للهيمنة لا يمكن أن تؤسس شرعيتها على دعائم خارجية ومادية فقط، بل لا بد لها من (اعتقاد) الخاضعين لها في شرعيتها.
تظهر التجربة أنه لا توجد هيمنة يقتصر بناء استمراريتها وبقائها على مجرد دوافع مادية أو عاطفية أو عقلانية ناهيك عن العنفية. خلافا لذلك كل أنماط الهيمنة تبحث عن بث الاعتقاد عند الخاضعين لها. إذن اعتقاد المهَيْمَن عليهم وقبولهم لها هو مصدر الشرعية الأول.
ألم يظهر الشعب السوري، بما فيه الكفاية بعد، أنه نزع الشرعية عن هذا النظام وممثله؟ ألا يؤكد يوميا على عدم إيمانه بشرعية سلطة الأسد؟ ألا يكفي الدمار والموت والتهجير لمئات الآلاف وللملايين كي تفقد “الحكومة الشرعية” شرعيتها.
ألم يحن أوان إعلان سلطة الأسد القائمة بفعل التدخل العسكري الخارجي والمباشر فقط كسلطة محتلة من قبل منظمة الأمم المتحدة؟
تخيلوا أن يعمد الرئيس الأميركي إلى قصف مدينة أميركية أعلنت العصيان عليه وأن يقبل العالم بذلك لمجرد أنه منتخب شرعيا؟ وتخيلوا أن تعني الشرعية وأن يعني السلام في أيامنا هذه، بحسب حامل جائزة نوبل للسلام، أن يترك الملايين عرضة للعنف والقتل والتشريد.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: