البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

العراق بلاد المليون جذع نخلة ونخلة

كاتب المقال د. مثنى عبدالله - باريس    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 2761


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


كنا رفقة مسؤول أممي كبير أبى إلا أن يزور العراق، رغم الظروف الأمنية غير المستقرة، بهدف الوقوف عن كثب على احتياجاته الإنسانية والإعمارية، بعدما بنت قراءاته ومسموعاته عنه صورة جميلة له في المخيلة.

كان يؤكد على أن هذا البلد قدم للحضارة الإنسانية كل شيء جميل بكرم نادر، وبات على الإنسانية أيضا أن تقدم له اليوم كل ماعندها وفاء لدين قديم. لم يتورع المسؤول عن زيارة أي منطقة أو محافظة، ولم تردعه الحدود الطائفية والإثنية التي كانت تشير إليها السيطرات الأمنية بأعلامها المرفوعة. فهذه السيطرة مرفوع عليها علم الأكراد، للإشارة إلى أننا في حدود دولة الأكراد، وتلك عليها علم التركمان للإشارة إلى أننا في بلاد التركمان، وغيرهما عليها أعلام ورايات ما أنزل الله بها من سلطان، لكنها تشير وبوضوح إلى حدود الطوائف والأقليات.

وفي طريق العودة كنا لازلنا في السيارة، التفت إليّ الرجل ورمقني بنظرة طويلة خلتها دهرا، وكان الأسى يقطر من عينيه دمعا، وعلت قسمات وجهه سحابة ألم وحيرة وحسرة. أهذا هو بلد الثلاثين مليون نخلة الذي كنت تغويني به كثيرا؟ أهذا هو بلد ألف ليلة وليلة، والمنصور والرشيد وحواضر العلم في بغداد والكوفة والبصرة؟ أين عيون المها التي تملا المساحة بين الرصافة والجسر؟ وأين صوت خرير الماء الصافي من جداوله وأنهاره وغدرانه؟ بل أين الإنسان فيه؟ هكذا كرت الأسئلة من بين شفتيه بمرارة لاذعة، ولم أتخيل أبدا أنه سوف يجهش بالبكاء والنشيج، كفتى علم أن أمه أصابها مرض السرطان، وباتت على مشارف النهاية. هذا بلد المليون جذع نخلة ونخلة. هكذا قال، بعد أن رأى بعينيه غابة نخيل انتهك غرورها بطولها الفارع، عدد من الآليات التي راحت تدك بقوة جذوعها فتطرحها أرضا.

نزل كالمجنون مهرولا نحو المكان، متسائلا عن مدى أهمية المشروع الذي سيقام على هذه الأرض، هل هو صرح علمي كبير؟ أم مشروع صناعي إستراتيجي يستحق أن تدمر فيه كل هذه الغابة من أشجار النخيل، فجاءه الجواب أن مسؤولا في السلطة أعجبه المكان الواقع على ضفاف النهر، فاشترى غابة النخيل كي يشيد عليها قصرا منيفا له ولابنائه وأشقائه، عاد فجلس في مقعده ينظر من خلف زجاج النافذة.

كانت أشجار النخيل تميل بقوة نحو الأرض بفعل ضربات الآليات ثم تنهض من جديد. كانت تصرخ من وجع العراق وليس وجعها وحده. كانت تستغيث، تبكي، ثم تنطرح أرضا، وما هي إلا لحظات حتى بات هنالك هرم من جذوع النخيل.

قد تلخص كلمات الرجل في وصف العراق اليوم حقيقة كبرى، يلمسها كل إنسان في هذه الرقعة الجغرافية، لكن لم لا تبرز قوى التغير على أرض الواقع؟ هذا هو السؤال المهم. فمعايشة الواقع المؤلم ليست هدفا، كي نقول بعدها بأننا صبرنا، بل يجب أن يكون التشخيص هو الهدف الأول كي نستطيع بعدها القيام بعملية المعالجة. معايشة الواقع بكل مآسيه ونتائجه الكارثية ليست بطولة، بل هي قد تكون في أغلب الأحيان تعبيرا عن حالة يأس مدقع وعار، وانسدادا تاريخيا لافق الحل، إلى الحد الذي يصبح وكأنه قدر علينا أن نقبل به ونتعايش معه، وهذه حالة خطرة جدا تمر بها الشعوب والأمم. قد نعزي الحالة الراهنة إلى الوضع السياسي الشاذ والمعقد الذي فرض على الوطن، وهي حقيقة حية رافقها وضع اقتصادي وأمني واجتماعي سيئ مس كل جوانب المجتمع وحياة الناس، لكن علينا أن نتذكر جيدا أن هذا الوضع الشاذ، وهذه الطبقة السياسية القادمة من مستنقعات الجهل والظلامية، ليست حدثا جديدا على هذه البلاد. لقد مر العراق بظروف مشابهة، كما مرت بلدان كثيرة بالظروف نفسها، لكن المراهنة على الإنسان لم تخب يوما لانه الوحيد صانع التاريخ والأقدار. يقول لي صاحبي ونحن نغادر العراق، إنه اكتشف أن المشكلة في الإنسان أيضا. قلنا كيف؟ قال، إنه لم يجد تفسيرا منطقيا لكيفية قبول العراقي العيش في قعر المأساة، ولا يخرج شاهرا سيفه على الباطل والظلم والفقر والجوع والمرض؟ كيف قبل أن يتعايش مع الجدران الكونكريتية، والفصل الطائفي للأحياء والمدن والمحافظات، ومؤسسات الدولة؟ كيف قبل أن يتقزّم تحت خيمة الطائفة، ويتقوّقع ضمن حدود مدينته الصغيرة وحيه والزقاق الذي يعيش فيه، بدلا من الخروج الحر في ارجاء الوطن ككيان مادي ومعنوي؟ قلنا إذن أنت تُحمّل المواطن في هذا البلد المسؤولية الكاملة عن الحالة الكارثية التي وصل إليها. قال، ذلك صحيح ومن هذه النقطة يجب أن يخرج الحل، لأن البلدان المتخلفة سياسيا يجب أن يتحمل فيها الافراد والشخصيات الاعتبارية المعنوية، كرجال الدين وزعماء العشائر ورؤساء القبائل والمثقفين والتكنوقراط، عبء التصدي للفعل السياسي المتخلف، وتقويم وإصلاح الاعوجاج في الطبقة الحاكمة. أما في الأنظمة السياسية المتقدمة والبلدان المتطورة، فلا حاجة للمواطن فيها أن يتحمل العبء الأكبر في هذا الجانب، لأن المؤسسات الديمقراطية قادرة على إصلاح نفسها، وهي التي تقوّم اعوجاج العملية السياسية، وهي من تحكم على اللصوص والمرتشين بالموت السياسي، وتبعدهم تماما عن مواقع المسؤولية طوال الحياة، وهي التي تحاسب وتسأل من اين لك هذا، وأين صُرف المال العام، وهي التي تحقق العدالة الاجتماعية وترفع الظلم عن المظلومين.

إننا في بداية عام جديد يفترض أن يراجع فيه العراقيون جميعا مواقفهم من انفسهم، ويبحثوا جديا في الاسباب والعوامل التي كانت قد صهرتهم في بوتقة الوطن، بعيدا عن جميع الهويات الصغرى، كي نتلمس مجددا طريق العودة إلى الهوية الوطنية. فالهويات الصغرى لا تمنح الشعوب الحية أفقا واسعا نحو المستقبل، لأن مواردها البشرية غير كافية كي تكون عامل نهوض، بينما الهويات الكبرى دائما تكون دافعا قويا للنهضة وصناعة التاريخ. كما أن قراءتنا للتاريخ يجب أن تكون استلهامية وليست تقليدية، فما الفائدة من خروجنا بالملايين استذكارا لحادثة تاريخية حصلت أو مظلمة وقعت، بينما لا نحرك ساكنا ضد الظلم الكبير الذي نعيشه ونعانيه، فمن لا يعي بحاله ولا يشعر بمأساته، كيف له أن يشعر بمعاناة ومأساة الاخرين؟ كما أن الحالة الراهنة ستكون إرثا مأساويا للأجيال القادمة إن لم نتحمل مسؤولية التغيير.
---------
د. مثنى عبدالله
باحث سياسي عراقي
-----
مقال ينشر بالتوازي في مواقع: القدس العربي، البصرة نت، الكادر
محرر موقع بوابتي


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

العراق، إيران، الارهاب، داعش، الشيعة، السنة، التدخل الايراني، التدخل الامريكي، الدولة الإسلامية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 5-01-2016  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمد يحي، طلال قسومي، محمود سلطان، علي الكاش، حسن عثمان، عزيز العرباوي، صباح الموسوي ، كريم السليتي، عبد الله زيدان، عمر غازي، يزيد بن الحسين، عبد الرزاق قيراط ، فتحـي قاره بيبـان، رحاب اسعد بيوض التميمي، وائل بنجدو، فوزي مسعود ، رمضان حينوني، رضا الدبّابي، محمود طرشوبي، د. طارق عبد الحليم، تونسي، محمد الياسين، أنس الشابي، د. خالد الطراولي ، رشيد السيد أحمد، إيمى الأشقر، سلام الشماع، كريم فارق، مجدى داود، د - عادل رضا، حميدة الطيلوش، سامر أبو رمان ، د - محمد بن موسى الشريف ، المولدي الفرجاني، أحمد بوادي، نادية سعد، خبَّاب بن مروان الحمد، سعود السبعاني، مراد قميزة، أحمد ملحم، حاتم الصولي، د- جابر قميحة، العادل السمعلي، صفاء العراقي، الناصر الرقيق، محمد العيادي، فتحي العابد، محمد اسعد بيوض التميمي، د. كاظم عبد الحسين عباس ، الهادي المثلوثي، ضحى عبد الرحمن، د- محمود علي عريقات، صفاء العربي، د. صلاح عودة الله ، رافد العزاوي، د - الضاوي خوالدية، أحمد بن عبد المحسن العساف ، محرر "بوابتي"، صلاح المختار، عراق المطيري، عمار غيلوفي، إسراء أبو رمان، د - صالح المازقي، سليمان أحمد أبو ستة، سلوى المغربي، د - مصطفى فهمي، صلاح الحريري، أ.د. مصطفى رجب، ياسين أحمد، أشرف إبراهيم حجاج، د. عبد الآله المالكي، محمود فاروق سيد شعبان، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د - شاكر الحوكي ، علي عبد العال، د - محمد بنيعيش، د - المنجي الكعبي، أبو سمية، د- محمد رحال، أحمد النعيمي، ماهر عدنان قنديل، سيد السباعي، خالد الجاف ، عواطف منصور، الهيثم زعفان، عبد الله الفقير، سامح لطف الله، د. عادل محمد عايش الأسطل، أحمد الحباسي، منجي باكير، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، فتحي الزغل، د- هاني ابوالفتوح، محمد عمر غرس الله، محمد الطرابلسي، د. أحمد بشير، مصطفى منيغ، د.محمد فتحي عبد العال، د. ضرغام عبد الله الدباغ، جاسم الرصيف، حسني إبراهيم عبد العظيم، مصطفي زهران، إياد محمود حسين ، سفيان عبد الكافي، عبد الغني مزوز، محمد أحمد عزوز، صالح النعامي ، يحيي البوليني، فهمي شراب، رافع القارصي، د. مصطفى يوسف اللداوي، حسن الطرابلسي، محمد شمام ، د. أحمد محمد سليمان،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة