البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

العراق بلاد المليون جذع نخلة ونخلة

كاتب المقال د. مثنى عبدالله - باريس    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 2999


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


كنا رفقة مسؤول أممي كبير أبى إلا أن يزور العراق، رغم الظروف الأمنية غير المستقرة، بهدف الوقوف عن كثب على احتياجاته الإنسانية والإعمارية، بعدما بنت قراءاته ومسموعاته عنه صورة جميلة له في المخيلة.

كان يؤكد على أن هذا البلد قدم للحضارة الإنسانية كل شيء جميل بكرم نادر، وبات على الإنسانية أيضا أن تقدم له اليوم كل ماعندها وفاء لدين قديم. لم يتورع المسؤول عن زيارة أي منطقة أو محافظة، ولم تردعه الحدود الطائفية والإثنية التي كانت تشير إليها السيطرات الأمنية بأعلامها المرفوعة. فهذه السيطرة مرفوع عليها علم الأكراد، للإشارة إلى أننا في حدود دولة الأكراد، وتلك عليها علم التركمان للإشارة إلى أننا في بلاد التركمان، وغيرهما عليها أعلام ورايات ما أنزل الله بها من سلطان، لكنها تشير وبوضوح إلى حدود الطوائف والأقليات.

وفي طريق العودة كنا لازلنا في السيارة، التفت إليّ الرجل ورمقني بنظرة طويلة خلتها دهرا، وكان الأسى يقطر من عينيه دمعا، وعلت قسمات وجهه سحابة ألم وحيرة وحسرة. أهذا هو بلد الثلاثين مليون نخلة الذي كنت تغويني به كثيرا؟ أهذا هو بلد ألف ليلة وليلة، والمنصور والرشيد وحواضر العلم في بغداد والكوفة والبصرة؟ أين عيون المها التي تملا المساحة بين الرصافة والجسر؟ وأين صوت خرير الماء الصافي من جداوله وأنهاره وغدرانه؟ بل أين الإنسان فيه؟ هكذا كرت الأسئلة من بين شفتيه بمرارة لاذعة، ولم أتخيل أبدا أنه سوف يجهش بالبكاء والنشيج، كفتى علم أن أمه أصابها مرض السرطان، وباتت على مشارف النهاية. هذا بلد المليون جذع نخلة ونخلة. هكذا قال، بعد أن رأى بعينيه غابة نخيل انتهك غرورها بطولها الفارع، عدد من الآليات التي راحت تدك بقوة جذوعها فتطرحها أرضا.

نزل كالمجنون مهرولا نحو المكان، متسائلا عن مدى أهمية المشروع الذي سيقام على هذه الأرض، هل هو صرح علمي كبير؟ أم مشروع صناعي إستراتيجي يستحق أن تدمر فيه كل هذه الغابة من أشجار النخيل، فجاءه الجواب أن مسؤولا في السلطة أعجبه المكان الواقع على ضفاف النهر، فاشترى غابة النخيل كي يشيد عليها قصرا منيفا له ولابنائه وأشقائه، عاد فجلس في مقعده ينظر من خلف زجاج النافذة.

كانت أشجار النخيل تميل بقوة نحو الأرض بفعل ضربات الآليات ثم تنهض من جديد. كانت تصرخ من وجع العراق وليس وجعها وحده. كانت تستغيث، تبكي، ثم تنطرح أرضا، وما هي إلا لحظات حتى بات هنالك هرم من جذوع النخيل.

قد تلخص كلمات الرجل في وصف العراق اليوم حقيقة كبرى، يلمسها كل إنسان في هذه الرقعة الجغرافية، لكن لم لا تبرز قوى التغير على أرض الواقع؟ هذا هو السؤال المهم. فمعايشة الواقع المؤلم ليست هدفا، كي نقول بعدها بأننا صبرنا، بل يجب أن يكون التشخيص هو الهدف الأول كي نستطيع بعدها القيام بعملية المعالجة. معايشة الواقع بكل مآسيه ونتائجه الكارثية ليست بطولة، بل هي قد تكون في أغلب الأحيان تعبيرا عن حالة يأس مدقع وعار، وانسدادا تاريخيا لافق الحل، إلى الحد الذي يصبح وكأنه قدر علينا أن نقبل به ونتعايش معه، وهذه حالة خطرة جدا تمر بها الشعوب والأمم. قد نعزي الحالة الراهنة إلى الوضع السياسي الشاذ والمعقد الذي فرض على الوطن، وهي حقيقة حية رافقها وضع اقتصادي وأمني واجتماعي سيئ مس كل جوانب المجتمع وحياة الناس، لكن علينا أن نتذكر جيدا أن هذا الوضع الشاذ، وهذه الطبقة السياسية القادمة من مستنقعات الجهل والظلامية، ليست حدثا جديدا على هذه البلاد. لقد مر العراق بظروف مشابهة، كما مرت بلدان كثيرة بالظروف نفسها، لكن المراهنة على الإنسان لم تخب يوما لانه الوحيد صانع التاريخ والأقدار. يقول لي صاحبي ونحن نغادر العراق، إنه اكتشف أن المشكلة في الإنسان أيضا. قلنا كيف؟ قال، إنه لم يجد تفسيرا منطقيا لكيفية قبول العراقي العيش في قعر المأساة، ولا يخرج شاهرا سيفه على الباطل والظلم والفقر والجوع والمرض؟ كيف قبل أن يتعايش مع الجدران الكونكريتية، والفصل الطائفي للأحياء والمدن والمحافظات، ومؤسسات الدولة؟ كيف قبل أن يتقزّم تحت خيمة الطائفة، ويتقوّقع ضمن حدود مدينته الصغيرة وحيه والزقاق الذي يعيش فيه، بدلا من الخروج الحر في ارجاء الوطن ككيان مادي ومعنوي؟ قلنا إذن أنت تُحمّل المواطن في هذا البلد المسؤولية الكاملة عن الحالة الكارثية التي وصل إليها. قال، ذلك صحيح ومن هذه النقطة يجب أن يخرج الحل، لأن البلدان المتخلفة سياسيا يجب أن يتحمل فيها الافراد والشخصيات الاعتبارية المعنوية، كرجال الدين وزعماء العشائر ورؤساء القبائل والمثقفين والتكنوقراط، عبء التصدي للفعل السياسي المتخلف، وتقويم وإصلاح الاعوجاج في الطبقة الحاكمة. أما في الأنظمة السياسية المتقدمة والبلدان المتطورة، فلا حاجة للمواطن فيها أن يتحمل العبء الأكبر في هذا الجانب، لأن المؤسسات الديمقراطية قادرة على إصلاح نفسها، وهي التي تقوّم اعوجاج العملية السياسية، وهي من تحكم على اللصوص والمرتشين بالموت السياسي، وتبعدهم تماما عن مواقع المسؤولية طوال الحياة، وهي التي تحاسب وتسأل من اين لك هذا، وأين صُرف المال العام، وهي التي تحقق العدالة الاجتماعية وترفع الظلم عن المظلومين.

إننا في بداية عام جديد يفترض أن يراجع فيه العراقيون جميعا مواقفهم من انفسهم، ويبحثوا جديا في الاسباب والعوامل التي كانت قد صهرتهم في بوتقة الوطن، بعيدا عن جميع الهويات الصغرى، كي نتلمس مجددا طريق العودة إلى الهوية الوطنية. فالهويات الصغرى لا تمنح الشعوب الحية أفقا واسعا نحو المستقبل، لأن مواردها البشرية غير كافية كي تكون عامل نهوض، بينما الهويات الكبرى دائما تكون دافعا قويا للنهضة وصناعة التاريخ. كما أن قراءتنا للتاريخ يجب أن تكون استلهامية وليست تقليدية، فما الفائدة من خروجنا بالملايين استذكارا لحادثة تاريخية حصلت أو مظلمة وقعت، بينما لا نحرك ساكنا ضد الظلم الكبير الذي نعيشه ونعانيه، فمن لا يعي بحاله ولا يشعر بمأساته، كيف له أن يشعر بمعاناة ومأساة الاخرين؟ كما أن الحالة الراهنة ستكون إرثا مأساويا للأجيال القادمة إن لم نتحمل مسؤولية التغيير.
---------
د. مثنى عبدالله
باحث سياسي عراقي
-----
مقال ينشر بالتوازي في مواقع: القدس العربي، البصرة نت، الكادر
محرر موقع بوابتي


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

العراق، إيران، الارهاب، داعش، الشيعة، السنة، التدخل الايراني، التدخل الامريكي، الدولة الإسلامية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 5-01-2016  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
د. طارق عبد الحليم، رافد العزاوي، رافع القارصي، د - عادل رضا، عراق المطيري، كريم فارق، سلام الشماع، خبَّاب بن مروان الحمد، عبد الرزاق قيراط ، المولدي الفرجاني، د.محمد فتحي عبد العال، إسراء أبو رمان، طلال قسومي، أ.د. مصطفى رجب، د. خالد الطراولي ، حسني إبراهيم عبد العظيم، سيد السباعي، يزيد بن الحسين، رشيد السيد أحمد، فهمي شراب، حسن الطرابلسي، ضحى عبد الرحمن، مصطفي زهران، خالد الجاف ، د - محمد بن موسى الشريف ، حميدة الطيلوش، د. أحمد محمد سليمان، د. عادل محمد عايش الأسطل، المولدي اليوسفي، محمد الطرابلسي، سامر أبو رمان ، سفيان عبد الكافي، مراد قميزة، علي الكاش، أنس الشابي، سامح لطف الله، عبد الغني مزوز، طارق خفاجي، محمد العيادي، سلوى المغربي، إياد محمود حسين ، بيلسان قيصر، سعود السبعاني، رحاب اسعد بيوض التميمي، أحمد بوادي، أحمد الحباسي، د - الضاوي خوالدية، حسن عثمان، أحمد بن عبد المحسن العساف ، فتحي الزغل، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، د - محمد بنيعيش، عبد العزيز كحيل، د. كاظم عبد الحسين عباس ، فتحـي قاره بيبـان، محرر "بوابتي"، مصطفى منيغ، إيمى الأشقر، د. عبد الآله المالكي، د. مصطفى يوسف اللداوي، د - شاكر الحوكي ، أحمد ملحم، محمد يحي، محمد اسعد بيوض التميمي، د - صالح المازقي، محمود طرشوبي، صلاح المختار، ماهر عدنان قنديل، صباح الموسوي ، العادل السمعلي، عبد الله زيدان، أبو سمية، عبد الله الفقير، منجي باكير، صفاء العراقي، تونسي، محمود سلطان، عمر غازي، نادية سعد، د- محمد رحال، محمد علي العقربي، سليمان أحمد أبو ستة، فوزي مسعود ، مجدى داود، أشرف إبراهيم حجاج، الناصر الرقيق، د- هاني ابوالفتوح، حاتم الصولي، د- جابر قميحة، وائل بنجدو، د - مصطفى فهمي، عمار غيلوفي، جاسم الرصيف، محمد أحمد عزوز، صلاح الحريري، علي عبد العال، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د. ضرغام عبد الله الدباغ، محمود فاروق سيد شعبان، يحيي البوليني، صفاء العربي، محمد شمام ، عزيز العرباوي، محمد الياسين، فتحي العابد، د- محمود علي عريقات، رضا الدبّابي، رمضان حينوني، كريم السليتي، د. أحمد بشير، عواطف منصور، أحمد النعيمي، ياسين أحمد، د. صلاح عودة الله ، الهيثم زعفان، محمد عمر غرس الله، د - المنجي الكعبي، صالح النعامي ، الهادي المثلوثي،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة