عثمان الكعاك رائد التواصل الفكري بين تونس والجزائر في العصر الحديث
أ.د مولود عويمر - الجزائر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5418
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لقد كانت حياة العلامة عثمان الكعاك (1903-1976) عامرة بالإنجازات في ميدان التاريخ والأدب والفنون والرحلة والإعلام والتوثيق لا يتسع لدراستها مجال هذا المقال، لذلك سأقتصر على ما له صلة بالجزائر. وقد أردت أن أسجل من خلاله وقفة عرفان بمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين لوفاته تقديرا لجهوده في خدمة الثقافة الجزائرية، وتذكيرا بصفحات مشرقة من الصلات الثقافية بين الجزائر وتونس، ودعوة لبناء جسور التواصل بين نخبتي البلدين لمواجهة التحديات الكبرى التي تواجهنا بشراسة في واقعنا الراهن وفي المستقبل.
مسار في سطور
ولد عثمان الكعاك ببرج البكوش (تونس) يوم 15 أكتوبر 1903. تلقى تعليمه الابتدائي بكتاب سيدي الشريف وأتم دراسته الثانوية في مدرسة الصادقية. ثم انتقل إلى فرنسا لمواصلة تحصيله العلمي فدرس الأدب واللغة بجامعة السوربون بباريس.
عاد الأستاذ عثمان الكعاك إلى تونس في عام 1927 وانضم إلى هيئة التدريس بالمدرسة الخلدونية ليدرّس تاريخ المغرب الإسلامي. وكان يغوص في أغوار الماضي يستنطق أبطاله وأحجاره بلا عناء وقد ساعدته حافظته القوية في سرد الأحداث بتفاصيل دقيقة وتحليلها بلغة جميلة. فلنترك أحد تلامذته الجزائريين يصف لنا ذاكرته العجيبة، فقال: ‘لقد كنت أتمنى وأنا أحضر بعض دروسه التاريخية بالخلدونية بتونس أن تكون لي مثل حافظته ولكني أدركت بعد حين أنها في سموها وقوتها وسعتها تغتبط ولا تنال.’
تأسست الإذاعة العربية التونسية في عام 1938 فأسندت إدارتها إلى الأستاذ عثمان الكعّاك، فاستقدم نخبة من المثقفين التونسيين أمثال الهادي العبيدي ومحمود بورقيبة وجلال الدين النقاش وغيرهم لتقديم برامج ثقافية وأدبية وتاريخية هادفة. ثم عين في عام 1944 مديرا لقسم الشرقي لمكتبة العطارين ثم أصبح محافظا عاما لدار الكتب الوطنية بين 1956 و1967.
ألف الأستاذ الكعاك العديد من الكتب أذكر منها: تاريخ الجزائر العام، بلاغة العرب في الجزائر، المجتمع التونسي على عهد الأغالبة، الحضارة العربية في حوض البحر الأبيض المتوسط، جغرافية تونس... كما نشر مقالات ودراسات كثيرة في الصحف والمجلات التونسية والعربية.
وكان الكعاك يتقن عدة لغات أوروبية فوظّفها في إنجاز دراساته الأدبية وإعداد بحوثه التاريخية من خلال الاطلاع على الوثائق والمصادر في صورها الأصلية. كما ترجم العديد من النصوص الأدبية العالمية أذكر منها تعريبه لدراسات المستشرق الروسي إيجناتي كراتشكوفسكي حول المسرح العربي ونشرها بعد ذلك في مجلة ‘الثريا’ التونسية.
هموم مؤرخ مغاربي ينشد الوحدة
لقد كرّس الأستاذ الكعاك جهده للبحث في تراث المغرب العربي من فجر التاريخ إلى القرن العشرين كتابة وتدريسا. فهو ينظر إلى تاريخ شمال إفريقيا كوحدات موضوعية متناسقة ومترابطة بنظرة شمولية بعيدا عن النزعة الذرية التي ظهرت فيما بعد ولا تخدم آمال جيله من المثقفين والسياسيين القوميين في تحقيق وحدة المغرب العربي رغم كل المعوّقات التي كان الاستعمار الفرنسي يجتهد في تكريسها ويحرص على تعميقها، أو الخلافات السياسية التي نشبت بين دول المغرب العربي بعد حصولها على الاستقلال.
إنه كان في «ذهنه العالم المؤرخ يربط هذا المغرب في عصوره التاريخية بما لم تستطيع السياسة أن تبرره من مظاهر الربط وضروراته. ولذلك فهو حينما يكتب عن جانب من جوانب التاريخ لا ينفك بين يديه تاريخ تونس عن تاريخ الجزائر أو ليبيا أو المغرب، بل إن هذا الجانب ليرتبط ارتباطا وثيقا بالأندلس وبصقلية وبالسودان وكلها كانت الإمبراطورية الموحديّة».
وأحب أن أشير هنا إلى أن الأستاذ الكعاك كان رغم موسوعيته وشهرته العلمية وإقبال الباحثين والطلبة على مجالسه متواضعا ومعترفا بضعفه البشري فكثيرا ما كان يختم مقالاته أو بحوثه بالآية الكريمة: «وفوق كل ذي علم عليم».
لقد بدأ الكعاك مشواره كمؤرخ بكتابة تاريخ الجزائر عبر العصور، ثم نشر بعد ذلك كتبا عديدة ودراسات كثيرة حول تاريخ تونس وكذلك تاريخ المغرب.
عثمان الكعاك وتاريخ الجزائر
لقد أصدر الكعاك في عام 1926 كتابه: ‘موجز التاريخ العام للجزائر’ بأسلوب علمي يكشف من خلاله إسهامات الجزائريين في الحضارة الإنسانية، ويفنّد المغالطات التاريخية التي تروّج لها المدرسة التاريخية الاستعمارية.
في ذلك يقول: «وقصدنا من تأليفه إثبات الشخصية الجزائرية الممتازة، الشخصية الجزائرية السياسية والحضرية والثقافية والفنية، ويقيننا أن قارئ هذا الكتاب ينتهي منه وقد استقر في نفسه الإيمان بوجود الشخصية الجزائرية كدولة وكحكومة وكشعب وكأمة وكثقافة وكأدب وكفن. كتبناه يوم كان الكثيرون يعتقدون أن الجزائر مصطنع سياسي و’خلق فرنسي’».
كان الكعاك يدرك جيدا أن الصراع انتقل من ميدان الحرب العسكري إلى الميدان الثقافي والحضاري، فغدا القلم والكتاب يزاحمان البندقية والمدفع، فإذا كان رصاص الاستعمار يقتل الجسد فإن حبره يقتل الروح. لذلك نبّه الأستاذ الكعاك إلى خطورة تفريغ الإنسان الجزائري من مقوّماته الحضارية العربية الإسلامية، فقال في نبرة خطابية ناصحا أمينا: « يجب أن ترن كلمات الجزائر والحضارة الجزائرية والأدب الجزائري وإرادة الأمة الجزائرية في أذن الجزائري الصغير والكهل والكبير، الرجل والمرأة على السواء، كما ترن تلك الموضوعات في أذن كل أوروبي يحب أمته، ويجب أن تفعل فيه مفعولها في الغربي، ذلك المفعول الذي كون حضارة الغرب وإرادة الغرب».
لكن كيف يحقق الإنسان الجزائري خطوات كبيرة في طريق القومية الوطنية؟ إن التاريخ هو السبيل الوحيد إلى تحقيق ذلك باعتباره « ذكر الماضي الجميل يبعث الروح، ويحي الأمل، ويكون الحماس، ويستبين حد العزيمة، ويرسم المثال المقتدى به، ويسن الشريعة القومية التي تسير الأمة على مقتضاها».
استمر الأستاذ الكعاك في الكتابة في تاريخ الفكر الجزائري في الصحافة التونسية والجزائرية يكشف عن كنوزه ودرره الثمينة ويعرف بأبطالها الخالدين. وكانت كل هذه الجهود ترمي إلى استلهام العبر وبعث الهمة ورفع العزيمة وزرع الأمل وبناء هوية راسخة الجذور وعالية الفروع.
تواصله مع النخبة الجزائرية
تواصل الكعاك باستمرار مع النخبة الجزائرية المقيمة بالجزائر وكذلك الطلبة الجزائريين الذين كانوا يدرسون التاريخ عنده بالمدرسة الخلدونية. وساند دائما النضال الوطني الجزائري كما ناصر الثورة الجزائرية وتعاطف معها، وليس أدل على صحة ذلك ما كتبه من مقالات في الصحافة التونسية مدعما الخيار الثوري كسبيل لتحرير البلاد والعباد من الاستعمار.
كذلك بقي على الاتصال بالنخبة الجزائرية بعد استعادة الاستقلال، من خلال مشاركاته في الملتقيات التاريخية والندوات الفكرية عبر التراب الجزائري، فدأب منذ عام 1972 على حضور أشغال الملتقيات للفكر الإسلامي التي كانت تنظمها سنويا وزارة الشؤون الدينية الجزائرية. وكان لحضوره أثر كبير سواء بمحاضراته القيمة في قاعة المؤتمرات أو خارجها، وبتعقيباته الثرية خاصة في مجال تاريخ المغرب الإسلامي والأندلس الذي هو من أكبر المختصين فيه. كما كان يساهم في المجلة الثقافية الجزائرية ‘الأصالة’ بمقالاته الأدبية والدينية وبحوثه التاريخية.
ومن المفيد أن أكشف هنا صورة الأستاذ الكعاك في عيون النخبة الجزائرية خاصة العلماء والأدباء الذين عاصروه وعرفوه عن قرب في تونس أو الجزائر لتكتمل رؤيتنا عن المكانة العالية التي كان يحتلها هذا العالم التونسي الكبير في قلوب أصدقائه وتلامذته الجزائريين. وسأقتصر هنا على ذكر ثلاثة أمثلة، وهي: مولود قاسم، أحمد حماني ومحمد الصالح الصديق.
كان مولود قاسم يعتبر عثمان الكعاك عالما تجاوزت شهرته ومكانته تونس والمغرب العربي إذ هو يمثل في نظره «علما من أعلام الفكر، من أعلام الحضارة، من أعلام الإنسانية في مجموعها» . وكان أيضا معجبا بهمته العلمية وتواضعه مع الطلبة الذين يتزاحمون على مجالسه للاستماع من درره الثمينة، أو الاستفسار عن مواضيع تاريخية وأدبية كثيرة.
كما أشاد الشيخ أحمد حماني بخصال الأستاذ الكعاك الذي سخر حياته لأداء رسالته التربوية والعلمية، وتفانى في خدمة مصالح أمته لكي ترتقي إلى مرتبة الدول المتقدمة: «لقد كان عثمان الكعاك إلى آخر لحظة من حياته يمتلئ حيوية ونشاطا، يعمل لإحياء أمته وعزة دينه وإرضاء ربه وفاء بما أخذ الله على العلماء من الميثاق أن يبينوا للناس ولا يكتموا. وما كان يعيش لأسرته وشعبه فحسب، ولكنه كان يعيش لأمته».
وهذا الكلام يدعمه تلميذه محمد الصالح الصديق الذي اعتبر أستاذه الكعاك من أبرز الأقلام المبدعة في مجال التاريخ والأدب متبع لمنهج علمي رصين، وهو شخصية لامعة تحملت الصعاب من أجل ترسيخ القيم السامية ونشرها بين الناس: «ومن عرف الأستاذ الكعاك في دراساته التاريخية وأبحاثه وتراثه وتعمقه وتحليلاته وتعليلاته وجد خيطا يربط بينه وبين فحول العلماء العباقرة الذين تدين لهم الإنسانية في حضارتها ورقيها بالفضل الكبير».
هذه هي باختصار بعض الشهادات للعلماء والكتاب الجزائريين الذين اعترفوا بجهوده العلمية والفكرية، ونوّهوا بنضاله بقلمه ولسانه دفاعا عن القضايا الكبرى التي تمس أمته في تراثها وحاضرها ومصيرها.
وفاته في عنابة (الجزائر)
لقد شاء الله أن يرحل الكعاك عن هذا العالم من مدينة عنابة التي استضافته في إطار الملتقى العاشر للفكر الإسلامي ليقدم محاضرة حول: ‘ الأبعاد الروحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للعبادات وأهميتها لكل من الأمة والفرد.’ لكنه لم يلقها لأن المنية وافته في غرفته بالفندق يوم 16 جويلية 1976.
ونزل خبر وفاته كالصاعقة على المؤتمرين الذين كانوا ينتظرون قدومه بفارغ الصبر إلى قاعة المؤتمرات ليقدم محاضرته المبرمجة في تلك الصبيحة. وقد اعتبر الحاضرون وفاته خسارة للأمة الإسلامية والإنسانية عامة.
وأقيم له حفل تأبين تحدث فيه مولود قاسم وزير الشؤون الدينية، والدكتور المنجي الكعبي أستاذ بالجامعة التونسية والدكتور محمد المبارك أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، والدكتور صلاح الصاوي أستاذ بجامعة طهران، وغيرهم.
ورافق الشيخ أحمد حماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ونائبه الشيخ علي شنتير جثمان الفقيد في طائرة جزائرية خاصة إلى تونس، وشاركا في دفنه وتأبينه في مقبرة الجلاز يوم 17 جويلية 1976.
هكذا شاءت إرادة العزيز القدير أن يلج الأستاذ عثمان الكعاك في عالم التأليف من باب الجزائر بكتابه الأول: ‘موجز التاريخ العام للجزائر’، ويختم مساره الفكري ويعرج إلى عالم الخلود العلمي من الجزائر بمحاضرته الأخيرة التي أعدها حول ‘الأبعاد الروحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للعبادات وأهميتها لكل من الأمة والفرد.’ إن لله في خلقه شؤون
-----------------------
أ.د مولود عويمر
* أستاذ بجامعة الجزائر 2
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: