على هامش التصريحات الأخيرة لـ "سماحة المفتي" محمد الطالبي: ارحموا شيخوخة الرجل
محمد المختار القلالي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4361 kallalimokhtar@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أثارت التّصريحات الأخيرة التي أَدلى بها الدكتور محمد الطالبي لعدد من المنابر الإعلامية عاصفة من الغضب لدى الرّأي العام،من خلال قلّة قليلة أدرجت هذه التّصريحات ضمن الحقّ في حريّة التّفكير والتّعبير .
ما يمكن أن يؤخذ على الأستاذ الطالبي في نظري:
• كونه ، وهو المؤرّخ ورجل الفكر، نجده يزجّ بنفسه في شأنٍ هو في غنًى عن التّعرض لمزالقه ومطبّاته. و أعني به’ميدان الإفتاء’.والغريب في الأمر أنّه ، في الوقت الذي ينفي فيه الأستاذ الكبير عن نفسه صفة’المفتي’ أو ‘العالم بالدّين ‘ (الفقيه)، نجده يصرّ، في المقابل، على أحكامٍ هي من صميم الإفتاء،وشأن المفتين. وإلاّ ماذا يُعدّ القول بأنّ الإسلام لا يحرّم شرب الخمر، ولا يمنع من تعاطي البغاء، إن لم يندرج هذا في باب الإفتاء، شاء الأستاذ أم أبى؟
• تعاليه المشطّ على محاوريه ، ما يضطرّنا لسؤاله كارهين : ‘ أين أنت من تواضع العلماء يا سيدنا ؟’بادرت تسأل كلّ من رغب في محاورتك عن عدد ما ألّف من كتب ، والحال أنّ محاوريك إنّما أرادوا بالأساس أن يسألوك ويسمعوا لك . فهل لا يحقّ، في عُرفك ، أن يسأل السّائل إلاّ متى ما كان ممّن ألّف التّآليف ؟ سقراط ، و ما أدراك ما الرّجل ، مات دون أن يخلّف مخطوطا واحدا ،وكلّ ما وصلنا من فلسفته جاءنا من خلال ما نقله عنه تلميذه أفلاطون . إلى ذلك تشير سيرة ‘ الفيلسوف ‘ إلى أنّه كان يجلس إلى تلاميذه من الشّباب ، يرشدهم إلى أساليب البحث في ‘ الحكمة ‘ و ‘الماهيات ‘ في أدب جمٍّ ، ودون أن يدّعي لنفسه الاستفراد بامتلاك الحقيقة . أليس هو القائل : ‘ لا أعرف سوى شيء واحد هو أنّني لا أعرف شيئا ‘؟
• شدّة تهجّمه على مخالفيه في الرّأي، يرميهم جزافا بالجهل، و هم عندنا من المشهود لهم برسوخ القدم في العلم، منْ مثل سماحة الشيخ محمد المختار السلامي والمفكر المستنير عبد المجيد الشرفي .
• اعتماده ‘حديث الخُمْرة’ دليلا على أنّ النّبي عليه السلام كان يشرب الخمر. و هو تأويلٌ لا يستقيم بحال، وليّ فاضحٌ لعنق الحقيقة، إذ هل كانت عائشة لتتحرّج لو أنّ الأمر كان يتعلّق فعلاً بمُسْكر، فتتحجّج بحال الحيض التي هي عليها؟ لقد تردّدت في الإجابة لطلب بعلها تهيباً من دخول المصلّى والمسك بحصيرة الصّلاة وهي على غير طهر.
• وقوعه في التّناقض لمّا يتحجّج بحادثةٍ ورد ذكرها بالتّراث، وهو الذي لا يعترف، من سوى القرآن، بالتّراث أصلاً، وفق ‘عقيدته ‘، كـ’مسلم قرآني ‘!
ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ
القرن بعد القرن يمضي، ونحن لم نزل نجعل من ‘ثنائيّة الحلال والحرام ‘ إحدى معاركنا رغم الجهود المضنية والمهمّة التي بذلتها ‘حركة الإصلاح العربيّة’منذ انطلاقها، و التي دعت إلى فكّ آرتباطنا مع ‘ طاحونة الشّيء المعتاد ‘ ، ساهمت فيها ، كما المعروف، أسماء كبيرة كثيرة، ومع ذلك آستمرّت المعركة قائمةً لم تُحسم بعد بين ‘الدّاعين إلى التّحديث’ و ‘اللاّئذين بالقديم البالي’، لا يريمونه. يتلمّسون العثور على حلول لحاضرهم في ماض مضى. بل البادي أنّ هذه الحركة التي سعت إلى أن تعيد للعقل سلطانه تراجعت القهقرى أمام زحف الخطاب النّقيض ، ما يجعل المسؤولية تزداد ثقلاً على عاتق مفكّرينا من أمثال أستاذنا الطالبي لو هو وقف عند الاشتغال على ‘الأفكار’ خصوصاً ما تعلّق منها بما يعترض سبيل الأمّة من تحديّاتٍ يهدّد وجودها، بدل الخوض في ثنائيّة الحلال والحرام بترتيب مثير، لا يخلو من ‘الشّبهة’، بعث في النّفس أشجانها، و بعث فيها بالأخصّ الشّعور بالشّفقة على الرّجل حين يُتّخذُ منه ‘هزأةً ‘، ومن خلاله من العلم والعلماء في هذه البلاد. وهو ما آلمني شخصّياً كأشدّ ما يكون الإيلام حتّى أنّني وددت لو لم تقع عيناي على أستاذ بحجمه على تلك الحال من التّوتر و التّخبّط والارتباك .
إلى ذلك و بالمناسبة ، ألا يقتضي الإنصاف الاعتراف للرّجل بجرأته في الوقت الذي ابتلعنا فيه جميعا ألسنتنا إلّا ما ندر . روى لي من أثق به ( المهاجر الصّديق محمد الجُمّني ) وقد كان شهد ندوةً نظّمها البرلمان الأروبي سنة 2004 بمدينة ‘ستراسبورغ ‘الفرنسية حول ‘الإسلام والآخر ‘ ، قال : ‘ لمّا أتى الدّور على الدكتور الطالبي لإلقاء مداخلته بدأها بالقول : آتيكم من بلد يحكمه دكتاتور سفّاح.
(Je viens d’un pays dirigé par un dictateur sanguinaire)
ما أحرج المتعهّد بإدارة الحوار، فبادر إلى مقاطعته قائلاً : هذا القول لا يلزم إلاّ صاحبه، فما كان من الدكتور الطالبي إلاّ أن ردّ عليه بالقول : من فضلك، لا تقاطعني، وهل ثَمَّ ما يمنع أن أقول هذا في مؤسّسة تُعلي من شأن الحريّة والدّيمقراطية، والحال أنّني صرّحت بهذه العبارة نفسها بمركزيّة اتّحاد الشّغل في تونس ؟’ ( بدون تعليق ).
مفكّرونا تيجان على رؤوسنا...و الأستاذ الطالبي سيظلّ مهما اختلفنا معه في الرّأي، محلّ احترامنا وتبجيلنا، تقديراً لعلمه،ومراعاة لسنّه، أمدّ الله في أنفاسه،و في البال أيضا ما يمكن أن يفعله بـ’ذي السّنّ’( مرّاللّيالي واختلاف الأعصر) *.
*لمن مازالوا على حبّهم للقريض: هذا عجز لبيت من قصيدةٍ للشّاعر أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، يشكو فيها تقدّمه في السّنّ وتداعياته السلبيّة على الصّحّة البدنيّة والعقليّة جميعا، ومنها قوله:
قالت عُميْرةُ ما لرأسك بعدما ** نــفِدَ الشّباب أتى بلون منكر؟
أَعُمَيْرُ إنّ أباك شيّب رأســـه ** مرّ اللّيالي واختلاف الأعصر
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: