"ريوبال" و الحركة، ليس هناك تجريد و لا تجسيد، هناك فقط التّعبير
عاطف عبد الستّار - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5612 atefabdesatar@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إنّ الجمع بين الرّسم الخطّي و اللّون في عمل واحد و على نفس المحمل، يجعل من البحث يستدعي قضيّة أساسيّة في تاريخ الفنّ ألا و هي جوهريّة الرّسم الخطّي و عرضيّة اللّون، هذه النّظرة الّتي رافقت الفنّ التّشكيلي منذ القدم، فالخطّ هو العنصر التّشكيلي الّذي به نستطيع أن نكتب و نرسم و نشطب...فهو عنصر قائم بذاته، و هو أساس كلّ تركيبة، يقول ليوناردي فانشي " إذا احتقرت الرّسم و هو الباعث الوحيد للأعمال الظّاهرة للطّبيعة فكأنّك تحتقر ابتكارا بارعا.."(1). و يُعدّ الرّسم فنّا و تقنية ضاربة في القدم نشأت مع الإنسان، و بها تمكّن من التّعبير عمّا يختلج صدره أو يدور في عقله من هواجس و أفكار و أحاسيس و أن يصف بها الأشياء كما يراها أو يتصوّرها، و إنّ مخلّفات الأمم و موروث الأول لهو الحلقة الذهبيّة الّتي تربط عظمة الماضي بمجد الحاضر، وعلى هذا يمكننا القول بأنّ الرّسم كان لغة الأمم البدائيّة قبل معرفة الحرف جميعها، كما أنّه غريزة قديمة في الإنسان تندرج معه في الكمال تبعا لنهضته و رقّته، و شتّان بين رسم الإنسان القديم الّذي خطّه على العظام و الحجارة و ورق البردي، و بين الرّسم الحديث بالأقلام و الفرشاة و الباستيل..
غير أنّ هذه الثّوابت قد تراجعت منذ القرن الثّامن عشر تدريجيّا، فظهرت اللّطخة (tache) والتّلصيق(collage) و الحكّ (empreinte)و البصمة (frottement) ...و عرف الخطّ أشكالا جديدة، و لم يعد أساس قيام العمل الفنّي و تكوّنه، بل شهد تدعّم قيمة عديد العناصر التّشكيليّة الأخرى مثل اللّون يقول هنري ماتيس " على الرّسم الخطّي و القيم الضّوئيّة و التّكوين، أن تتداخل دون أن يغلب الواحد الآخر"(2).
و من هذا المنطلق جاءت أعمال الفنّان الكندي جون بول ريوبال ( Jean-Paul Riopelle1923-2002) تجاوزا لهذا التّناقض بين الخطّ و اللّون، حتّى أدّى تظافرهما إلى تشكيل و تكوين فضاء خال من كلّ رتابة كلاسيكيّة، فضاء ذو خصوصيّة تشكيليّة معاصرة (صورة رقم 1/2)،(3)
فالخطّ في أعماله مستقيم و مائل و عمودي و منكسر ومتقطّع و منقطع و سميك...و لئن اختلفت هذه الخطوط في لا نظامها و تعدّد اتّجاهتها، متراكمة، متقابلة، متجاورة، متداخلة و متشابكة... و لئن غابت أحيانا لتترك مجالا للكتلة أو اللّطخة، فإنّ العين تظلّ بين بداياتها تجول باحثة عن نهاياتها، فتجوب كلّ الفضاء دون أن تجني من ترحالها غير الدّيناميكيّة و السّرعة في تتبّع مسار الخطّ، السّرعة الّتي يرى جيل ديلوز أنّها "تحول النّقطة إلى خطّ تتتالى النّقاط، تتتابع، تتلاصق لتلامس كيان الفضاء ". فالخطّ بانكساره يكوّن زوايا، و بالزّوايا يكوّن أشكالا، و بالأشكال يُكوّن مساحات، فهو إن تأمّلنا أعماله، بطبيعته و مكانته و اتّجاهه و سمكه يحمل قيما تعبيريّة، فالخطّ المنحني " هو خطّ اللّطافة و خطّ الجمال و هو خطّ الحركة الّتي تبرز بلا جهد و لا تكلّف"، و أمّا الخطّ الهندسي فهو " كائن لا مرئي، هو أثر لنقطة في حالة متحرّكة، و لد من حركة"(4).
ففي هذه الأعمال تأسّس بناء اللّوحة تشكيليّا على تنشيط حركات التّراكم و التشعّب الّتي تخضع لمنطق اللّانظام، فتمّ تجاوز الحركة المنظّمة و البطيئة و المسيّرة، نحو الحركة السّريعة، المستقلّة و اللّامحدودة "خطّ يلتقي خطّ...خطّ يتفادى خطّ ...مغامرة خطوط..خطّ يستيقظ...خطّ سوف يجري...خطّ غنائي يقطع عشرين خطّا...خطّ يثور و ألف خطّ من حوله..."(5).
هذه الرّحلة الّتي يقوم بها الخطّ مكّنته من إعادة التّشكيل من جديد، تتكوّن الأشكال تتّصل فتتواصل مع بعضها البعض لتكون نسيجا فنيّا، خطوط سميكة و متراكمة تكوّن مساحات قاتمة وكثيفة و أخرى دقيقة و رقيقة و منحنية في جوّ عفوي نوعا ما، غنائي حالم، حتّى أنّ البعض منها يتلاشى فيكاد يكون منعدما وسط هذا الفراغ الّذي لم يعد مجرّد متقبّل للخطوط و الحركات فحسب، و إنّما أصبح مكوّنا لأشكال و مساحات تساهم بقدر كبير في تحقيق التّوازن، لذلك تبدو التّركيبة و للوهلة الأولى و كأنّها متاهة توحي بالضّياع، و لكنّها في حقيقة الأمر تستفزّ المتفرّج و تجعله يتقرّب منها أكثر ليغوص فيها محاولا اعتناق مختلف أبعادها، فهي إذا مغامرة تتجاوزه لتشمل المشاهد أو المتفرّج و هذا تقريبا ما أشار إليه الدّكتور محمّد أمهز عندما اعتبر أنّ "فوضى الإشارات، و تفكّك الأطر، و تفجّر الضّوء، يدفع المشاهد إلى أن يُقيم هو نفسه شبكة علاقات"(6).
كما يستعمل ريوبال Riopelle أيضا بكثرة الألوان النّقيبة و البصمات و اللّطخات المتتالية و المتراكمة إلى جانب التّوظيف المكثّف للمادّة كعنصر أساسي مؤسّس للفضاء، فكميّة المادّة المنتشرة على المحمل أنتجت كمّا هائلا من الخطوط المتشعّبة و اللّطخات المتتالية و التّباينات الضّوئيّة منها و اللّونيّة لتوهمنا بعمق اللّوحة و بالبعد الثّالث أساسا، وهذا ما يُذكرنا ربّما بأعمال جاكسون بولّوك على مستوى فلسفة بناء الفضاء "لم يبق لي من المواضيع غير الخطّ و اللّون"(7).
فكلّ منهما يسعى إلى جعل العين تتحسّس و تدرك وسط هذا التّداخل و التّشابك بين الخطوط و الإنقطاع والتّقاطع و الّذي يفرض في الآن ذاته ضربا من التّواصل، و يجعل من الفضاء التّشكيلي أشبه بمتاهة يتعيّن على العين تتبّع مسارها، فليس عناك بداية و لا نهاية خصوصا و أنّنا لسنا أمام مشهد طبيعيّ أو تركيبة هرميّة أو مركزيّة وسط اللّطخات المتتالية للألوان الّتي تبعث جميعها نوعا من الذّبذبة و التداخل الحركي صرنا نم خلالهما أحيانا عاجزين عن الفصل بين أماميّة العمل و خلفيّته، نحن إزاء عمليّة هدم و إعادة بناء خصوصا و أنّ الفنّان يدعو صراحة إلى القطع مع النّموذج الكلاسيكي حتّى يتسنّى لنا التحرّر و الإبداع "ما يهمّنا ليس القيام بلوحة جميلة، ولكن تطوير شيء ما، طوّر، هدم كلّ ما تعلّمناه، اللّوحة الحقيقة عندما تكون هي البداية ".(8)
و للبصمة هنا دور فعّال كتقنية مؤسّسة للفضاء التّشكيلي، و ذلك من خلال الدّمج بين روح الفكرة و نجاعة التّقنية عن طريق حركات سريعة خاطفة أحيانا و هادئة متّزنة أحيانا أخرى، فتولّد عن ذلك أشكال و مساحات و لطخات و آثار وأحجام و تدرّجات لونيّة و ضوئيّة لا تخضع لأيّ منطق معيّن، فالبصمة "اختلاف أساسي في كنف التّشابه"،(9) فتتتالى البصمات و تتعانق و تتفارق لتحدث نوعا من الإيقاع البصري، و تتكامل جميع العناصر التّشكيليّة وتتظافر و تتفاعل فيما بينها لتمنح للفنّان الكندي إمكانات لا متناهية تخوّل له القطع مع الماضي و تفتح له مجالا للإستمراريّة و البحث و الممارسة لتجاوز التّجسيد و التّجريد في آن نحو التّعبير "ليس هناك تجريد و لا تجسيد، هناك فقط التّعبير"(10).
----------
السّيرة الذاتيّة
- الإسم و اللّقب : عاطف عبد الستّار.
- تاريخ و مكان الولادة : 09 أوت 1985 بمنزل تميم، نابل.
- العنوان : نهج كركوان دار شعبان الفهري، نابل 8011.
- الهاتف : 53111439.
- البريد اإلكتروني : atefabdesatar@gmail.com
• الشّهائد العلميّة :
- شهادة الباكالوريا (آداب) 2006.
- شهادة الأستاذيّة في الفنون الجميلة اختصاص فنون تشكيليّة 2010.
- شهادة الماجيستير في علوم و تقنيّات الفنون اختصاص فنون تشكيليّة 2012.
- مسجّل بالدّكتوراه بكليّة العلوم الإنسانيّة و الإجتماعيّة بتونس أختصاص تراث إسلامي.
----------------------
الإحالات
(1) ـ سامي بن عامر، الفنون الجميلة الإصطلاح و موقعه من الفكر الحديث، مركز النّشر الجامعي 2001، ص 30.
(2) ـ سامي بن عامر، الفنون الجميلة الإصطلاح و موقعه من الفكر الحديث، نفس المرجع، ص 30.
(3) ـ Gilles Deleuze – Felix Guatari (La vitesse transforme le point en ligne).
(4) ـ Henri Michaux, peinture, Gallimard, Paris 1933, p 85.
(5) ـ Henri Michaux, peinture, Gallimard, Paris 1933, p 85.
(6) ، محمّد أمهز، التيّارات الفنيّة المعاصرة، شركة المطبوعات للتّوزيع و النّشر، ص 3.
(7) ـ نور الدّين الهاني، المفردة في الفنون التّشكيايّة، مركز الفنّ الحيّ لمدينة تونس، البلفيدير 1988، ص 55.
(8) ـ « ce qui compte ce n’est pas de faire un beau tableau, mais de progresser quelque chose.Progresser, c’est détruire ce qu’on croyait acquis, le vrai tableau, c’est celui qui est un commencement ».
(9) ـ « L’empreinte établit une différence fondamentale au sein de la rassemblance… »Marie, Christine Loire, L’empreinte au XX siécle, de la Véronique au verre Ironique, Editions L’Harmattan,1997, p 25.
(10) ـ « Il n’ya pas abstraction ni figuration, il n’ya que de lexpression… ».
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: