الرد على المغالطات: انتدابات الداخلية، رفض الدستور وغيرهما
فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8981
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أواصل الرد على سيل المغالطات التي تغلف مواقف عموم أطراف الثورة المضادة، وسأبين بعد ذلك أن الذي فاقم من تأثير هذه المغالطات أنها قوبلت بمواقف تفترض إبتداء صحة منطلقها، ثم تمضي للدفاع ودفع التهم، والحال أن الأصل في الأمور هو النظر في الافتراض المبني عليه المغالطة أساسا وبعدها يقرر هل يستحق الكلام نقاش محتواه ومنه الدفاع ضد التهم، أم رميه كله لعدم وجود قيمة له أصلا.
سآخذ بعض عينات من المسائل المثارة أخيرا، وسأبين كيف أنها مبنية على مغالطات منطقية، وكيف كان يفترض ردها من الأول.
إنتدابات وزارة الداخلية
قامت وزارة الداخلية بمناظرة لانتداب أعوان، وكان الجزء الكتابي للامتحان يحتوي على حوالي 60 سؤالا منها سبعة أسئلة تتمحور حول أمور دينية، وتحركت آلة الثورة المضادة ذات الخلفية العلمانية اليسارية رافضة لهذا التوجه الذي يقحم أمور الدين ضمن أسئلة الثقافة العامة التي يفترض أن يلم بها عون أمن في بلد مسلم. وتنادى المنخرطون في الثورة المضادة كل في مجاله وأسرفوا في الضجيج وكان أن أثمر سعيهم وتراجعت وزارة الداخلية وألغت ذلك الامتحان وأمرت بإعادته مما يعني انتصار خيار دعاة التبعية الفكرية الذين يصرون على تأبيد خيار استبعاد الإسلام من أن يكون محل اهتمام الناس.
أنطلق موقف رافضي الامتحان دعاة التبعية الثقافية من افتراض أن الأصل في الأمور هو إن تكون مسائل الإسلام مستبعدة من أن تمثل أي شان يستحق أن يفرد بأسئلة ثقافة عامة، وهذا موقف ينطلق من تصور معين للدين ودوره في الحياة، وهو بالتحديد موقف العلمانيين المتأثرين بالتجربة الفرنسية في صراعها التاريخي مع الكنيسة، وقد كان هذا الموقف المعادي للإسلام هو الرسمي في تونس زمن سيئ الذكر ومن بعده بن علي حينما تحالف مع جماعات اليسار، فنحن إذن إزاء موقف جماعة تريد إسقاط تجربة تاريخية فرنسية علينا نحن في تونس، وتصر مع ذلك على فرضها على التونسيين بعد الثورة.
الرد المفترض على العلمانيين حينما رفضوا المناظرة تلك، كان يجب أن يتجه لنقاشهم في صحة افتراضهم إبتداء ومن ثمّ حشرهم في الزاوية من خلال إبراز رفضهم للإسلام وإنهم دعاة تبعية ثقافية. ولما كان موقفهم هو انطلاق من أمر محل خلاف أي افتراض إن الأصل هو استبعاد الإسلام من الشأن العام فإنهم مغالطون، ومغالطتهم تكمن في أن موقفهم هو مصادرة على المطلوب، وكل مصادرة على المطلوب فاسدة لا معنى لما يترتب عنها.
أما موقف وزارة الداخلية فهو افتراض صحة رأي المعترضين، وهو الموقف الذي لن يؤدي إلا لحالة الدفاع ويعطي الثورة المضادة مزيدا من المكاسب مجانيا، ونرى إذن أن الضعف الذي يميز موقف من يواجه الثورة المضادة يجعل هؤلاء يسجلون النقاط ويمضون للهجوم عوض أن يكونوا هم من يتبنى موقف الدفاع.
رفض التنصيص على الإسلام في الدستور
جماعات الثورة المضادة ذوو الخلفية اليسارية المنبتة عن ثقافة التونسيين بما يملكونه من سطوة إعلامية تنادوا المدة الأخيرة للنفير رافضين لمشروع الدستور زاعمين انه خطير لما فيه من إشارة على استحياء للإسلام، فهؤلاء رغم ما حققوه من انتصارات حينما مضت الأمور عموما كما يريدون، فإنهم لم يطمئنوا بعد ولعلهم لن يطمئنوا إلا حينما تنتفي أي إشارة للدين، إنها العزة بالإثم حينما تقابل بالمواقف المنسحبة للمنكسرين نفسيا أبدا، فإنها تنتج ما نراه من تغوّل دعاة التبعية.
لما أغلق جماعة الثورة المضادة الأفق بمطالبهم التي تريد استبعاد الإسلام من أن يذكر في الدستور حد تعقبهم أي لفظ يشير لذلك، كان من اثر ذلك أن انبرت الجماعة المقابلة لرد ما تعتبره تهما، وعملت على التدليل أن الإسلام لن يكون مؤثرا في الدستور الجديد وأنهم إنما صمموا دستورا موافقا للمعاهدات والمواثيق الدولية، بمعنى أن الطرف الأول افلح في هجومه بحيث اضطر الطرف الثاني للدفاع ورد ما اعتبره تهما، وهذا انتصار ما بعده انتصار للثورة المضادة ولدعاة التبعية.
كان يفترض أن يقع رد المسالة لأصلها وهي النظر في الافتراض الذي انطلق منه جماعة الثورة المضادة وتبيان أن مواقفهم المطالبة باستبعاد الإسلام من أن يكون مؤثرا في الدستور موقف غريب ومن ثمّ العمل على حشرهم في الزاوية بإبراز أنهم مجرد أدوات تبعية، ومن ثمّ إلجائهم لموقف الدفاع وتقزيمهم في أعين الناس، لكن الذي حصل هو أن الطرف المقابل انطلق من افتراض صحة موقف دعاة التبعية وشيّد على ذلك مواقف دفاعية.
المغالطة التي انبتت عليها مواقف جماعة الثورة المضادة تكمن في أن افتراضهم المستبعد للإسلام هو موقف محل خلاف بل هو موقف جماعة ضئيلة بتونس، واعتماده كمنطلق هو مصادرة على المطلوب، وكل مصادرة على المطلوب لا معنى لما ينجر عنها، ونرى مرة أخرى كيف أن الضعف النفسي والمنهجي لمن يقودون البلاد ويستأمنون على الثورة ، هو الذي يتيح للثورة المضادة كسب المواقف والتقوّي.
إنتدابات المتمتعين بالعفو التشريعي
قامت بعض الإدارات العمومية بانتداب عمال تبين أن منهم من هو منخرط برابطات حماية الثورة، ومنهم من تمتع بالعفو التشريعي العام من ذوي الانتماءات الإسلامية، وسرعان ما تحركت جماعات اليسار الاستئصالي التي طالما تحالفت مع بن علي طوال عشريتي القمع، تحركت تلك الكتائب بفعل فائض الحقد لديها الذي لم يشبع بما وقع لأبناء الصف الإسلامي، فكان أن أثاروا العجاج زاعمين أن تشغيل هؤلاء يعد كبيرة وجب تصحيحها باستبعادهم من الوظائف. وكعادة المنكسرين تواردت المواقف التي تقر الثورة المضادة في أصل مطالبهم، وتحاول أن تدافع عما قامت به من عمليات توظيف نافية مرة أن يكون الموظفون منخرطين بحماية الثورة وتارة تدفع بطرق أخرى، ولئن لم يسجل استبعاد لمن وظف فان موقف الدفاع هو إقرار ضمني لمطالب الاستئصاليين، وهو موقف يفضي لعدم تكرار مبادرات تشغيل المتمتعين بالعفو التشريعي العام.
كان يفترض أن يناقش موقف رافضي تشغيل هؤلاء بالنظر في أصل مطالبهم وليس افتراض صحة كلامهم والمضي مباشرة للدفاع. يجب أن يقع إبراز أن التشغيل لا ينظر فيه للانتماء الفكري والحزبي و إنما للشروط الموضوعية من كفاءة ومستوى علمي وغيرها من الأمور التي ينظمها القانون، يجب أن يقال لهؤلاء الاستئصاليين انه إذا كان يجب النظر في الانتماء الفكري والعقدي فانه يجب النظر في الانتماء اليساري والعلماني والفرنكفوني لباقي الموظفين بتونس، وانه إذا كان يجب رفض الناس لانتمائهم الفكري فانه سيكون من الأولى رفض ذوي الانتماء اليساري والعلماني عموما ودعاة التبعية الفكرية من فرانكفونيين ومروجي الشذوذ ومن شاكلهم، ولما كان الأمر لا يطرح واقعا بهذا التناول فانه لا معنى لإقامة الاستثناء مع الإسلاميين والمنتمين لروابط الثورة. ولكن الذي حصل هو موافقة جماعة الثورة المضادة في كلامهم والمضي للدفاع من خلال إيجاد تسويغات لانتداب هؤلاء لكأن الأمر فيه خطر فعلا.
المغالطة في كلام الاستئصاليين أن موقفهم انطلق من أمر هو أساسا محل خلاف، وهو كلام مبني على مصادرة على المطلوب، وكل ما ينجر عن ذلك فهو فاسد، ومرة أخرى نرى أن الضعف النفسي والمنهجي لمن يتحكمون في أمور البلاد هو الذي يعطي لجماعات الثورة المضادة القوة والفرص ليكسبوا المواقع والمواقف.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: