وضعت حرب السفارات أوزارها وباحت عمّلية نشر الفيديو المسيء للإسلام بكلّ أسرارها أو على الأقلّ هكذا يجزم قطاع واسع من المتابعين للحراك الإسلامي بعد الثورات؛ لكن الحرب ضدّ السلفية الجهادية في شمال إفريقيا متواصلة وآخرها ما حصل في منطقة دوّار هيشر إحدى أكبر ضواحي العاصمة التونسية.
كانت صفحات موقع « المراقب» قد عرضت من قبل طبيعة العلاقات بين مختلف الفاعلين في تونس بما فيها العلاقات البينية الإسلامية والعلاقة بين الإعلام والسلفيين زيادة على الحرب التّي تخوضها الولايات المتّحدة الأمريكية في تونس من خلال هذا الإعلام الذّي ضد الإسلاميين من المتشبثين بتحكيم الشريعة؟ ويذهب البعض إلى أن الإعلام أخذ مكان القمع المادّي في هرسلة السلفيين لبعض الوقت؛ لكن هذا السلاح يبدو أنّه لم ينجح على الإطلاق في وضع حدّ لحراك سلفي ضخم وغير تقليدي - غابت فيه مصطلحات التفجير وغيرها من الأسلحة المتعارف عليها- وإنّما هو حراك سلمي يهدف إلى بناء مجتمع متكامل مادّيا وفكريا – حسب القياديين السلفيين - كانت كلمة السرّ في هذا الحراك بلا منازع « أنصار الشريعة».
وهذه الكلمة هي التسمية التّي اختارها الحراك السلفي في تونس لتنظميهم الذّي يلتقي مع نفس النهج الذّي اختاره الليبيون لتنظيمٍ لا يختلف كثيرا عن مثيله في تونس لا في المنهج السلمي ولا في الأهداف التّي لا تخرج عن إطار إقامة شرع الله في الأرض وبناء دولة الإسلام.
إذن؛ فقد خسر السلاح الإعلامي الذّي سخّرته الولايات المتّحدة الأمريكية لخوض حربها على « أنصار الشريعة»، ولم يكن الفاشل الوحيد في هذه المعركة الإعلام التونسي والليبي وحدهما، بل خسرت كذلك كلّ القوى الليبرالية والعلمانية التّي لم تنجح في نشر الهلع بين الناس تخويفا وتحذيرا من غياب الحرّيات وضياع الأنفس ؛ فكان لابدّ بعد هذا السلاح من استنباط حلّ سريع حتّى لو كان من وحي الفشل القديم لحروب أمريكا على المسلمين.
موت غامض.. وبلا دوافع
لا يستطيع أيّ من المتابعين الجزم بأنّ حادثة وفاة السفير الأمريكي في ليبيا مدبّرة من طرف الجماعات الإسلامية أو حتّى من طرف الاستخبارات الأجنبية لأنّ المؤشّرات التّي تحيط بالواقعة تشير إلى الشيء ونقيضه، فالطريقة التّي هوجمت بها السفارات كانت شبيهة بالهبّة الشعبية التّي شارك فيها الجميع ولم تكن مدبّرة من هذا الطرف أو ذاك، إلى جانب أنّ الصور أثبتت أنّ المهاجمين حاولوا إنقاذ السفير من الموت، وأبرز المؤشرات على غياب طرف مدبّر هو نفي « أنصار الشريعة» في ليبيا لأيّ علاقة لها بأحداث الاحتجاج بما في ذلك مهاجمة السفير.
فكلّ هذه الملابسات تؤكّد غياب نيّة القتل لدى الأطراف التّي احتجت وهاجمت السفارة وإنمّا نهاية حياة الدبلوماسي الأمريكي جاءت نتيجة بقائه دون إجلاء من السفارة وعدم قدرة المحتجّين على إنقاذه بعدما حاصره الدخان في الدّاخل ولو كان هؤلاء المتظاهرون راغبين في قتله لقتلوا بقيّة أفراد البعثة الدبلوماسية الذّين تمكّنوا من النجاة.
هذه الظروف الحرجة التّي ألمّت بالبعثة الدبلوماسية الأمريكية في ليبيا أوحت للمتربّصين بالإسلاميين في البيت الأبيض بضرورة استغلال الوضع لصالحهم وهو ما بدأته فعلا الدوائر الإعلامية المقرّبة من المخابرات الأمريكية في ليبيا حيث سارعت إلى اتّهام « أنصار الشريعة» مباشرة رغم أنّه لا وجود لهوّية واضحة للمهاجمين. وما يؤكّد وجود نيّة واضحة لتوريط هؤلاء هو أنّ وسائل الإعلام دأبت تقليديا على اتّهام تنظيم « القاعدة» وليس أيّ طرف آخر، فلماذا اتّجهت الأنظار هذه المرّة وبسرعة تجاه هذا التنظيم؟
الإجابة جاءت سريعة من تونس؛ التّي تسارعت فيها أحداث مؤلمة تبيّن بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ أمريكا تدّخلت بكلّ ما تملك من ثقل لوأد محاولات التموقع التّي بدأها السلفيون في المنطقة. وما يثبت أنّ الخطّة وليدة اللحظة هو هذا التسرّع باستدعاء سلاح قديم وهو مهاجمة المصالح الأمريكية واختلاق الأعذار للضغط على الحكومات المحلّية لتصفية حساباتها مع « المغضوب عليهم»، وهو ما أكده السلفيون حين قالوا: « إنها عودة أمريكا لحربها ضدّنا»، بل تؤكد الدوائر الأمريكية نفسها هذه الحرب حيث يقول قائد « أفريكوم»: « إن تونس معنية بالحرب على من سمّاهم متشدّدين في شمال إفريقيا».
نقاط استفهام
قبل الحديث عن جرم « المغضوب عليهم» وما « اقترفوه» لابدّ من التعريج على نقاط عديدة في موقعة « السفارة» بتونس:
أوّلها هو تاريخ الاحتجاجات أمام مبنى البعثة الدبلوماسية الأمريكية حيث أنّ السلفيين نظّموا ما لا يقلّ عن ثلاثة وقفات أمام هذه السفارة ولأسباب وجيهة وتماثل الأفلام المسيئة الأخيرة مثل الوقفة التّي جاءت عقب تدنيس المصحف من قبل الجنود الأمريكيين، ولم يحدث أيّ هجوم على السفارة؛ فهل يعقل أن يهاجموها اليوم فقط؟؟ ولماذا لم يهاجموها من قبل رغم عدم حضور كثافة أمنية مثلما كانت متواجدة خلال 14 ستمبر 2012؟
ثاني هذه النقاط هو غياب الحراسة عن مؤخّرة السفارة، والحكومة تعلم أنّ المتظاهرين قادمون من جهات عديدة للسفارة فكيف يترك جانب واحد بلا حراسة؟؟ والأهمّ من كلّ هذا هو لماذا يترك السفير الأمريكي في المبنى رغم علم الجميع بوجود احتجاجات ضخمة أمام هذه السفارة؟ ولعلّ النقطة السّاخنة هي لماذا بادرت الشرطة بالهجوم على المتظاهرين واستفزازهم؟؟
أسئلة محيّرة تجاوزها الإعلام والحكومة وغيرهم كما تجاوزوا الحديث عن الجندي الأمريكي فوق السفارة والذّي أخذت له صورة وهو بزيّه العسكري هناك...
لا يبدو أنّ حرق السفارتين كان صدفة لكنّه جاء لتصفية حساب مع « المغضوب عليهم» في ليبيا وفي تونس خاصّة أنّ السلفيين من البلدين أوّل من برز للعالم بفكرة تنظيم غير تقليدي وهو تنظيم « أنصار الشريعة»، لذلك هاجمت الشرطة التونسية منزل قائد « أنصار الشريعة» قبل التحقيق وقبل كلّ شيء لأنّه الهدف في كلّ ما وقع، ولأنّ كلّ ما حصل هو بغرض إنهاء هذا التنظيم الذّي لم تستطع صفحات الجرائد ووسائل الإعلام إنهاءه بعدما اقترف « ذنوبا كثيرة»، جعلت أمريكا تتخلّى عن أسلحة ما بعد الثورة مثل التشويه الإعلامي وتعود إلى أسلحة الأزمان الغابرة رغم فشلها، ممّا يؤكّد عظم « ذنوب أنصار الشريعة» في تونس وليبيا.
« ذنوب أنصار الشريعة» !
ليس بعد الشريعة ذنب.. هكذا تؤكّد الدوائر الأمريكية ليلا نهارا، لكن عندما تخرج « أنصار الشريعة» في تونس وتسحب من تحت الجميع البساط وتقول أنّها لا تنوي رفع السلاح ولكنّها تطالب على لسان قائدها أبو عياض التونسي أن « خلّوا بيننا وبين شعبنا» فهذا مأزق كبير لم تجد له أمريكا حلاّ.
ولم يتوقّف المأزق هنا بل بدأت قوافل المساعدات والقوافل الطبّية تصل إلى أعماق تونس في حركة عجزت عنها كلّ الأحزاب السياسية ونجحت « أنصار الشريعة» في ترجمتها إلى واقع فذلك عين الكفر بأمريكا « وقمّة الإرهاب والتطّرف».
وما يزيد الطّين بلّة هو امتداد هذا النسق غير العادي إلى ليبيا وتبنّي الجماعات الإسلامية الباحثة عن الشرع لنفس نسق ومنهج وحتّى اسم الجماعة التونسية فإنّ ذلك مدعاة إلى « قلق أمريكي» كانت قد عبّرت عنه كلّ البحوث والتقارير الأمريكية عقب الثورات مباشرة وكان لابدّ من التصدّي لهذا. وهكذا صرخت الولايات المتحدة بهدوء منذ البداية لكنّها انتظرت الفرصة المناسبة.
النهضة بين الثورة وأمريكا
يصعب تحديد التحوّل في علاقة « حركة النهضة» (الاتجاه الإسلامي) مع الغرب. وبالرجوع إلى الموقف الأوّل للحركة فإنّه، كما يعتبره الشيخ خميس الماجري، أحد القياديين السابقين فيها، يتصل بـ « الموقف السلفي»، ويذهب إلى أنّ: « حركة النهضة كانت سلفية النشأة والمنهج لكنّها تحوّلت».
ولعلّ الموقف الواضح سابقا لـ « حركة النهضة» من دول المركز»، وبالتحديد من أمريكا، ذلك الذّي قاله راشد الغنوشي، القائد التاريخي، في بداية التسعينات، للاتجاه الإسلامي في السودان؛ حين هدّد أمريكا « بدكّ حصونها» إن هاجمت العراق، معتبرا إيّاها: « جزء من الغرب الكافر الذّي يحارب الإسلام».
ولا يمكن ربط موقف « حركة النهضة» بالغرب بموقف رئيسها راشد الغنوشي فقط؛ فربّما يكون للتحوّل الفكري الذّي عاشه هذا الأخير في بريطانيا أثّر بالغ في نهج الحركة عموما وليس في علاقتها مع « دول المركز» بالتحديد.
لكنّه من الضروري الإشارة إلى أنّ اتّصالات قيادات الحركة بأمريكا خلال أواخر التسعينات وبداية الألفية الثالثة توطّدت حسب وثائق ويكليكس التّي تذكر أنّ: « القيادي زياد الدولاتي مثلا كان يتردّد على السفارة الأمريكية بتونس في عهد الرئيس المخلوع ويعرض النهضة كبديل مقنع ومعتدل بدلا من بن علي»، وهو ما لم تنفه الحركة مطلقا.
وما تقدّم من تحوّلات في علاقة الحركة الإسلامية بالولايات المتّحدة هو مقدّمة لقراءة قد تكون غير دقيقة لكن لها صدى واسع بين الكتاب والمحلّلين، وهذه القراءة هي وجود رابط بين هذه التحولات في العلاقة بين الإخوان والغرب،من جهة، والثورات التّي اجتاحت المنطقة من جهة أخرى، معتبرين أنّ هذا الحراك هو بفعل فاعل – أمريكا- لتعبيد الطريق أمام هذا الحليف الإسلامي الجديد.
وبغضّ النظر عن بساطة هذه القراءة لعلاقات يعتبرها الملاحظون متشابكة جدّا فإنّ « حركة النهضة» في تونس لم تستطع استثمار الدعم الثوري الذّي حقّقته الثورات من أجل تخليص بلدان الربيع من التبعية لـ « دول المركز»، فكانت ضريبة ذلك تقديم قرابين من الإسلاميين للبقاع المقدّسة بالبيت الأبيض للتكفير عن ذنب حرق السفارة رغم علم الداخلية التونسية بضبابية المشهد يوم الجمعة 14 سبتمبر، هذا إن لم تكن جزء من العرض المسرحي الذّي وقع يومها.
جنود ينفضون الغُبار
لا يمكن وصف ما كشف عنه المحامي محمد الشريف الجبالي من مؤامرات يقودها رجل الأعمال التونسي وصانع نظام بن علي إلا بالحقيقة الواضحة لحقيقة الحرب ضد الإسلاميين عموما في تونس وضد السلفيين خصوصا؛ حيث أكّد المحامي أنّ هذا الشخص وراء عديد الأحداث، وهو سبب الحملات الإعلامية ضد السلفيين، وقد كشف المحامي الجبالي بالدليل ما يحوكه اللّطيف في تونس.
وتؤكد عديد المصادر منها هذا المحامي أن كمال اللطيف هو رجل المخابرات الوفيّ والذي ساهم في صنع عديد الشخوص في فترة ما بعد الثورة مثل عودة الباجي قائد السبسي لواجهة الحياة السياسية في تونس، كما يعرف عن هذا الشخص كرهه الشديد للإسلاميين، لكن العجيب هو سكوت « النهضة» على ممارساته رغم ثبوت إدانته في عديد المؤامرات التي ورّطت فيها وسائل الإعلام السلفيين ظلما.
ليبيا وعقدة بنغازي
ليس من الغريب أن تكون سفارة الولايات المتّحدة في بنغازي رغم أنّ العاصمة محصّنة أكثر، فهذه المدينة تحمل زخما ثوريا تاريخيا في ليبيا؛ فكانت مسرحا لكلّ المعارضات التّي واجهت القذافي وغيره نظرا لعديد العوامل لعلّ في مقدّمتها الظروف الاجتماعية السيئة لكثير من سكّانها ...
ولكن السبب الرئيس حسب المتابعين للشأن الليبي لوجود السفارة في بنغازي هو تواجد « أنصار الشريعة» المكثّف في هذه المدينة، وهو ما يبرّر ما كشفت عنه الصحف الأمريكية، بعد مقتل السفير الأمريكي هناك، من وجود عناصر للـ « سي آي آي» في هذه السفارة أثناء الاقتحام، ممّا يؤكّد أنّ للسفارة مهام استخباراتية في بنغازي.
كما أن بنغازي هي المدينة التي يمكن استغلال عامل الفقر فيها ضد كل طرف وهو ما قامت به الحكومة التي أوهمت المتساكنين بأن « أنصار الشريعة» ستجلب الخراب لها، وهو ما دفعهم لاتخاذ موقف من هذه الجماعة سرعان ما تبيّن لهم أنه خاطئ. فبمجرّد خروج كتائب « أنصار الشريعة» من بنغازي انعدم الأمن فيها ممّا دفع الناس إلى التمسك بهذه الجماعة. ورغم فشل هذه المحاولة فإن الحملات متواصلة على « أنصار الشريعة» في ليبيا كما يحصل في تونس التي يفيق السلفيون فيها على مشكل جديد كل يوم يجدون أنفسهم أبطاله دون علم مسبق
ماذا بقي؟
ما بقي أمام « أنصار الشريعة» في ليبيا وتونس هي حلول قليلة لكنّها اختبار حقيقي لمدى وعي هذه الجماعات بأمور كثيرة وهي:
أولا: وهن الإمبراطورية الأمريكية التي سخرت من وهنها هذا وسائل الإعلام « الإسرائيلية» معتبرة ايّاها إمبراطورية في آخر أيامها، وبصدد السقوط، وهو ما يجب على « أنصار الشريعة» التعامل معه على أساس الحذر لأن الإمبراطوريات التي تستعد للسقوط ستحاول إنقاذ نفسها بكل ما لديها، كما أنّه من الضروري التعامل مع هذا المعطى دون غرور.
ثانيا: هناك عملية ارتماء غير مشروط من طرف أنظمة ما بعد الثورات في الحضن الأمريكي في محاولة غير علمية للاستفادة من الدعم الأمريكي وتركيز سيطرة « الإسلام الليبرالي» في المنطقة، وهو ما يستدعي حساب كل خطوة في التعامل مع هذه الأنظمة خاصة تغييب أي ثقة في شخوص هذه الحكومات الصاعدة بقوة في درج « دول المركز» دون الاستفادة حتى من أخطاء أغبى الدكتاتوريات.
ثالثا: على القواعد السلفية تركيز الجهود على تبليغ أهداف التنظيمات السلفية السلمية في تونس وليبيا التي لا يزال وعي شعبيهما بأهمية المطالبة بالشريعة ضعيفا، كما لا يزال وعي هذه الشعوب بقوّة ثوراتها ضحلا، وذلك ناتج عن محاولات الإيهام بغياب الثورات من طرف المركز» وأتباعه في هذه الدول.
الوعي بهذه النقاط يجعل « أنصار الشريعة» في ليبيا وتونس في وضع صعب أكثر حتى من زمن سبق الثورات لكنّه على صعوبته أفضل بكثير لمستقبل « التيار الجهادي» و « أنصار الشريعة» عموما، خاصة وأن الإحراج بدأ يغرق أمريكا وعملائها في الوحل بعد انكشاف زيف « دول الديمقراطية» التي يريدون تسويقها بدل « دول الشريعة».
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: