الدكتور محمد عمارة مفكر معروف, له ما يزيد على 130 كتابا ألف في مختلف الجوانب التي تتعلق بالمواضيع الفكرية. نتابع معا بعضا من حوار أجري معه و نشر بموقع الشبكة الإسلامية.
* من يقرأ للدكتور محمد عمارة يكتشف نسقًا وإطارًا عامًا يجمع مؤلفاته، نريد معرفة المزيد عن نشأتكم الفكرية والمشروع الثقافي الذي تسعون إلى تحقيقه.
** نذرني أبي (يرحمه الله) للعلم قبل أن أولد، واجتهدت أن أفي بالنذر فقد ولدت بالريف فى 8 ديسمبر عام 1931 الموافق 27 رجب عام 1350 ، تعلمت بالقرية وحفظت القرآن فى الكُتّاب ، وقد نذر أبي - إن ولد له ذكر - أن يسميه محمدًا ويهبه للعلم ، ثم أدخلني المعهد الديني بمدينة دسوق عام 1945م ، وحصلت منه على الابتدائية ثم الثانوية عام 1954 ، ثم تخرجت فى كلية دار العلوم . بدأ اهتمامي بالعمل الثقافي منذ فترة مبكرة وأنا طالب إذ تفتح وعيي على قضية فلسطين .
ومنذ تخرجي وأنا شبه متفرغ للعمل الفكري حتى دراساتي العليا (الماجستير والدكتوراه) لم تكن لنيل درجة علمية بل كانت جزءًا من التأليف ، وليس بهدف العمل بالجامعة أو السفر للبلاد العربية فقد آثرت مشروعي الفكري على كل شيء .
وهذا المشروع الذي بدأته وكنت حريصًا على الاستمرار فيه يهدف إلى إلقاء أضواء جديدة بمنهج جديد على الفكر التراثي والفكر الإسلامي وتحقيق نصوص من التراث القديم ، والتراث الحديث بحيث نستطيع أن نكوّن عقلية علمية مرتبطة بأصولها الفكرية وتعيش العصر الذي نحن فيه ؛ لأن القضية التى نعاني منها في ثقافتنا الإسلامية هي أن لدينا أناسًا متغربين لا يعرفون إلا الغرب ، أو أناسًا تراثيين لا يعرفون إلا التراث القديم .
هناك استقطاب فى الحياة الفكرية : قوم يتقنون الكتابة في الإسلاميات لكن لا يستطيعون محاورة الأفكار الأخرى وكسر شوكتها، وآخرون يتقنون الفكر الغربي ويجهلون قضايا الفكر الإسلامي ، فكان مشروعي يستهدف تكوين عقلية إسلامية مرتبطة بالهوية الإسلامية والجذور الإسلامية، وفي الوقت نفسه قادرة على رؤية الإسلام في ضوء الفكر الآخر ورؤية الفكر الآخر فى ضوء الإسلام . وهذا يجعلنا نكتشف ميزات وتفرد الإسلام إذا قارناه بالآخر ، وهذا المشروع حاولت تأصيله فى كتبي التي وصلت إلى أكثر من 130 كتابًا . وقد عملت بالهيئة العامة للكتاب في وظيفة في الظل أراجع بعض الكتب الإسلامية ذات الحساسية، وكنت أقوم بهذا العمل من المنزل ولا أذهب للمكتب ولا أمارس عملاً منظمًا بمواعيد ، وهذا أتاح لي أن أمتلك كل وقتي ، أيضًا كونت مكتبة لي ، فالبيت كله مكتبة ، ولي منزل آخر فيه غرفة كلها كتب ، ومنزل ثالث بالريف فيه غرفة عبارة عن مكتبة أيضًا. وشاركت فى مؤتمرات كثيرة وحصلت على جوائز كثيرة من خارج مصر، وجائزة واحدة من مصر فى السبعينيات، وقد رضيت براتب بسيط جدًا على أمل نجاح مشروعي الفكري، وكنت آخذ إجازات دون راتب وأجلس 18 ساعة لأقرأ وأكتب، وكان أبي (رحمه الله) يساعدني فيبعث إلي بكل خيرات الريف، فلم أعان ضيقًا ماديًا. وعُرضت علي إغراءات كثيرة للعمل بالدول العربية والجامعة ، ولكني رفضت لأنني حددت هدفي من أول لحظة وعزمت على ألا أحيد عنه.
* كيف كانت جذور مشروعكم الفكري في بداياته الأولى ؟
** وأنا في معهد دسوق الابتدائي كان أول مقال لي بعنوان "جهاد" عن المتطوعين الذين ذهبوا للحرب في فلسطين قبل الجيوش العربية فى أبريل عام 1948م ، ونشر بجريدة "مصر الفتاة" ، وعندما رأيت اسمي مكتوباً تحت المقال ، وجدت أن هذا هو الوضع الطبيعي ، وكنت أدعو الله ألا أكون موظفًا لأن هذا قيد يبعدني عن الفكر، واستجاب الله لي ورزقت بوظيفة مهمتي فيها القراءة ، فإذا ذهبت للمكتب فأنا في عمل فكري ، وإذا جلست أكملت عملي الفكري . وساعدني على تخيل مشروعي الفكري أنني أثناء دراستي الأزهرية قرأت فى الفكر الغربي عن طريق شراء مكتبة فيها حوالى 400 كتاب ، منها كتب كثيرة مترجمة عن الفكر الغربي توفي صاحبها ، كان الكتاب بقرش وكانت مكتبة مليئة بذخائر الفكر الإسلامي والغربي أتاحت لي هذه المكتبة القراءة منذ فترة مبكرة في الفكر الغربي ، وخلق ذلك عندي توازنًا بين الفكر الإسلامي والغربي، إذ إنني أقرأ التراث الغربى والإسلامي في ضوء نظرتي للأفكار الغربية .
وقد كتبت مبكرًا الشعر والقصة والمقال ، ولكني تفرغت للكتابة الإسلامية المتخصصة . وكان الدافع وراء مشروعي الفكري رؤيتي للحياة الفكرية ، كنت أخالط الناس فأجد من لا يعرفون عن الإسلام شيئًا ، وأيضًا لا يعرفون عن الأفكار الغربية شيئًا . ولأنني امتلكت قدرًا من الرؤية والتوازن بين الفكر الإسلامي والآخر ، عزمت على تقديم مشروع فكري أستهدف منه تكوين العقلية الإسلامية المتوازنة .
* هل غياب هذه العقلية يمكن أن يكون وراء اجتراء الفصيل العلمانى على الإسلام لندرة العقليات القادرة على الرد والدفاع عن العقيدة؟
** فى الواقع أن الشموال والتوازن هما سمتا العقلية الإسلامية ، والإسلام لايخشى الآخر ولا يصادر فكره ولا يصم أذنيه عن دعاوى الآخرين، بل يستنفرهم ليخرجوا ما عندهم، بينما الآخرون هم الذين يصادرون الفكر الإسلامي ويقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن .
إن المنهاج الصحيح فى التفكير يقوم على رؤية الإسلام في ضوء الفكر الآخر لذلك قال سلفنا : والضد يُظهر حُسْنَه الضد وبضدها تتميز الأشياء .
والإنسان لا يدرك عظمة النور إلا إذا رأى الظلام، وكلما تمعّنا فيما لدى الآخرين اكتشفنا عظمة الإسلام أكثر ..وأكثر.
* انسحبت حالة "الاستقطاب" التى تحدثتم عنها إلى قضية "المرأة"، فهناك من يؤكدون أن الإسلام كرَّم المرأة وحررها دون أن يردوا على شبهات فريق آخر يطالب بتحرير المرأة في إطار رؤية غربية علمانية ، ويعتم على تفرُّد الإسلام فى معالجته لوضعية المرأة . في مشروعكم الفكري .. كيف ترون حل هذه المعادلة الصعبة ؟
** إن الإسلام حرر النساء قبل 14 قرنًا ونسخ مجتمعًا كانت المرأة تُوأد فيه وتُوْرث وتعامل على أنها من سَقَط المتاع، بينما الغرب لم يتحدث عن تحرير المرأة إلا فى القرن العشرين ، إذن أنا عندما أقارن النموذجين أكتشف عظمة الإسلام، وأدرك مكمن التحرير الحقيقي للمرأة الذي جعل لها ذمة مالية مستقلة وليس معنى ذمة مالية مستقلة أنها تملك فقط ، بل تعمل بهذه الأموال وتتاجر وتزرع وتمتلك أسهمًا فى الشركات .
في عام 1903 وجدت في فتاوى الشيخ محمد عبده امرأة مصرية تمتلك أسهمًا فى شركة قناة السويس ، والشركة كانت فرنسية في هذا التاريخ ، والمرأة كانت تريد أن تبيع أسهمها، ولكن الشركة قالت : إنه وفق القانون الفرنسي لا يجوز للمرأة أن تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها، وأرسلت السيدة للشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية آنذاك ، فقال : إن المرأة لها أن تبيع وتشتري حسب شريعة الإسلام وقانونه .
الإسلام له رؤيته الخاصة فى تحرير المرأة وقد كتبت فى كتاب "هل الإسلام هو الحل؟ " فصلاً فى نظر الإسلام للمرأة، وقلت : إن المرأة ليست رجلاً ، وإن الرجل ليس امرأة ، وهناك فطرة التمايز بين الذكورة والأنوثة ، وهذا سر سعادة الإنسان ، فالمساواة في الإسلام هي مساواة الشقين المتكاملين لا الندين المتماثلين.
لقد شقيت المرأة الغربية بنموذج التحرير الذي يتحدثون عنه ، أما المسلمة فتنعم بالمساواة فى الخلق والتكليف والكرامة والجزاء والمشاركة فى العمل العام ، فهذه المشاركة تأتي في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمؤمنون بعضهم أولياء بعض أي متناصرون ، وهذا هو أساس النموذج الإسلامي لتحرير المرأة .
* لكن كيف نحصن المسلمات من أن يكنَّ مبررًا لسد الذرائع حين يمارسن العمل العام بشكل مفتوح، وبلا ضوابط إسلامية لا تحيد به عن هدفه ؟
** لدين هو الحاكم والضابط الحقيقي ، وهذا منهاج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى تعامله مع قضية المرأة، فهو لم يحرم الاختلاط وإنما حرم الخلوة ، وعندما كان بعض الرجال يدخلون بيوت النساء وأزواجهن في الغزو قال صلى الله عليه وسلم : "من يخل بامرأة مغيبة بعد يومي هذا أنكل به" ، وكانت النساء يخرجن للصلاة حتى الفجر والعشاء في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعندما حدثت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نفسه بمنع زوجته "عاتكة" - وكانت شديدة الجمال - من الصلاة فى المسجد ، وكان منزله ملاصقًا له قالت له: أتنهاني ؟ فقال : لا أنهاك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله، فها هو الخليفة يرغب في شيء ولكن الدين يحكمه ويضبط رغبته.
هذا هو التحصين المطلوب : أن يكون الدين مرجعيتنا لا الأهواء الشخصية ، فالمرأة حينما تمارس حق العمل العام لا بد أولاً أن تكون منضبطة بشروط الإسلام ، وأن يكون هو حاكمها ، فالغزوات كانت محتشدة بالنساء ، وكن يخرجن أحيانًا - بغير إذن - حماسًا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فى غزوة خيبر، وسألهن : خرجتن مع من ؟ فقلن : خرجنا لنقدم الطعام ونداوي الجرحى ، وكن أيضًا يناولن السهام ، وأحسب أن الخلق والتكوين الداخلي هو التحصين الكافي للرجل والمرأة معًا ، وحين يتحول القرآن إلى خلق ومنهاج سلوك ، وفي كل الأحوال ليس هناك مجتمع بلا خطايا ، فمجتمع النبوة أقيمت فيه الحدود ولم يكن مجتمعًا معصومًا .
وقد اندهش مستشرق كان يحضر درسًا للإمام محمد عبده بالجامع الأزهر في أوائل القرن العشرين حين رأى امرأة تدخل المسجد ، وقال للإمام : المرأة عندنا شيطان بلا روح ، فكيف تدخل دار العبادة ؟ وحتى الآن ما زالت المرأة المسيحية محرومة من لقب "قسيسة" ، كما أن بيننا من يصرون على أن صوت المرأة عورة ، بينما قرأنا فى السنة عن خطيبة النساء التي كانت تقف على المنابر وتعظ النساء ، وعن الصحابية التي راجعت عمر بن الخطاب فى مسألة المهور بصوتها ، فقال : كل الناس أفقه من عمر ، ولم يقل لها - على شدته - : صوتك عورة ! مشكلتنا أننا نخلط بين العادات والتقاليد والإسلام ، يتحرج الرجل من مناداة زوجته باسمها ظانًا أن ذلك من الإسلام ، بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على الجبل ، وينادي : يا فاطمة بنت محمد ، يا صفية بنت حُيي ! لقد تخلفنا عن أكثر من 14 قرنًا مضت ، هي عمر التحرير الحقيقي للمرأة .
* الميراث وتر يضرب عليه دعاة التحرير الغربي ووصل الأمر ببعضهم إلى دعوة متبجحة إلى إلغاء القرآن ، ووضع نصوص جديدة "تنصف" النساء - على حد قولهم - وتساوي بينهن وبين الرجال في الميراث . ما تعليقكم ؟
** هذه قضية مغلوطة وقد بحثت هذا الأمر ووجدت أن معايير التفاوت في الميراث لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة ، وهذا يُفحم كل من يتكلم على أن الإسلام ظلم المرأة وهضم حقوقها حين أعطاها نصف الميراث ، ويأتي نصر أبو زيد فيقول: إذا كان الإسلام قد أعطاها النصف من 14 قرنًا، فالمفروض أن تأخذ الآن مثل الرجل بل وأكثر ، فالأمور متطورة ، والذي وجدته أن الإسلام لا يعير أية أهمية لعامل الذكورة والأنوثة في موضوع الميراث ، وهناك ثلاثة عوامل تحدد الأنصبة والتفاوت في الميراث هي : أولاً درجة القرابة ، ثانياً : موقع الجيل الوارث ، وهذه حكمة إلهية توقفت أمامها فوجدت أنه كلما كان الوارث صغير السن كان ميراثه أكثر والعكس صحيح ، فمثلاً بنت المتوفى ترث أكثر من أمه ، وهذه أنثى وهذه أنثى، ابن المتوفى يرث أكثر من أبيه وهذا ذكر وهذا ذكر . ولكن الإسلام يراعي مستقبل الجيل الوارث. أما المعيار الثالث : فهو العبء المالي ، وهذا الذي نجد فيه التمييز للذكر مثل حظ الأنثيين . كثيرون من لا يلتفتون إلى أن الله قال : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ولم يقل : في الوارثين ؛ لأن الولد والبنت جيل واحد ، ودرجة القرابة واحدة، ولكن العبء المالي هو المختلف ، هو يعول واحدة وهي يعولها واحد . فعندما نكتشف الإسلام نرد على كل الدعاوى الأخرى من موقف قوة ، وبشكل منطقي مفحم.
24-08-2007
http://www.islamweb.net
Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /htdocs/public/www/actualites-news-web-2-0.php on line 785