رمضان الغنام - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4438
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لكل دينٍ أو مذهبٍ مجموعةٌ من الثوابت الحاكمة والمؤطرة لحدوده ، وفي المقابل توجد مجموعة من المتغيرات التي بها يحيا هذا الفكر ويتواءم مع ظروف المكان والزمان وطبائع الأشخاص وثقافاتهم، وبقدر قوة الثابت أو المتغير أو ضعفهما تتشكل طبيعة هذا الفكر وحدوده وغاياته، وتتحدد بالتالي قوته، ويُتنبأ كذلك بمدى استمراريته من عدمها.
ويراد بالثابت في العرف الإسلامي ما ثبت بالدليل في وروده وفي دلالته، وهذا الثابت ثابتٌ مدى الزمن لا يتغير ولا يتبدل وليس موضعاً لاجتهاد العلماء، أو اختلافهم، وهي التي جمع الله عليها المسلمين، أما المتغير فيقصد به مواطن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية(1).
والثابت بصفة عامة يقصد به الأمر المتفق عليه الذي لا تؤثر فيه ظروف الزمان أو المكان ، فالثوابت تطلق على ما روعي فيه معنى الدوام والاستقرار، أما المتغير فهو الأمر المتقلب الذي يخضع لحسابات المكان والزمان ولأحوال الناس وطبائعهم، والمتغير في الغالب تابع للمصلحة.
علاقة (الإيديولوجيا) بالثوابت والمتغيرات
ففيما يخص الإسلام، فالإسلام بأحكامه وشرائعه وعقائده كله ثوابت(2)، نُصَّ عليها قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأستقر بها العمل بعد وفاته، أما المتغير فيه [ويسميه البعض بالثوابت النسبية(3)] فهو مرتبط باجتهادات المجتهدين التي تتغير من مجتهد لآخر، ومن مكان لمكان، ومن زمان لزمان آخر، بل إن في الثوابت ما يصلح لمكان، ولا يصلح لمكان آخر، وما يصلح لزمان، ولا يصلح لزمان آخر، بل إن فيها ما يصلح لشخص، ولا يصلح لنفس الشخص في حال مختلفة، ولهذا الأمر راعى الشارع حال المكلفين بل راعى زمان التكليف ومكانه، ومن ثم تعددت خيارات الشارع للمكلفين في أمور كثيرة؛ توسعة عليهم ورفعا للمشقة والحرج؛ لذلك بقي الإسلام وسيظل، وبقيت ثوابته كما هي، وبقي المتعبدون به.
والأمر ذاته في الديانات والأفكار الوضعية، فلو نظرنا إلى المسيحية (الوضعية) لوجدنا لها مجموعة من الثوابت التي نص عليها رهبانها وصانعوها، ودعوا الناس إليها، مع التوسع في باب المتغير لكسب الأتباع والأنصار، حيث يقرر الدكتور مجدي إسحق في مقال له بعنوان "الإنجيل ومتغيرات العصر" أن من ثوابت النصرانية "وحدانية الله(4)، الثالوث الأقدس، الوحي الكتابى، الفداء والصليب والقيامة، والكنيسة وأسرارها، مواهب الروح، القيامة والمجئ الثاني، الأبدية ...لكن بجوار هذه الثوابت، توجد مساحة فضفاضة "لمتغيرات كثيرة" ... وكلمة متغيرات هنا-بحسب تفسيره- لا تعنى أبداً إضافة أو تعديل على كلمة الله...إنما المقصود هنا هو قراءة الكلمة بالروح وليس بالحرف"(5).
وهكذا فمسألة وجود الثابت والمتغير مسألة أصيلة وحاجة ملحة لبقاء المذهب وضمان استمراريته، فقلما وجد فكر أو مذهب بغير ثابت، وقلما استمر بغير متغير، ذلك لأن في الثابت -كما مر- تأطير وتنظير وحماية لهوية الفكرة، وفيه كذلك إلزام للأتباع، وشحن لهم لتشرب المذهب، وإليه يحال عند احتدام الجدل والنزاع، أما المتغير فيسمح بمساحة كبيرة من المرونة لكسب الأنصار، ويسمح كذلك لمنظري المذهب بتجديده لموافقة الواقع مكانيا وزمانيا، ومن ناحية العرف أيضا.
"اللا ثابت"..روح الفكرة الليبرالية
لكن الصورة مختلفة تمام الاختلاف بالنسبة للفكر الليبرالي، حيث (لا ثابت) عند منظري هذا الفكر ، ولا حقيقة عندهم إلا [ثابت وحقيقة] (التغيّر)، فأفكار هذا المذهب تتغير وتتبدل حيثما وجدت مصلحة الفرد وحريته، وإن تعارض مع الدين، وهذا الفهم يعد فهما متأخرا، حيث كان الفكر الليبرالي في صياغاته الأولى "يمثل رؤية للوجود والكون وخالق الإنسان، والإنسان الفرد، والجماعة الإنسانية منذ مجتمعها الأول وحتى المجتمع الأخير، ولكن مع تتطور هذا الفكر، بدأ فلاسفة التنوير ينزعون الصفة الدينية شيئا فشيئا عن تلك الأصول، مبقين على أثرها المتعلق بالشأن الدنيوي، وكانت هذه هي الخلفية التي نشأ منها الفكر العلماني الأوروبي بوجه عام، بعد أن أصبحت الليبرالية اللادينية نهجا فكريا وذهنيا عند النخب النصرانية عامة"(6).
ولا يعني هذا أن الليبرالية لا ثابت لها، وإنما المقصود أنه لا ثابت (ثابت) لها، فثوابتها دائما في حال تغيّر وتبدّل حسبما توجد المصلحة والمنفعة، ولقد تضخمت فكرة المصلحة والنفعية حتى صارت عَلَِماً على اتجاه من اتجاهاتها، وهو ما يعرف بـ"الليبرالية البرجماتية"، أو "الليبرالية النفعية"، حيث لا ترى ولا تبحث ولا تتحدث ولا تتحرك إلا وفقا لمبدأ النفعية، ونستطيع أن نستثني من مسألة (اللا ثابت) مسألة الحرية (مطلق الحرية)، فهي غاية لهذا الفكر، ومن أجلها كانت معارك الهدم وملاحم الإتيان على الثوابت.
وحتى مسألة الحرية هذه تخضع في بعض صورها لمسألة التغيير، ففي حين يناضل دهاقنة هذا الفكر لإرساء مبادئ الحرية ونصرة أهلها، نراهم في أحايين أخرى يناصبون فريقا آخر العداء ويحرمونهم من أبسط حقوقهم، ويحدث هذا –غالبا- إن تعلق الأمر بمن يعتنق فكرا أو دينا يخالف قناعاتهم، وظهر هذا جليا إبان ثورات الربيع العربي، تلك الثورات التي بزغ فيها نجم تيارات الإسلام السياسي، حيث رأينا تخاذلا لا نظير له من قبل دعاة الحرية (الليبرالية)-زعما- في الوقوف صفا واحد إلى جانب الإسلاميين لمواجهة أنظمة الفساد، ورأينا هجوما سافرا على حرياتهم ومعتقداتهم وأفكارهم، بل وعلى أشخاصهم، لا لشيء إلا لأنهم يؤمنون بالفكرة الإسلامية، ويضعون للحريات ضابطا مرتبطا بأحكام الشريعة.
الفكرة الليبرالية بين "الثابت" و"اللا ثابت"
وخلافا لهذه الرؤية-أعني رؤية "اللا ثابت"- يرى الدكتور عبد العزيز كامل أن الثوابت الباقية في الفكر الليبرالي المعاصر تتلخص في: تقديس الحرية والتعددية، والثابت الثاني: النسبية الأخلاقية [وتعني ألا تكون الأخلاق حائلا أبدا بين الإنسان وبين حقه في أن يكسب ما يشاء وينفقه فيما يريد]، والثابت الثالث: حتمية الصراع لضمان التطور إلى الأحسن.
لكنه يرى تناقضا، وجوْرا من قبل هذه الثوابت على الحريات- وهو تناقض عجيب حسبما يَرَى- حيث يرى أن تلك الثوابت تستمد منها الحكومات الليبرالية شرعيتها، وأنه يطلب من الهيئات التشريعية والهيئات التنفيذية أن تحترمها وتعمل على توكيدها في الواقع، بحيث لا تصادم بإجراءات تشريعية أو تنفيذية تناقضها أو تعارضها، حتى لو طلب الأغلبية ذلك، وحتى لو حصل الاجتماع الذي يملك حق تغيير الدستور، فالدستور في المجتمعات الليبرالية هو لحماية هذه الثوابت، لا لمراجعتها أو تغييرها؛ فهي فوق الدستور وفوق القانون، وفوق الأغلبية الديمقراطية(7).
ولعلي أختلف قليلا مع الدكتور عبد العزيز في مسألة الثوابت تلك، وأؤكد على ما ذُكر من قبل من أنه لا ثابت في الفكر الليبرالي، أما ما ذكره بشأن تقديس الحرية والتعددية فهي من وجه نظري غاية يُخِّدم عليها هذا الفكر بكل ما أوتي من قوة، أما ما ذكره عن "النسبية الأخلاقية" و"حتمية الصراع"، فهما وسيلتان يُتحصل من خلالها على هذه الغاية.
النفاق ..التناقض ..أزمة ليبرالية
وهناك بُعدٌ آخر يخص الفكر الليبرالي، وتحديدا شخصية الفرد الليبرالي الذي يحاول التكيف قدر المستطاع مع الواقع الذي يعيش فيه، وهو بعد نفاقي يسعى إلى تجميل الفكرة الليبرالية وتقديمها بشكل "محلي" جذاب يتناسب مع كل مجتمع أو فصيل بشري على حده، لذلك فمسألة الكذب -أو قل النفاق- تعد من المسائل المشتهرة والمعروفة لدى الناطقين عن هذا الفكر والمنظرين له، وقلما تجد ليبراليا متسقا مع نفسه، بحيث يعبر عما يؤمن به من أفكار وقناعات دون تلبيس أو تدليس أو تسييس.
ومسألة النفاق هذه خصيصة ثابتة في غالب الأفكار والمذاهب المعادية للإسلام، فهو نفاق يشبه في كثير من ملامحه النفاق الشيعي، أو ما يعرف في أصول المذهب بـ"التقية"، وشبيه بنفاق أعداء الإسلام في بدايات الدعوة، الذين قال فيهم الله عز وجل:(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)، والشياطين هنا بحسب تفسير القدماء هم رؤسائهم في النفاق والكفر.
وفي تناقضات الليبرالية والليبراليين دليل آخر على فقدانها لمسألة الثابت وتأرجح قواعدها، ففي حين ينادون بتمجيد العقل وإطلاق الحريات نراهم يصرون على أنهم يحترمون الشرع ونصوصه-زعما- ولا يقبلون مخالفته، وفي الوقت ذاته يرون أن مكان الشرع والدين ليس السوق والنادي و الشارع أو مؤسسات الدولة، وإنما عليه –إن أراد البقاء- أن يلزم المسجد وألا يتحدث في شؤون الحياة وألا يتدخل في علاقات الناس ببعضهم.
ومن تناقضاتهم في مسألة محاكمة الأشخاص، أن عامتهم وخاصتهم قد درجوا على انتقاد كل مخالف لهم ورميه إما بالجهل وإما بالتشدد أو قلة الوعي بالواقع وفقهه-سيما إن كان إسلاميا- بل ربما تعدى الأمر إلى رمي المخالف بتهم الإرهاب، وفي ذات الوقت لا تجد لهم غضبة إن خالف حليف لهم أو من يتبنى فكرتهم- سيما إن كان مناهضا للفكرة الإسلامية- ومن عجيب أمرهم أنهم رغم مناهضتهم للدين –أي دين- بحسب زعمهم لا تسمع لهم صوتا وجلبة ومكاء إلا في وجه الدعاة إلى الفكرة الإسلامية والمنهج الرباني، أما دون ذلك من مذاهب فليس عليهم جناح وإن جنحوا وبغوا وظلموا.
أما الأغلبية والقيمة الحقيقية لتصويتها، فهو أمر مرتبط بماهية الاختيار، فإن كان موافقا للهوى الليبرالي، وصوَّت الناس لخيارهم، فهي الحرية.. وهو النضال، وحينها لا تسمع إلا عبارات الإشادة بقيمة الحرية وأنه لولا مبادئ الليبرالية والديمقراطية ما وصل الشعب إلى هذا النضج، أما إن كانت الأخرى، وخالف الشعب خياراتهم، واختار خيارا إسلاميا، فهو الجهل وهو الاستقطاب الديني، والعبث بعقول السذج، ثم لا تكاد تهدأ لطمياتهم ولا تسكت سردقات نحيبهم إلا بتغير الأحوال ولو جاء على حساب مبادئهم التي صدَّعوا بها الرؤوس، ولو استعانوا بالعنف والقوة، بل ولو قامت الحروب من أجل فكرتهم.
كذبة "الصالح العام" و"الفوضوية" الليبرالية
ونأتي على مسألة أخرى تكشف لنا مدى التقلب والتغير الذي تتسم به الليبرالية، وهى مسألة الصالح العام وارتباط الحريات به، حيث يرى منظرو الليبرالية أن مفهوم الحرية عندهم يقصد به الحرية المنضبة بالصالح العام، والخطير في الأمر هنا أن الصالح العام ليس له ملمح أو ضابط ثابت، فما يعتبر في مجتمع اتساقا مع الصالح العام، يرى في مجتمع آخر خروجا وبعدا عن النسق، وهكذا فهذا المصطلح يتغير بحسب الزمان والمكان والأعراف، بل وبحسب أمزجة الأفراد وأحوالهم، ولهذا ففكرة الصالح العام بحسب التنظير الليبرالي فكرة فوضوية، وهي إن ظهرت بمظهر منمق إلا أنها تخبئ ورائها كمّاً من الخروجات حريّاً بها أن تسقط أعتى الأفكار وأصلبها.
غير أن البعض يرى أن مسألة الصالح العام كذبة ليبرالية، وأن المعيار الحقيقي للحكم على الأشياء، ومنها مسألة الحرية، راجع إلى العقل والهوى الليبرالي، فما يراه الشخص الليبرالي صوابا وحقا، فهو الحق وهو الصالح العام وإن كان مفسدة، وما يراه باطلا يرفضه بلا جدال ولا نقاش وإن كان هو الصالح العام.وعليه فالحرية عند دعاة الليبرالية كائن هلامي يتشكل وفق مرادهم ومقتضى أحوالهم.
في المقابل يرى أصحاب الفكرة الإسلامية أن الحرية عندهم منضبطة بأحكام الشريعة الثابتة بالكتاب والسنة، ولهذا فللحرية عندهم مفهوم واحد ثابت لا تؤثر فيه عوامل المكان أو الزمان أو الهوى أو كذبة "الصالح العام" وإنما الأساس فيها رضوخها لضابط الشرع، أما عن حدود الحرية في الإسلام فتتلخص في قيدين، الأول منهما قيد خاص بالمعاملات يدعو إلى عدم الغيبية والسخرية من الآخرين، أو كشف عيوبهم، أو تكفير المسلم...والثاني قيد عقائدي وتشريعي يدعو إلى ترك البدعة وعدم المجاهرة بها والابتعاد عن سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو سب دين المسلمين، أو التعرض لحكم من أحكام الله بالرفض أو السخرية أو الانتقاص أو مثاله...
وخلاصة القول أن الليبرالية لا تعترف بالثوابت، وأن أحوالها تدور ما بين متغير إلى متغير آخر، وأن هذه الأحوال تسيِّرها رغبات النخبة من الأدعياء، ثم إن لكل دعي من هؤلاء ليبراليته الخاصة ثم إن لكل حاله من أحواله ولكل موقف من مواقف حياته ليبراليته التي تناسبه أيضا، والتي تتشكل وفقا لطبيعة الموقف، فما يؤمن به الآن قد يكفر به بعد ساعة، وما كان كافرا به من أمور فكرية، ربما يكون داعيا له في وقت آخر أو موقف آخر، وهكذا فليبرالية هؤلاء كائن مطاطي هلامي يتشكل بحسب الإناء الذي يوضع فيه، والسياق الذي من خلاله ينطلق.
الحواشي:
(1) مقال: تاريخ مدرسة الثابت والمتغير في الفقه الإسلامي- الدكتور محمد حسن محمد الربابعة- بتصرف.
(2) ليس المقصود من قولنا أن في الإسلام متغيرات أن في دين الله أمورا يصح تغييرها وتبديلها، إنما المقصود كما ذُكر أن التغيير حاصل في اجتهادات العلماء، وفي الأمور التي خير الله فيها عبادة، وليس المقصود من التغيير تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فما حكم الله بحرمته حرام إلى يوم الدين، وما حكم بحله فهو حلال إلى يوم الدين.
(3) ينظر بحث(ثوابت الأمة في ظل المتغيرات الدولية، مدخل في معرفة الثوابت)- أ.د ناصر بن سليمان العمر: (ص:7).
(4) وحدانية الله هنا ليست كالوحدانية التي نؤمن بها نحن المسلمين، وإنما يفسرها النصارى بأن الله واحد في ذاته، ولكنهم في الوقت ذاته يؤمنون بثالوث الأب والابن والروح القدس، وهو تناقض عجيب، وشرك ما بعده شرك.
(5) مقال: الإنجيل ومتغيرات العصر- د. مجدي إسحق.
(6) معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية- للدكتور عبد العزيز بن مصطفى كامل: (ص:81-82).
(7) المرجع السابق، بتصرف- الصفحات:(82-87).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: