د. صالح حسن الفضالة - المغرب
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4318
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يعاني العالم منذ بداية الثمانينيات مشاكل اقتصادية كالتضخم، البطالة، تراكم الديون لدى الدول النامية ومعوقات تحقيق التوازن في المبادلات التجارية بين الدول، كما هو بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين. وللتغلب على هذه المشاكل بدأ علماء الاقتصاد البحث عن قواعد ونظريات ومعادلات للوصول إلى وضع نظام اقتصادي عالمي متكامل يعالج تلك القضايا. وبالرغم من أن هذه الدعوة قد بدأتها الدول النامية بقصد التغلب على المشاكل التنموية التي تعانيها إلا أنه سرعان ما تبنتها الدول الصناعية الكبرى لكي يتسنى لها إدارة دفة الحوار والتغيير بما يخدم مصالحها، فقررت الدول الكبرى عمل الدراسات لمعرفة العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت السبب الرئيسي في استفحال المشاكل الاقتصادية في العصر الحاضر.
ولقد أظهرت تلك الدراسة أن تزايد الاستهلاك(الإنفاق) العالمي مع عدم وجود نظام للتكافل الاجتماعي سوء توزيع الدخل القومي للدول ونقص الغذاء, الفقر وعدم الاستقرار النقدي بالاضافة الى تفشي البطالة وظاهرة الاضطرابات العرقية والسياسية تعتبر كذلك من العوامل الأساسية التي ساعدت في ظهور المشكلات الاقتصادية القائمة.
وتشير تلك الدراسات أنه لا يمكن إصلاح النظام الاقتصادي الدولي الحالي دون إحداث تغيير جوهري في قيمه السياسية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية وفي نفس الوقت دعت تلك الدراسة أن تتخلى الدول الكبرى عن السيطرة الاقتصادية على الدول الصغرى.
وبينما العالم اليوم يحاول التغلب على مشاكله الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسلوكية عن طريق وضع قوانين وضعية ابتدعها الإنسان القاصر باجتهاداته الشخصية نجد أن الإسلام يكفل تحقيق التوازن بين عالمي الروح والمادة ويدعو إلى المساهمة الجماعية في وضع حلول حقيقية للمشكلات(عامة) التي يواجهها المجتمع الإنساني. فالإسلام يرى أن هدف الاقتصاد تحقيق أنسب قدر ممكن من الإنتاج المادي المقبول اجتماعيا، وذلك بالاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية والتكنولوجية مع العدالة في توزيع ذلك الإنتاج، وأنه لن يحقق كل من الإنتاج والتوزيع أهدافهما "الرفاهية" إلا بوجود نظم للقيم ومعايير أخلاقية وسلوكية التي يعتبرها الإسلام من المقومات الأساسية في عملية الإنتاج والتوزيع، بقصد تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية المنشودة بين طبقات المجتمع.
إن مبادئ وقواعد الاقتصاد المتوازن ودلالاته نجدها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة، حيث مئات الآيات القرآنية وعشرات الأحاديث النبوية تشير وتوحي إلى أن المجتمع العالمي لن يسعد، و سيعمه الفساد والشقاء ونسود ه الحياة البائسة إذا لم يعمل بما ترشده وتأمره به وتبينه له الشريعة الإسلامية والسنة النبوية.
فهذه الدلالات ترشدنا إلى مفهوم "مبدأ تفعل أو لا تفعل" الذي كان ينادي به " المرحوم الشيخ محمد الشعراوي" الذي يعتبر معيار الصلاح أو الفساد. قال تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الروم: 41. وقال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا، كتاب الله وسنتي" رواه الإمام أحمد.
والدول الإسلامية اعتمدت منذ فترة الاستعمار وحتى وقتنا الحاضر مذاهب و نظريات اقتصادية مختلفة في معاملاتها الاقتصادية والتجارية لا تتوافق مناهجها مع مبادئ ولفكر ومنهج الدين الإسلامي، حيث أخذت المؤسسات الاقتصادية والمصرفية الإسلامية تتبع أشكالا عديدة من المذاهب الاقتصادية الغربية(الرأسمالية والاشتراكية) في معاملاتها الاقتصادية ومبادلاتها المصرفية والتجارية مع العلم أن تلك الأنظمة الغربية لم تحقق النجاح الذي كانت تنشده مما دفعها إلى اتخاذ استراتيجيات اقتصادية أكثر اعتدالا وهذا يعني أن مذهبا اقتصاديا وضعيا محددا لن يفي باحتياجات كافة الأمم في جميع العصور والأزمان ما دام هذا المذهب من صنع البشر حيث التعديل والتغيير على ذلك المذهب واردان مع مرور الزمن، حسب تغير الأحداث وتطور أساليب الحياة. بينما المذهب الاقتصادي المنزل من خالق الكون العالم قي كل شيئ( الذي لا يخفى عليه شيئ في الأرض ولا في السماء) والأعلم بحاجات عباده وتطلعاتهم المختلفة، كما في قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) الأنعام: 3 وهذا يعني أنه لا يحق لأحد الإتيان بتفسير مخالف، ولغرض غير الذي بينه وحدده رب العالمين، قال تعالى: (فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا) فاطر:43. وقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر: 9.
لقد جاء الإسلام لكافة البشر ولجميع الأزمان وأمرا الله تعالى الإنسان ألا يموت إلا على فطرة الإسلام كما في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)الروم:30 حيث وضع الله أحكاما عامة توجه سلوك المسلم في مختلف أعماله وأنشطته وجعل حدودا ليس للمسلم حق بتجاوزها بما فيها النشاط الاقتصادي. فحرم الله الربا وبيوع الغرر والاحتكار وكفل الحد الأدنى للمعيشة بما يضمن الحياة الكريمة للمسلم وجعل المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة.
كذلك أباح الملكية المزدوجة وشرع الميراث وأقر العمل بالعقود والعهود محافظة على مصالح الناس وأجاز الين الاسلامي أن يعمل المسلمون بالمنهج الاقتصادي الذي يلاءم حاجات المجتمع في إطار أحكامه العامة لأن الإسلام يشتمل على جميع الأحكام والتوجيهات والقواعد التي تعين المسلم في شؤون حياته الفردية والأسرية والمؤسسية وتحدد علاقاته مع خالقه ومع الناس. كذلك يعالج الإسلام قضايا العقود والمواثيق والالتزامات و يحدد أنواعها وحدودها.
وقد وردت في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية الشريفة أمثلة عديدة لأنواع لمبادلات والمعاملات والعقود والبيوع والمرابحات والوكالات والوصايا والهبات والأوقاف والمواريث التي أمر الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، المسلم العمل بها والتقيد بجميع ما ورد بها من التزامات وعهود ومواثيق لأنها أوامر الله ورسوله.
فالنظام الاقتصادي في الإسلام يعتمد على فريضة الزكاة والصدقات والنذور والكفارات والهبات وأحكام المواريث، كذلك يحرم الربا ويحمي الملكية الخاصة والعامة، كذلك توفر الدولة أسباب ومقومات المعيشة الكريمة لجميع رعاياها، لأن الإسلام يمنع الاحتكار وكنز الأموال ويقر العدالة في توزيع دخل الأمة وألا تكون دولة بين الأغنياء. كذلك أمر الاسلام بتخصيص حصة سنوية وهي(الزكاة) تؤخذ من مال المسلمين وتعطى للمحتاجين من المساكين والفقراء حتى أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفرض" فريضة الأرزاق" في حق المحتاجين من المسلمين وأهل الذمة.
ولا يخفى علينا أن دولة الإسلام تزخر بثروة فقهية تشريعية تغطي جميع جوانب الاقتصاد، بينما نرى أن المذاهب الاقتصادية الوضعية الأخرى تهيمن على أعمال المؤسسات الاقتصادية والمالية في دول المسلمين، وذلك زعما من البعض في جواز تلك المعاملات بحكم الاتصال بالغرب، وبالتالي تدعوا الحاجة إلى تطبيق نظمه الاقتصادية وذلك بقصد تسهيل حاجات المسلمين لكن مثل هذا الزعم يعتبر تحاملا على الإسلام وأحكام القرآن الحنيف وسنة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الذين يطالبون بالتيسير على الناس في المعاملات المالية والتجارية، والذين يدعون في نفس أن الأوضاع الاقتصادية في العالم قد تغيرت مما يستدعي الأمر أن تتغير معه نظرة المسلمين إلى القاعدة الربوية، ويرون كذلك أنه لا يصح للمسلمين التخلف عن ركب الحضارة بتمسكهم بحرفية النصوص القرآنية ونسوا أن الإسلام يدفع المسلمين نحو العمل لتحقيق غايات وأهداف سامية ومثل عليا وليس الكسب المادي فقط. قال تعالى :(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون(التوبة: 105.
ولكي ينهض العالم الإسلامي اقتصاديا يجب عليه أن يتمسك بأحكام الشريعة الإسلامية والسنة النبوية التي تدفعه إلى العمل والإنتاج والتنمية لأن الاقتصاد الإسلامي ذا نزعة إنسانية وغايات نبيلة ويقود المجتمع إلى التضامن التكافلي والإيثار وتقرير الحقوق والالتزامات بين الناس والدولة في عمليات الإنتاج والتوزيع.
ولقد عم الجدب الروحي والشقاء النفسي والفقر في كل الشعوب الإسلامية بسبب تركها العمل بأحكام وقواعد ومنهج الاقتصاد الإسلامي، وانجرفت وراء أساليب الاقتصاد الغربي "الاقتصاد الوضعي" وسارعت بالبحث بكل الوسائل عن الفائدة الربوية التي عمت جميع المعاملات المالية والتجارية بين المسلمين بينما يؤكد الاقتصاد الإسلامي الصلة الوثيقة بين المصلحة الفردية والجماعية من حيث المفهوم ويدعو كذلك إلى رفاهية الأفراد والجماعات.
ولقد أظهرت الدراسات والأبحاث االحديثة في الميادين الاقتصادية أنه لا يوجد في تاريخ البشرية مذهب يصل إلى المستوى الرفيع الذي وصل إليه منهج الاقتصاد في الإسلام الذي يهدف إلى النهوض بالإنسانية نحو حياة أفضل . فالمذاهب الاقتصادية الوضعية المعاصرة، على اختلاف مذاهبها و مناهجها ووسائلها المالية، تتحد في غاياتها التي تتلخص بالرفاهية الاقتصادية فقط دون اعتبار للقيم الإنسانية والأخلاقية وجودة وكفاءة الإنتاج والعدالة بتوزيع الثروات. فهي أنظمة اقتصادية وضعية لا تخلو من تقصير وضعف في مبادئها وأصولها وفي مراحل تطبيقها بالإضافة إلى أنه ليس لتلك الأنظمة فلسفة واضحة تفوق نظرة الإسلام إلى القضايا الإنسانية. فالاقتصاد الإسلامي ليس مجرد أحكام شرعية وسنة نبوية وإنما هو جزء من تشريع إسلامي متكامل و شامل يهدف إلى معالجة الأوضاع والمشاكل الاقتصادية عبر نموذج محدد المعالم والأهداف.
وعلى ذلك، فمن الصواب أن نحاول اكتشاف النظرية الاقتصادية الإسلامية اعتمادا على أصولها وأحكامها وامتدادها الشمولي نحو قضايا الإنسان والمجتمع . وهذا يعني أن البحث في الاقتصاد الإسلامي ليس من اختصاص رجال الاقتصاد فحسب وإنما يمكن لأصحاب المفكر والفقه الإسلامي أن يساهموا بإعداد الإطار العام لهذا النظام معتمدين في ذلك على المصادر الأساسية التي تساهم في خلق الإطار العام للنظام الاقتصادي في الإسلام.
فنحن بحاجة للرجوع إلى أسس وقواعد التشريع الاسلامي للخروج بنظام وفكر اقتصادي إسلامي ملائم، لأن ذلك الأسس والقواعد هي التي ستشكل معايير وموازين الاقتصاد الإسلامي المرتقب الذي سيكون مختلفا بجوهره ومضمونه عن الفكر الاقتصادي الوضعي. فاالأسسس االجوهرية للاقتصاد الإسلامي ستكون مرتبطة بالشريعة الإسلامية، ولا يمكن للمسلم المؤمن أن يرفض ما جاءت به شريعة الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعلى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) الأحزاب: 36. فالأحكام واالقواعد التي نصت عليها الشريعة الإسلامية والسنة النبوية الشريفة تمثل الأسس الجوهرية التي ستقوم عليها نظرية الاقتصاد الإسلامي.
وقد قدم العديد من الفقهاء ورجال الاقتصاد المسلمين بحوثا قيمة في هذا الميدان كان لها الأثر العظيم في إبراز مفاهيم النظام الاقتصادي بصفة عامة وعملوا على تطويره حسب ما تقتضيه متطلبات العصر، فقاموا بتطبيق تلك المفاهيم في المعاملات التجارية والمالية ومختلف الأنشطة الاقتصادية التي تقوم بها بعض المصارف الإسلامية والمؤسسات والشركات المالية والتي حققت النجاح الباهرمنذ الثمانينات من القرن الماضي حتى اليوم مما شجع أن تتوجه العديد من الدول الإسلامية إلى العناية بهذا الموضوع، حتى أن العديد من البنوك الأوربية والأمريكية وبعض دول جنوب شرق آسيا، قامت بإنشاء إدارات خاصة باستثمار الأموال حسب الأحكام الإسلامية عندما رأت شدة إقبال المسلمين المقيمين فيها بإيداع واستثمار أموالهم في مشروعات الاستثمار والمرابحات والمضاربات التي تدار حسب أحكام الشريعة الإسلامية. وما زالت معظم الشعوب الإسلامية ودول العلم قاطبة تترقب ظهور نظرية اقتصادية عالمية موحدة تكون دعامتها مبنية على دلائل ومفهوم الاقتصاد الإسلامي في القرآن والسنة النبوية فهي سبيل الحق واليقين. قال تعالى (هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون، وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) يونس: 35-36.
المصدر:
الدلائل الاقتصادية في القرآن والسنة النبوية - د. صالح حسن الفضالة - الفصل الثالث عشر - الناشر مؤسسة غراس للنشر والتوزيع - الكويت -2003م. ودار التوحيدي للنشر والتوزيع والاعلام - المغرب – الرباط - 2004م
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: