كل المنظمات الإقليمية، العربية والإسلامية، لا قيمة لها إلا فيما تعكسه من مواقف الدول الأعضاء فيها. وبالتالي يصعب توجيه لوم حقيقي للجامعة العربية تجاه موقفها مما يجري في سوريا. مع ذلك فقد تعرضت إلى نقد شديد وصل إلى حد التهجم على أمينها العام أحمد العربي، حتى كادت تفقد أي مبرر لوجودها، إلا من كونها مجرد أداة مسخرة للدفاع عن الأنظمة، وتشريع سياساتها، مهما بلغت من القسوة والوحشية. أما دخولها المتأخر، على خط الضغوط الدولية، ضد النظام السوري، فلا شك أنه أعاد لها بعض المصداقية، وشرع أبواب التدويل على مصراعيها. لكن يبقى السؤال المطروح: في أي سياق تأتي المبادرة العربية؟ وفي أية سياقات تنتظم الثورة السورية؟
أولا: منطق المبادرة العربية وسياقاتها
مبادرة الجامعة العربية (2/11/2011) طالبت النظام بـ: (1) سحب الجيش من المدن والتجمعات السكانية و (2) وقف العنف، و (3) إطلاق سراح المعتقلين، و (4) الموافقة على استقبال بعثة من المراقبين. كما أنها منعت الوفود السورية من المشاركة في اجتماعات الجامعة، وأمهلت النظام ثلاثة أيام قبل أن يواجه تعليق العضوية وسحب السفراء وصولا إلى التجميد، وفرض عقوبات اقتصادية ومالية عليه.
واقع الأمر أنه لولا شراسة الثورة السورية في تحدي وحشية النظام، لما نجحت في تصفير الفرص العديدة، وحتى المفتعلة، التي أتاحتها القوى العربية والدولية والإقليمية للنظام، دون جدوى. وبطبيعة الحال لم يكن ثمة مخرج من المأزق إلا بِلَيّ ذراع النظام، باعتباره الطرف الأضعف مقارنة بالشعب. وهكذا جاءت المبادرة:
• لتوجيه صدمة عاجلة، تستهدف إفاقة نظام اتسم بالطيش والرعونة، بما يكفي لتقويض التوازن الاستراتيجي التاريخي في المنطقة، ويهدد ما تبقى من استقرار للنظم السياسية والاجتماعية فيها على نحو بالغ الخطورة. لذا لم يكن غريبا أن تأتي كل التصريحات اللاحقة، بما فيها تصريح أمير قطر، بأن المبادرة جاءت في صالح سوريا للحيلولة دون التدويل.
• أما إذا أصر النظام على رعونته فلا مفر من أن يترافق الضغط المحلي مع الضغط الدولي لعزل النظام، عبر إرهاقه في المستويات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والتجارية والمالية، أو عبر إدانته وحرمانه من الشرعية في المنظمات الدولية، الحقوقية والإنسانية، بما يكفي لرفع ملفاته إلى المحكمة الجنائية الدولية من جهة، وإحراج الفيتو المزدوج ( الروسي والصيني)، أو تجريده من أية فاعلية في مجلس الأمن من جهة أخرى.
هكذا يكون النظام السوري، الذي تنكر لكل الفرص السابقة، قد تلقى ضربة مزدوجة ومنسقة، لم يستطع معها إلغاء العالم العربي عن الخريطة، كما سبق لرئيس الدبلوماسية السورية، وليد المعلم، أن ألغى أوروبا عنها. وفي نفس الوقت عجز أن يبتلع مبادرة، لو طبقها لخرج ملايين السوريين إلى الشوارع. فما كان منه إلا الفرار إلى الأمام، عبر المزيد من القتل الوحشي والدموية، والإعلان عن استعداده لخوض المعركة حتى النهاية، بينما تواصل نُظُم العقوبات، الحقوقية والاقتصادية، وهواجس التدخل الدولي، مطاردته في كل محفل بلا هوادة.
الحقيقة أن مبادرة الجامعة، التي ظهرت بشكل مفاجئ، اعترفت بطائفية النظام وسط موجة، لم تتوقف، من التحذيرات الدولية والعربية وحتى السورية الرسمية، من مغبة انزلاق البلاد إلى حرب أهلية. أما وجه الاعتراف فتمثل بدعوة الدول العربية إلى سحب سفرائها من دمشق. وهو إجراء سيدفع بالنظام السوري إلى المبادرة، طوعا أو كرها، إلى سحب سفرائه من الدول العربية، أو انتظار إغلاق سفاراته، كما سبق وفعل المجلس الانتقالي الليبي، كخطوة أولى على طريق الاعتراف بالمجلس الوطني السوري. ولا ريب أن هذا الإجراء ما كانت لتتخذه الجامعة، ومن ورائها الدول العربية، لولا علمها بكون الغالبية الساحقة من السفراء السوريين، هم في الحقيقة، ضباط أمن، ينتمون إلى الطائفة العلوية، ممن حظيوا بمناصبهم كنوع من التكريم، لقاء ما قدموه من خدمات تاريخية للنظام، أو من أولئك الذين يتم إبعادهم عن واجهة النظام في الداخل، خاصة لمن بلغ منهم حدا من التطرف والإجرام والفضائح ما لم يستطع النظام تبريره قبل الثورة. ولعله من المثير التذكير بالفارق بين انهيار السلك الدبلوماسي الليبي في الأسابيع الأولى من الثورة، بينما لم تسجل حالة انسحاب واحدة في السلك الدبلوماسي السوري.
ثانيا: النظام يساوم في حمص
في 17/11/2011 أدلى رئيس المجلس الوطني السوري، برهان غليون، بتصريح حمّل فيها النظام المسؤولية، عما أسماه بـ : « الشحن الطائفي بين فئة من المجتمع ضد فئة أخرى». وطالب، في بيان له، جميع أبناء الشعب السوري إلى: « التوقف القطعي عن هذه الأعمال المدمرة ونبذ روح الفرقة والانقسام والعودة إلى روح الأخوة والوطنية»!! ولا شك أن التصريح يبدو، للوهلة الأولى، بريئا ولا غبار عليه، بما أنه يحرص على تماسك المجتمع ووحدة الهدف. لكنه قوبل شعبيا باستنكار وتهكم شديدين، في أول جمعة لاحقة، من أولئك الذين سبق لهم ورفعوا لافتات مساندة كتب عليها: « المجلس الوطني يمثلني 7/10/2011»!!! أما لماذا هذا التناقض؟ فلأن الخطاب الإعلامي والسياسي للمجلس بني على احتياجاته وبيئة عمله وليس على حقائق الواقع ومرارته.
منذ اليوم الأول لوقائع الثورة السورية، لم يكن أداء النظام في الدفاع عن نفسه ليخرج عن المنطق الطائفي، ولا بمقدار ذرة. والعجيب أنه لم يجد أدنى حرج في أدائه، بقدر ما غالى في الانحياز، لأبشع الممارسات الطائفية بحق المجتمع السوري. فالأداء طائفي بامتياز، سواء في مستوى المواجهات اليومية، وطرق القتل والاعتقال والخطف والتعذيب والاغتصاب والسلب والنهب والاعتداء ... أو في مستوى المنظومة الأخلاقية، التي حفلت باستعمال أقبح العبارات والسباب والشتائم والممارسات البذيئة والمنكرَة، حتى تلك التي وردت على لسان المسؤولين والدبلوماسيين، ناهيك عن فحش وإجرام رجال الأمن والشبيحة والفرقة الرابعة، أو في مستوى الاعتقاد الذي تجلى في عدة صيغ كفرية، كانتهاك حرمة المساجد واستهدافها أو الدفاع عن ألوهية الرئيس السوري والتطاول على الله عز وجل، أو في مستوى تحالفاته مع الشيعة في لبنان وإيران والعراق، أو في المستوى الإعلامي، الذي تصدرته القنوات الشيعية وأبواقها المدافعة عما تراه النظام المعادي لأمريكا و « إسرائيل».
النظام في سوريا طائفي، وليس عائلي، ولا فردي، ولا هو مجرد عصابة تحكم .. بل طائفة. ولا شك أن الحديث عن بنية النظام الطائفي في سوريا، متشعب بصورة مرعبة. ومع أن الطائفة العلوية نكبت بهذا النظام، إلا أنها تورطت في جرائمه، إلى الحد الذي غدت فيه، كما لو أنها، منقادة إلى حتفها، عاجلا أم آجلا. هذا لأنها ربطت مصيرها بمصير النظام ذاته. ومنذ ما قبل زيارة السفير الأمريكي (7/7/2011) لمدينة حماة بقليل، اعتقد الكثير أن المدينة ستتعرض لمذبحة ثانية بين لحظة وأخرى. والحق أنها واجهتها إلى حد كبير. لكن المدينة التي استهدفت في الصميم، أكثر من حماة، ولمّا تزل، كانت حمص، باعتبارها مركز الحرب الطائفية الشرسة، التي يخوضها النظام ضد سكان المدينة بشكل خاص، وباقي أنحاء سوريا بشكل عام.
لا شك أن الكثير من غير السوريين خاصة، وقفوا حائرين إزاء الهجمة الوحشية الشرسة، التي تستهدف حمص وأحيائها، كحي بابا عمرو وبابا السباع وغيرها، أو إزاء كثافة حركات الانشقاق في الجيش، فضلا عن المواجهات الضارية مع قوات النظام وأجهزته الأمنية. كما تساءلوا عن الخلفية، التي تقف وراء حدة التصريحات العربية والدولية، وحتى السورية الرسمية، وهي تحذر من حرب أهلية وشيكة الوقوع، أو تلك التي تراها واقعة فعلا في المنطقة، أو تلك التي ترجح بشدة احتمال وقوعها. فما الذي يجيب على مثل هذه التساؤلات؟
منذ وصول الطائفة إلى الحكم بدأ النظام بإعداد حمص لتكون عاصمة للطائفة وملاذها الأخير، في صيغة دولة مستقلة أو كيان ذاتي، بحيث تبقى الطائفة في الواجهة الاجتماعية والسياسية، وللحيلولة دون تعرضها لخطر التهميش والازدراء وحتى الإبادة. لذا فقد بدأت عملية الاختراق الديمغرافي للمدينة مبكرا، حتى وصلت أعداد العلويين فيها إلى ما يزيد على مأئتي ألف نسمة. لكن مع تفجر الثورة، وشعور النظام بالخطر الماحق الذي يتهدده، بدأ يحث الخطى نحو إنجاز مشروع « الملاذ المنشود»، بحيث يشمل الجزء الغربي من المدينة، بالإضافة إلى المناطق التاريخية للطائفة، في مدن بانياس وطرطوس واللاذقية وصولا إلى حلب. وتبعا لذلك فقد تم فتح باب التطوع للطائفة في الفرقة الرابعة، على وجه الخصوص، إلى أن تضاعفت أعدادها، لتصل إلى نحو مائة ألف، زيادة على استقطاب بعض الاثنيات والطوائف الصغيرة، والتحالف معها، كالطائفة المرشدية، إحدى أفخاذ الطائفة العلوية، وسليلة سليمان المرشد، عميل فرنسا الذي أعدم سنة 1949. وبحسب المعلومات المتوفرة فقد تمكن النظام من حشد قرابة المليون فرد.
هذا المخطط يؤشر على أن النظام نفسه بات مقتنعا باستحالة استمراره. لكنه ليس مقتنعا بعد بانزواء الطائفة عن الحكم أو الحياة السياسية أو تأمينها. إذ أن أكثر ما يصيب النظام بالهستيريا هو المساس بهويته الطائفية أو مكانة الطائفة. ففي مقابلة مشتركة مع وكالة « فرانس برس» وصحيفة « لوموند – الفرنسية - 14/11/2011» كان عم الرئيس المنفي، رفعت الأسد، بالغ الصراحة حين قال بأن: « النظام السوري مستعد للرحيل، ولكنه يريد ضمانات ليس فقط لأعضائه بل أيضًا ضمانات بأن لا تندلع حرب أهلية بعد رحيله». ولعله ذهب أبعد من ذلك، فيما يتصل بالاحتفاظ في السلطة أو بجزء منها كضمانة حاسمة لمستقبل الطائفة، حين قال: « الحل يكمن في أن تضمن الدول العربية لبشار الأسد سلامته كي يتمكن من الاستقالة وتسليم السلطة لشخص لديه دعم مالي ويؤمن استمرارية جماعة بشار بعد استقالته، يجب أن يكون شخصًا من عائلته: أنا أو سواي».
هذه اللغة من الحل، تجد صداها التاريخي، في الدور الذي تورطت به الطائفة، على مدار عقود طويلة، كفاعل استراتيجي مساند للنظام في جرائمه، وهو ما جعلها أسيرة لـ « فوبيا الانتقام»، كلما شعرت أنها تتعرض لتهديد محلي بإزاحتها عن الحكم. وهي مشاعر تغذت على الاستيطان في شتى مؤسسات الدولة، ومناحي الحياة الاجتماعية، حتى باتت تتصرف كصاحبة امتياز وليس كإحدى مكونات المجتمع.
لذا فإن ما يجري في حمص ليس سوى ورقة للتفاوض، على امتيازات الرحيل عن السلطة، أو التهديد بالتقسيم، وهو ما قد لا يعارضه أحد. وهذا يعني أن السؤال الحيوي: « ما البديل عن النظام؟» ما زال يوفر له الكثير من « المراوغة» و « الحصانة». فهو سؤال إيراني، وسؤال عربي، وسؤال إسرائيلي، وسؤال أوروبي، وسؤال أمريكي، وسؤال تركي، وسؤال طائفي!!! فإنْ لم يكن ثمة بديل يحفظ توازن المنطقة واستقرارها، ومصالح جميع الأطراف فيها، بما في ذلك الطائفة العلوية، فلا يبدو أن النظام آبه لأية إجراءات أو تحركات دولية أو إقليمية ما لم يوازيها استخداما صريحا للقوة المسلحة أو صفقة ما تخرجه من السلطة.
ثالثا: منع عسكرة الثورة
لا شك أن وحشية النظام، لم تترك أقل القليل من الخيارات في التعامل معه. فلا هو قبل بسلمية الاحتجاجات، ولا هو قبل بالمبادرات، ولا بما أتيح له من فرص سياسية، كانت في متناول يده منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة. وفي المقابل، اتجه إلى استعمال القوة بأوحش صورها، حتى ضد الأطفال، الذين تَبَيَّن أنهم بلا حصانة، منذ اللحظة الأولى. ومع مضي الوقت لم يعد ثمة أحد في البلاد يأمن على نفسه أو جسده من أن يتعرض للتقطيع أو السلخ أو الحرق أو البتر أو شجّ الرؤوس أو الخطف أو الاغتصاب. بل أن جنود النظام صاروا هدفا للقتل والتمثيل ما لم ينصاعوا لأوامر لا تبقي من آدميتهم إلا أشرّ الصفات. باختصار ما من حل مع النظام، وما من أمن في ظله. فما العمل إذن؟
الحل أن ينظم الناس أنفسهم ويدافعوا عن حياتهم وممتلكاتهم. لكن الشعور بقوة البطش، جعل البعض يلجأ إلى الحل الأسهل، عبر الدعوة إلى فرض « الحظر الجوي»، أملا في تعطيل الآلة العسكرية والجوية للنظام. لكن المؤيدين للحظر حشروا المحذرين منه في خانة النظام، ولم يتوانوا عن وصفهم بأبشع النعوت، التي وصلت إلى حد التخوين!!! كما أنهم وقفوا ضد عسكرة الثورة، بكل ما أوتوا من قوة، وصار المحلَّل على بلابل « الناتو» محرم على المقاومين والمجاهدين من كل جانب!!! أما دعاة « الحماية الدولية» فهم أقرب إلى دعاة الحظر، لولا أنهم يتلاعبون بالمصطلحات، في حين أن المضمون والمحصلة واحدة.
العجيب أن المؤيدين للحظر، لا يأبهون قط لتطبيقاته وأهدافه، أو لِمَا يمكن أن يسفر عنه من تدمير للبلاد، أو قتل للعباد. كما لا يبدو أنهم يحسبون أدنى حساب للأسباب التي امتنعت بموجبها كافة القوى السياسية، الدولية والعربية والإقليمية، عن اللجوء إلى الخيار العسكري ضد النظام. فكل ما يؤمنون به لا يتجاوز الرغبة بفرض الحظر الجوي، أيا كانت الظروف!!! شرعية أو غير شرعية، أخلاقية أو مشينة، مجدية أو مكلفة. وبطبيعة الحال لم يطرح هؤلاء السؤال التالي، ولا هم راغبون أصلا في طرحه: هل أولويات دعاة الحظر ومصالحهم ورغباتهم وطموحاتهم هي ذات أولويات « الناتو» ومصالحه و طموحاته؟ أو هل يمكن الوصول إلى الحظر الجوي دون تقديم إجابات عن سؤال « البديل»؟
الأعجب أن المواجهات الطاحنة في حمص أثبتت إمكانية عسكرة الثورة، وجدواها في إيقاع أكبر الخسائر في النظام. بل أن الجيش الحر نفسه، انتقل، في وقت قصير، من حالة الدفاع عن النفس، واستقبال المنشقين من الجيش، إلى المبادرة في شن الهجمات الشرسة، التي ألحقت خسائر ملحوظة في قوات النظام، مع تأكيد قائده، العقيد رياض الأسعد، في 5/11/2011، أن الجيش لن يوقف هجماته ضد القوات النظامية. وهذا يعني أن المجتمع السوري مهيأ للعسكرة، لاسيما وأنه لم يتوانى عن توفير الدعم المادي والمعنوي، والحماية للمنشقين. لكن المجلس الوطني لا يرغب بعسكرة الثورة، بالرغم من أنها واقعة كليا في حمص وإدلب، وجزئيا في مناطق أخرى مثل حماة ودرعا وريف دمشق. فلماذا؟ وما الذي يمنع اللجوء إلى خيار العسكرة بينما يسمح بالدعوة إلى طلب « الحماية الدولية» أو فرض « الحظر الجوي»؟
الحقيقة أن رفض العسكرة المحلية، خيار جاء من الخارج وليس من الداخل. فـ « المركز» الذي يعاني من النموذج الليبي، المكون من عشرات المجموعات المسلحة، والرافضة لإلقاء السلاح حتى الآن، يرغب في تجنب ما وقع به من أخطاء، خلال الحملة العسكرية على نظام القذافي الهالك. أما الفرنسيون الذين يتصدرون الدعوة إلى إقامة « ممرات آمنة»، قد تمهد لتدخل عسكري ما، في صورة إقامة منطقة عازلة تقودها تركيا، يحرصون، اليوم، كل الحرص على منع عسكرة الثورة. والمعلومات المتوفرة تؤكد أن الجيش الحر هو المستهدف الأول من التحركات الفرنسية، لاسيما بعد هجومه المباغت على مقر الاستخبارات الجوية، في بلدة حرستا في محافظة ريف دمشق، والذي أوقع عشرات القتلى والجرحى ( 17/11/2011).
ففي أعقاب لقائه بوزير الخارجية الفرنسية، ألن جوبيه (23/11/2011)، قال رئيس المجلس الوطني السوري، برهان غليون،: « نأمل أن ( يتحرك) هذا الجيش في المهمات الدفاعية لحماية الجنود الذين غادروا الجيش والمتظاهرين السلميين. لكن من دون أعمال هجومية ضد مواقع الجيش النظامي». وما هي إلا بضعة أيام حتى التقى وفد من المجلس، برئاسة غليون، (28/11/2011)، قيادة الجيش الحر، على الأرجح في استانبول. وفي بيان له نشر على موقعه، في « الفيسبوك»، قال المجلس بأن هدف اللقاء كان: « تعزيز آليات التواصل والتنسيق بين المجلس الوطني والجيش الحرّ بما يشكل قوة دعم إضافية للثورة السورية». ومن جهتها أوضحت « وكالة يونايتد برس انترناشونال» أن الجانبين اتفقا على: « تشكيل لجنة مشتركة من الجانبين تعنى بالتنسيق في مسائل الحراك الميداني والإغاثة والإعلام والعلاقات السياسية». أما هذا التنسيق المفاجئ فيأتي، بحسب غليون، « لضمان سلامة الأداء الميداني وانسجامه مع الجهد السياسي القائم على المستويين الإقليمي والدولي». وفي المقابل استجاب العقيد رياض الأسعد لطلب المجلس بالقول أن: « الجيش الحرّ يدعم المجلس الوطني السوري ويعتبره الإطار الوطني الجامع للسوريين وملتزم بأهدافه وبرنامجه السياسي القائم على سلمية الثورة ...».
إذن عسكرة الثورة مرفوضة، محليا ودوليا. فإذا كان « المركز» لا يرى بدا من البحث عن بديل للنظام، إلا أنه حريص على الاحتفاظ بالإرث الأمني له. وهو إرث؛ جرد الشعب السوري من امتلاك أدوات القوة، طوال العقود الماضية، ولا شك أن « المركز» حريص على مثل هذا الامتياز، حتى لا تنفلت الأمور في المنطقة، خاصة أن « إسرائيل» في الواجهة، وأمنها مقدَّم على ما سواها، فهي الحليف الاستراتيجي الوحيد للولايات المتحدة، كما صرح بذلك الرئيس الأمريكي مؤخرا (1/12/2011). وبالتالي فإن أي تدخل ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار، قبل أي اعتبار آخر، الحيلولة دون ظهور المزيد من القوى المسلحة، أو امتلاك القوى للسلاح، أو المبادرة في استعماله ضد النظام، كما حصل في ليبيا. وإلا فقد تُلحق العسكرة ضررا بالغا في تطلعات « المركز» الساعي، بكل طاقاته، إلى المحافظة على: (1) التوازن القائم، و (2) الاستقرار، أو (3) إيجاد بديل يقبل بـ « إسرائيل»، لا أن يعارضها، أو يتسبب بشن حرب عليها.
أخيرا
يبقى القول أن الاستعانة بمقاتلين ليبيين، للمساعدة في إزاحة النظام السوري كما تردد في الآونة الأخيرة، إذا لزمت الضرورة، سيكون أهون الشرّين، بالنسبة لـ « المركز». فهؤلاء يمكن إعادتهم إلى بلادهم، لكن اكتساب السوريين للخبرة العسكرية، وخوض المنازلات، لن يكون خيارا مضمون العواقب لأي طرف. فالمنطقة تعج بالسلاح، وإذا ما دخلت سوريا على خط التسلح الشعبي أو المنظم، إلى جانب لبنان والعراق وفلسطين، فمن المؤكد أن إسرائيل لن تفلت من مخرجات العسكرة، سواء على مستوى المنطقة، أو على مستوى المصالح الغربية. ومهما يكن الأمر، فقد فات أوان التصريحات العنترية، وغدت المنطقة، بعد موت ملك ملوك أفريقيا، مهيأة لموت إله آخر ... والمؤكد أن أحدا لن يجرؤ على تعزية « إسرائيل» بملك ملوكها. فهذا زمن سقوط الآلهة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: