يتصور أعداء الثورة أنهم استطاعوا ترويض المد الثوري بل هم يعتقدون أن الثورة في جزر لأن مناوراتهم بلغت ذروة مدها. لكنهم مخطئون مطلق الخطأ ولله الحمد والمنة. وما أريد بيانه في هذه المحاولة هو الحاجة إلى قصبتين أخريين تستكملان ثمرات القصبات الثلاث رغم ما يبدو للكثير من فشل في تحقيق أهدافها المعلنة وغلبة الوجه السلبي عليها:
فليس من شك في أن ثمرة القصبة الأولى هي الإطاحة بالحكومة الأولى. وهذا فعل سلبي هدم شيئا ولم يبن بديلا. لكنها أسست جلس حماية الثورة رغم أنه لم يؤت أكله لأن البديل منه أعني الهيئة مثل أكبر عوائق تحقيق أهداف الثورة.
وليس من شك في أن ثمرة القصبة الثانية هي الإطاحة بالحكومة الثانية. وهذا أيضا فعل سلبي هدم شيئا ولم يبن بديلا. لكنها فضحت الحزبين اللذين يزعمان المعارضة ويدعمان بقايا النظام وأخرجتهما من تشكيلة الحكومة الثالثة. لكن الوعد بالمطلوب أعني المجلس التأسيسي أصبح مطاطا بل إن تشكيلة المجلس المنتظر قد تخرج من سلطان الشعب لأنها أصبحت بيد حكومة وهيئة معاديتين للثورة بكل وضوح.
وأخيرا فلعل مطالب القصبة الثالثة وي أعسر المطالب قد باءت جميعا بالفشل لأن تفريق الشابات والشبان المشاركين فيها كان من جنس تفريق القصبة الثانية بل إن بطش الداخلية والمليشيات عاد بتأييد صريح من الحكومة بل وبإعلان واضح للحرب على الثورة والثوار وكل من يمكن أن يكون ممثلا لثقل التمثيل الشعبي من بين الأحزاب.
لكني مع ذلك أرى الأمور بخلاف هذه المظاهر كلها رغم ما دعوت إليه سابقا من ضرورة التجند والشروع في الفعل الإيجابي في القصبتين المقبلتين لأني اعتقد أننا ما زلنا بحاجة إلى جولتين أخريين حتى يكتمل ما أصفه هنا شروطا لتحقيق أهداف الثورة. فكيف ذلك وما القصد برؤية الأمور بعين أخرى؟ وهنا لا بد من إبراز أمرين مهمين جدا:
فأما أولهما فيتعلق بكشف حساب (بيلان) نقيس به ثمرات القصبات الثلاث ثمراتها الموجبة والتي يغفلها أعداء الثورة الذين يظنون أنها فاشلة
وأما ثانيهما فنحدد به مطلوب القصبتين الأخريين اللذين لا بد منهما لاستكمال مسار الثورة والنجاح في موعد 23 اكتوبر.
لم يذهب جهاد الثوار واجتهادهم في القصبات الثلاث السابقة سدى بل هو حقق الكثير كما سنرى. لكن العمل المطلوب ما زال بحاجة إلى قصبتين أخريين يقتضيهما ما ننسبه إلى القصبات الثلاث من ثمرات موجبة. ولنبدأ ببيان ما حققته القصبات الثلاث لنمر إلى المطلوب من القصبتين الأخريين.
منجزات القصبات الثلاث
كانت القصبات الثلاث العوض الضروري لنقيصتين شابتا الثورة التونسية التي كان من معيقاتها أنها أتت أكلها الرمزي بسرعة جعل الانتقال منه إلى أكلها الفعلي متعسرا بعض التعسر:
فأما النقيصة الأولى فهي ما يزعم لها من خلو من الفكر المتجاوز للمطلبية المباشرة ومن القيادة ذات الأفق التاريخي الممتد في الماضي والمستقبل بحيث تكون قياداتها ضاربة العروق في ماضيها وباسقة الأفنان في مستقبلها.
وأما النقيصة الثانية فهي ما يزعم لها من إجماع شعبي ليس فيه فرز بين أصدقائها وأعدائها زعما بأن الشعب كله قد شارك فيها ومن ثم فهي لا تعبر عن فرز واضح بين من مصلحته نجاحها ومن مصلحته فشلها.
دعواي في هذه المحاولة هي القصبات الثلاث كانت الامتحان الضروري لسد هاتين الثغرتين رغم أن السد لم ندرك بعد دلالته وأبعاده لفرط خفائه إلا على ذوي البصيرة المؤمنة بقيم الأمة والمواصلة للاجتهاد والجهاد السلمي في سبيل تحقيق أهداف الثورة:
1-فالقصبة الأولى بدأت تبرز قيادات ممثلة للثوار بوجهيهم الشعبي الحقيقي أعني ممثلي المطالب الثورية بوجهي التعبير عنها استنادا إلى قيم الشعب الداعية إلى الأصالة المتصالحة مع الحداثة (الإسلاميين) وإلى قيمه الداعية إلى الحداثة غير المعادية للأصالة. فالتقى اليساري المتصالح مع قيم شعبه بالمسلم المتصالح مع قيم الحداثة. لكن هذا البروز لم يكتمل لعلتين أولاهما فضحته القصبة الثانية وعلامته اعتصام القبة والثانية برهنت عليها القصبة الثالثة وعلامته مظاهرة الأحزاب المعادية للثورة.
والقصبة الثانية فضحت من تخلوا عما برز في القصبة الأولى بدل الانضمام إليه وفضلوا الحلف مع بقايا النظام تبريرا بعديا لإخفاء الطمع البين بالخوف على المصلحة الوطنية العليا ومن المجهول وهم في الحقيقة فعلوا ذلك خوفا من عودة من إذا عاد لم يبق لهم وجود في الساحة السياسية إلا بحجمهم الحقيقي الذي لا يكاد يتجاوز الصفر.
والقصبة الثالثة أتمت الفرز: فالقوى التي خرجت للتنديد بالمشاركين فيها هم الأحزاب التي فرخت عن التجمع وحلفائه ممن كانوا يدعون الانتساب إلى صف الثوار بل وممن عملوا كل ما بوسعهم لفرض مناورات الهيئة والحكومة. وبذلك فقد تم فرز الصفين المتقابلين: صف الثوار وصف أعدائها. وبذلك فقد اكتمل الفرز البين فصار الجميع يعمل من مع الثورة ومن ضدها وسقطت خرافة الثورة شارك فيها الجميع: لا معنى لثورة ليس فيها صف معاد لها لأنها تكون حينئذ ثورة على لا شيء.
مطلوب القصبتين الضروريتين لوضع الثورة في مسارها الصحيح
ما المنتظر من القصبتين المقبلتين؟ إنه شروط الحسم لمنع الانتقال من الثورة السلمية إلى الثورة الدموية أعني إفشال الطريق الوحيدة التي سيلجأ إليها أعداء الثورة بعد اليأس من نجاح مؤامراتهم وألاعيبهم. وهم فعلا بلغوا درجة اليأس بدليل العودة إلى ممارسات ابن علي في استعمال الإرهاب الرمزي (الإعلام) والمادي (البوليس). ولن نتمكن من حسم الموقف الحائل دون هذا المنزلق الخطير الذي يسعى إليه أعداء الثورة إلا بالشروط التي تقتضي الإقدام على أنجاز القصبتين الأخريين (طبعا المفهوم رمز وليس حقيقة) حتى ندخل بصورة نهائية عهد الديموقراطية التي يكون فيها الشعب سيد مصيره.
فأما القصبة الرابعة فهدفها الحسم الرسمي للفرز السياسي مع الثورة أو ضدها والتخلي النهائي عن دعوى الوفاق الغائم الذي غدر به أعداء الثورة لاستبداله بوفاق محدد أو عقد بين يفصل بين ما للثورة وما عليها. وينبغي أن تكون قصبة رسمية أعني بطلب رسمي من الحكومة والداخلية لكنها ينبغي أنه تقع حتى لو رفضتاها. وشرط النجاح هو ألا على الشباب غير المنظم بل لا بد أن يشارك فيها ائتلاف مكون من كل الأحزاب التي تريد تصحيح مسار الثورة سلميا وبمشاركة كل الشخصيات الوطنية ذات الثقل الرمزي في أي نشاط من أنشطة الجماعية سياسة كانت أو تربوية أو ثقافية أو اقتصادية.
وأما القصبة الأخيرة فهي التي ينبغي أن يخرج منها أحد الحلين التاليين بأداتي فعل صريح وعلني وبقوة ضغط سلمية مهما فعل الأمن والمليشيات لجعلها غير سلمية. ينبغي أن نكون غانديين إلى ما لا نهاية لأن هدف العدو في هذه الحالة هو نقل المعركة من وجهها السلمي إلى ما يمكنه من تخريف شبيه بتخريف القدافي أعني دعوى محاربة العنف والإرهاب:
1-فإما أن تقبل الحكومة الحالية خطة لحماية الثورة فتصلح من ثم كل ما قامت به الهيئة المشؤومة وكذلك كل ما قررته هي دون أن يكون منتسبا إلى تسيير الأعمال المؤقتة لحكومة مؤقتة. وعندئذ نبقي علها فتصبح حكومة مصالحة وطنية ينضم إليها حتى الأحزاب التي لم تشارك في القصبة الرابعة ويكون برنامجها هو الخطة التي حددتها هذه القوى المدافعة عن الثورة.
أو أن الحكومة المؤقتة تستقيل فتعين هذه الأحزاب حكومة ممثلة لكل من انضم إلى صف الثورة بمن يقع عليهم الإجماع من رموز الساحة الوطنية دون أن يكونوا منتسبين إلى أي حزب حتى يكونوا في خدمة الجماعة دون انحياز حزبي.
وفي كل الحالات فإن الجيش ينبغي أن يبقى محايدا ليقوم بوظيفته الوحيدة في أي بلد متحضر: حماية الوطن والسلم المدنية بمنع المفسدين وأعداء الثورة من السعي لاستعادة سلطان الاستبداد والفساد والإبقاء على حكومة الأقلية التي من شروط حكمها أن تعتمد العنف والفساد.
أما البرنامج الذي يقترحه هذا الائتلاف المدافع عن الثورة على الحكومة المؤقتة فهو الأعداد للانتخابات وإخراجها من أيدي اللجنة المستقلة عن الشعب والمستقيلة أمام التدخلات الأجنبية. وهذا البرنامج يسير التحديد لأنه هو عينه مطلوب الثوار: إنه توفير شروط الانتخابات الحرة والنزيهة لمجلس تأسيسي هدفه وضع دستور بنوده هي مطالب الثوار أعني تحرير الشعب مما ثار عليه أي الاستبداد والفساد. وإذن فهذه المطالب ليست بنت اليوم بل هي عين ما يحدده أي إنسان يؤمن بأن الإنسان لا يكون حرا إلا إذا كان رئيسا لا معبود له إلا الله أعني راعيا ورعية للقانون كما هي حقيقته. فرئاسة الإنسان الطبيعية حسب ابن خلدون تفترض أن يكون كل دستور عقدا اجتماعيا خاضعا للشروط التالية وهو عقد يمثل الدفاع عنه معيار الفرز بين أصدقاء الثورة وأعدائها:
1-أن يكون سيد نفسه في ما هو فعلي من صورة العمران ومن مادته أعنيالديموقراطية السياسية والديموقراطية الاقتصادية. فالحكم ينبغي أن تكون فيه السيادة للشعب بأبعاد السيادة التالية: 1-التشريع 2-والتنفيذ 3-وضمان استقلال القضاء 4-وحماية استقلال الإعلام 5-وأخيرا جعل حرية الرأي والمعتقد والتعبير شرط كل حياة جماعية لمواطنين أحرار. ولما كان شرط حرية الإرادة القدرة على الاستقلال المادي ولا استقلال مادي من دون اقتصاد قوي زمامه بيد الشعب ممثلا بأرباب العمل والعمال المخلصين للوطن فإن الاستقلال الاقتصادي شرط الديموقراطية الفعلية: ذلك أنه من كان تابعا في رزقه لا يمكن أن يكون حرا في خياراته السياسية.
2-أن يكون سيد نفسه في ما هو رمزي من صورة العمران ومن مادته أعنيالديموقراطية التربوية والثقافة. فتمكين كل المواطنين بجنسيهم وبكل فئاتهم العمرية من التعلم والتكون الحر الأصلي أو التدارك التأهيلي لا يكون حرا ما لم يكن بحسب خياراتهم ومؤهلاتهم وقدراتهم دون فرض لمسار تربوي واحد إلا في أمرين لا بد منهما في أي نظام تربوي: 1-ما هو مشترك من أدوات التكوين العلمي والفني 2-أو ما هو مشترك من قيم للجماعة. لكن النوع الثاني من المشتركات مختلف عن النوع الأول. فالمشتركات القيمية اختيارية حتما وقابلة للتعدد في نفس الجماعة. لكن المشتركات الأداتية والمنهجية كونية ولا تقبل الاختلاف إلا الطفيف: اللغة والمنطق والرياضايات والتقنيات إلخ..
وإذن فشرط التربية الديموقراطية هي أن يكون المشترك القيمي خيارا حرا للأفراد رغم أنه واقعة تاريخية لا خيار فيها بالنسبة إلى الجماعة ككل: فالجماعة التونسية عربية إسلامية وهو أمر يحدد التاريخ كماض واقع وتحدده الأغلبية كمستقبل مختار لكن أي تونسي يمكنه أن يختار أن يكون فرنسيا وغير مسلم ويبقى مع ذلك حائزا على حقوق المواطن ومطالبا بواجباته. ذلك أن مقومات التكوين من حيث أدواته العلمية والفنية كوني أما مكونات الخيارات القيمية فهي اختيارية بالنسبة إلى الأفراد لكونها خيارا عقديا مطلق الحرية بخلاف ما هي عليه بالنسبة إلى الجماعات حيث تكون معطى تاريخي هو شرط وجود الجماعة. ولا يمكن لمثل هذه التربية أن تتحقق من دون ثقافة الحرية والتعدد والتنوع وهي جميعا معدة آيات دالة على الحكمة بنص القرآن الصريح.
-----------------
وقع تحوير العنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: