إنها الفتنة يا مولاي:
رسالة إلى الشرفاء من مثقفي تونس
عبد الحق الزموري - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9762 Abduzam55@maktoob.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
من بركات الثورات عادة ً افتتاحُ مسيرة طويلةٍ تُجَلِّي فيها المستور وتصهر القوى والأفكار والأنفس الموجودة في الساحة، فيخرجَ الحيُّ من الميت، ويَدمَغُ الحقُّ الباطلَ، وهو ما اصطلحنا على تسميته في الأدبيات السياسية بـ"القطع مع الماضي"، و"تفكيك منظومة الاستبداد"، وافتتاح عهد تفرض فيه الثورة مفاهيم جديدة وهياكل جديدة وشخوص جديدة...
وككل المسيرات الثورية أيضا، كان لا بد لتلك المسيرة أن تعرف انتفاضًا للبُنى القديمة المتكلّسة للدفاع عن مصالحها / وجودها، هياكل ومؤسسات وقيم ومفاهيم وطرائق تفكير وشبكات وفاعلين اجتماعيين وسياسيين وأمنيين. فنظام الاستبداد منظومة سرطانية متكاملة، تفشَّتْ الرشوة والفساد في أذرعها السياسية والأمنية والقضائية والإعلامية والتعليمية والإدارية والمالية والصحية وغيرها، ولن تقبل – في منطق السنن التاريخية – بالتسليم بحصول ثورة والخضوع لاستحقاقاتها ما لم تنهزم فعليا على الأرض، وما لم تنتصر إرادةُ الثائرين في فرض قواعد جديدة للعبة.
نحن الآن في مواجهة ارتدادات الثورة المضادة، وستأخذ هذه الأخيرة أَوْجُهًا عديدة وألوانا مختلفة، ولكنها ستعتمد في كل معاركها سلاح الفتنة كأداة ناجعة في تحييد الثورة عن مساراتها الحقيقية ومآلاتها المرجوة، ولن تكون فتنة اللائكيين والسلفيين الدينيين إلا إحدى نصالها.
حادثة أفريك آرت والفيلم الفضيحة، وتداعيات التصريحات "النارية" وغير الأخلاقية لمحمد الطالبي، وما سبق وأعقب ذلك من ولوغ عديد الجهات المعلومة وغير المعلومة في دم الفتنة التي ولّدها أمرٌ مرتقبٌ ومتناغم مع طبيعة الصراع نفسه، زاد كل ذلك من قناعتنا أن مشروعا فِـتْنَوِيًا كبيرا يُراد لتونس في مرحلة "اللاإستقرار"، أو ما نطلق عليه بمرحلة الانتقال الديمقراطي، مشروعا يمكن أن يعبَّرَ عنه من خلال عناوين عدة، وتُحَركُهُ أصابع كُثر. قد تأخذ شكل التناحر القبلي والعشائري؛ وقد تتلبّس بلبوس العلمانية أو اللائيكية المضادة للدينية أو الإسلامية؛ كما قد تتسربل بلباس التحضّر والمدنية ضد الرجعية والجهوية والمناطقية ....الخ. ولا شك أن المطلوب من هذا المشروع تفتيت الرأسمال الرمزي الذي تكوّن من وحدة التونسيين وقدرتهم على العمل معا في قضايا كبيرة كإسقاط الدكتاتورية، والتضامن الطوعي والتلقائي الشامل مع مآسي وعذابات الشعوب المجاورة. كان هدف مشروع الفتنة أن لا يتحول ذلك الرأسمال الرمزي - وهو بصدد التشكل - إلى بُنًى في التفكير والنظر، وهياكل في السياسة والاقتصاد والثقافة، ومشاريع لمستقبل تونس والمنطقة.
كانت رؤوس الفتنة (الخارجية) قد اتخذت قرارا بأن لا يُسمَحَ للثورة التونسية بتحقيق أيٍ من شعاراتها الكبرى وطموحاتها المعلنة مهما كانت الوسائل المستعملة في ذلك المنع، ومهما كان حجم التضحية بالأصابع (المحلية) التي توقد نارها وتؤجج لهيبها وتحترق بآثارها.
لم يكن كل ذلك بالمستغرب بل كان منتظَرًا ومحسوبا، ولكن الغريب والمستهجن (ما يدعو لتدبّرٍ أعمق) أن يسارع بعض الذين نحسبهم من العقلاء، والحكماء (ولا نزكّي على الله أحدا) إلى "التموقع" في الفتنة، والإصرار على تقديم مراسيم الطاعة لها، وهم مع الأسف الشديد كُثرٌ من أبناء بلدي، بقطع النظر عن ألوان الطرابيش التي ينتشون بوضعها على رؤوسهم. وسأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، ومن باب الحرص لا غيره، ما ورد بقلم صديقين أعتز بصداقتهما، وأُكبر نضالاتهما ووقوفهما أمام كثير من انحرافات الواقع المرير، ولا أدّعي وقوفي معهما على نفس التخوم الفكرية والسياسية، هما الجامعي الرصين شكري المبخوت، والصحفي الشاب والمناضل سفيان الشورابي.
كتب المبخوت تدوينته في حموءة حادثة فلم نادية الفاني (وقعت الحادثة يوم الأحد 26 جوان) ونشرها على مدونته يوم الاثنين 27، كما صدرت مقالة الشورابي في جريدة الأخبار اللبنانية يوم الثلاثاء 28. ولعل تلك الحموءة هي التي جعلت الكتابة هنا فعلَ انخراطٍ لا فعْلَ تَدَبُّـرٍ، وانفعالا مُنْذِرٌ بقَرَفٍ لا تفكيكًا من ورائه سعي للحقيقة. فالمبخوت – وهو يصرّح منذ البداية أنه لم يشاهد الفلم ولم يحضر الحادثة – يعلن من وراء صياغاته وتركيباته اللغوية أنه يختار التموقع، حانيا على "الضحية" (الذين حضروا التظاهرة) حاملا بشراسة على "الجلاد"، "ضحية الأمس" (من يفترض أنهم هاجموا القاعة) الذي شبّهه بــ‘‘الندوب والدماميل التي كشفت عنها الثورة التونسيّة بعد أن أخفاها الاستبداد في السجون والمنافي وكمّم الأفواه التي تقولها’’ (وهو بالأكيد ليس ترحُّمًا على الزمن الذي كان الاستبداد فيه قادرا على تغييب تلك الدماميل من أمام عدسات الكاميرا الناقلة للصورة الجميلة لبلدنا للخارج). ولكن تموقع الشورابي كان أكثر مباشرية، ولم يكن فحسب انفعالا ولّدته الحموءة، وإن استعمل نفس "غلالة" الخطاب التحريضي ضد نفس الفئة التي اعتبرها المبخوت ندوبًا، حيث يقول متسائلا: ‘‘هل إنّ غزوة «سينما أفريكا آرت»، بروفة عن كيفية تعامل فئة جديدة صاعدة في تونس، مع الثقافة والفكر والإبداع مستقبلاً؟ لطالما كانت «سينما أفريقيا للفنون» ملجأً للمبدعين المستقلين في عهد بن علي’’.
ألسنا أمام انزلاقات خطيرة تلك التي يتورط فيها بعض مثقفينا، منساقين بوعي عند البعض، وبغفلة عند الآخرين، إلى خدمة مشروع فتنة كبير لا يكترث إن كان المتحرك فيه صاحب لحية كثّة وبُرقُعٍ عازلٍ أم صاحب شارب طويل ونهد عارٍ (لا تعني المقابلة ما توحي به لفظا).
صحيحٌ أن ردّ المبخوت على ما أثارته تدوينته من جدل عند بعض أصدقائه عَكَسَ برودةً في العقل التحليلي، حاول بموجبه مغادرة مربّع الاصطفاف "الحيواني" عندما يقول ‘‘لذلك نحتاج حقّا إلى نقد مزدوج للبؤس السلفيّ العاجز عن قول الآن وهنا إلاّ بلغة مستعارة من غياهب التاريخ وللبؤس الحداثيّ العاجز عن الذهاب إلى الإنسانيّ العميق لدى هؤلاء المقموعين المردّدين للقوالب المكرورة تكبيرا أو تكفيرا’’. ولكن الشورابي كان يستحضر وهو يكتب مقالته سيناريو كاملا لم يكن عَقْدُ التظاهرة تلك (وهو ينتمي إلى مجموعة لمّ الشمل المنظّمة لها) إلا بنده الأول، يليه البند الثاني: تدخل رئيس مجموعة "لمّ الشمل" برفقة ممثلة عن حزب آفاق تونس (أحد الأحزاب المتهمة بوراثة حزب التجمع المنحلّ) سويعات قليلة بعد الحدث في اجتماع للبرلمان الأوروبي منددا بحزب التحرير وأشباهه من الظلاميين، مستصرخا همم "التقدميين جدا" للمناصرة في تخليص تونس من تلك "الندوب والدماميل" !!!!! ألم يستعد الشورابي تلك الصرخة في آخر مقاله عندما كتب ‘‘يمكن القول إن هذا العمل التخريبي ضدّ مثقفين خلال اجتماع في الفضاء العام، (...) قد يكون إشارة إضافيّة إلى المنعطف الخطير الذي ستشهده تونس في المرحلة المقبلة’’.
إننا في حاجة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى أن يعيد الشرفاء من مثقفي تونس ونخبها تصويب البوصلة وجهتها الصحيحة تعريةً لمشاريع الفتنة التي تملأ الفضاء ودعما لاستحقاقات الثورة. فهل من مدّكر.
------------ عبد الحق الزموري
باحث
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: