قد أفهم الوضع الحرج لبعض الأحزاب الوطنية التي يمكن أن نعتبر بيت القصيد في مؤامرات أعداء الثورة هو محاولات استفزازها وتوريطها في ما يعدونه من فوضى ليسهل عليهم ضربها باسم الدفاع عن أهداف الثورة الحداثية وتأليب الرأي العام الداخلي والخارجي ضدها. لكني لا أفهم أمرين يحيراني حقا:
الأول هو تخاذل الحركات الشبابية عامة وقيادات جمعيات المجتمع المدني والنقابات بكل أصنافها أعني كل الذين أسهموا في الإطاحة برأس النظام. هل باتوا يقبلون بأن يكون دورهم مقتصرا على مساعدة إحدى المافيتين اللتين كانتا تتصارعان في النظام البائد مساعدتها للانتصار على الأخرى؟ أفيكون الثوار مجرد أداة في معركة كانوا فيها بهاليل الزفة لأنهم في حالة دوام ما نراه يجري منذ سقوط رأس النظام ليس لهم فيه ناقة ولا جمل. أفيكون الثوار واهمين إذ يدعون أنهم ثوار وأن الثورة هي ما قام به عجاويز النظام السابق ونخبه التي خانت قيم اليسار وساعدته في تزيين نظامه خلال عقدين ونيف ؟
الثاني هو سكوت الجيش الوطني الذي يدعي حماية الثورة. ألم يعد قائده في القصبة الأولى بأنه يضمن الثورة ويحميها من أعدائها الذين نراهم تكالبوا ليس عليها وحدها بل على كل شيء يقدسه هذا الشعب مجندين في ذلك الإعلام العميل لمردوخ وللمصالح الأجنبية وبعض المهابيل الذين يتصورون أنفسهم فلاسفة دين وحداثة وهم في الحقيقة خرافون وخرفون؟ ثم ألم يشع أنه قد امتنع عن تطبيق أوامر رئيس المافية التي رحلت؟ أفيكون الآن تابعا لرئيس المافية التي انتصرت فيأتمر بأوامره ؟ أم تراه يعتقد أن ما يجري هو لصالح الثورة رغم كل ما أُعد لتزييف إرادة الشعب وما طبق لقهره شبابه في خلال اعتصاماته السلمية؟
ولست بهذه الأسئلة أدعو الشباب لعمل شيء جديد ولا للخروج عن فلسفة التغيير السلمي مهما كان عنف ممثلي الثورة المضادة بل إني أرى أنه عليه أن يكمل ما شرع فيه إذا كان حقا قد ثار على ما يمثل النفي المطلق لشروط الكرامة الإنسانية أعني ما اعتبره ابن خلدون علة فقدان المسلمين معاني الإنسانية في عصور الانحطاط:
1-الاستبداد والظلم السياسيين
2-الفساد والظلم الاقتصاديين
3-التتفيه والتدجين التربويين
4-الاستلاب والتضييع الثقافيين
5-وأخيرا تهديم المرجعية الذاتية لسلالم القيم التي تتأسس عليها كل حضارة ذات قيام مستقل ترفض التبعية وتأبى الخضوع لقيم مفروضة عليها من مستعمر الأمس بواسطة من خانوا قيم الأمة وتاريخها لكونهم صاروا مستعمرين ذهنيا وروحيا ومعتبرين التبعية تحديثا وتقدما لمجرد أنها تحفظ لهم امتيازاتهم التي يوفرها لهم الاستبداد والفساد وتدجين الشعب واستلابهم الثقافي والروحي.
كما أني لا أدعو الجيش للقيام بدور سياسي في الدولة فيصبح هو الحاكم بيده الحل والربط أو يكون صاحب القول الفصل في تحديد أهداف الثورة بل إن ما أدعوه إليه هو ضمان أمن الثوار إذ يعبرون سلميا عن أهداف ثورتهم التي تحرر الشعب من علل فقدان إنسانيته وأن يساعدهم إن لزم الأمر في ردع الأجهزة القمعية التي تستعمل قوة الدولة بدون موجب شرعي بل للدفاع عن المافية التي تغلبت في الصراع على تركة نظام ابن علي أعين ما يراه الشباب الذي صبر كثيرا على هذه المناورات والمؤامرات يراه بالعين المجردة من خيانة لأهداف الثورة مضاعفة:
1-خيانة الهيئة التي تدعي تحقيق أهداف الثورة بتركيبتها التي يغلب عليها لون واحد يلغي شروط العمل التوافقي من أجل بناء تونس الثورة للجميع. فهي بما وضعته من قوانين تتعلق بنظام الانتخاب (القوائم والبواقي الكبرى) بما تقوم به من مناورات حول ما تدعيه من دفاع عن الحداثة التابعة تدفع بالبلد إلى عكس ما أرادت الثورة تحقيقه للإبقاء على دار لقمان على حالها.
2-تجبر الحكومة التي أعادت عمل الأجهزة القمعية رمزيا (الإعلام) وماديا (الداخلية) لاستئناف ممارسات تواصل عهد ابن علي ومليكته. فهي فضلا عما تمارسه من قمع واستبداد لا يقل عما كان يفعله ابن علي بل تتجاوزه لأن ابن علي رغم استبداده وفساده لم يذهب إلى فتح السجون واستئجار خالقي الفتن الروحية وتعيينهم في دواليب المؤسسة الثقافية وتشجيع الصراع بين الفئات والقبائل حتى يشغلوا الشباب فلا يبقى لهم من مفر غير القبول بهم سلطة نهائية بدلا من أن يكونوا سلطة وقتية لأقصر مدة ممكنة.
وفي الأخير فإني أعتقد أن الثورة تكون قد وُئدت في المهد فعلا إذا لم يقع شطب كل ما وضعته الهيئة من نظام يزيف الانتخابات من الأصل لأنه يحول دونها ووظيفتها الأساسية أعني العكس الأمين والوفي للقوى السياسية الحقيقية ليكون الحكم ديموقراطيا غنيا عن اللجوء للتدخل الأجنبي أو للاستبداد والفساد: الانتخابات ينبغي أن تكون على الأعيان وليس على القوائم وبالنسبة المعدلة وليس بالنسب المانعة من تحقيق أغلبية قادرة على حكم البلاد واستقرار السلطة التنفيذية. إنهم يؤسسون بما وضعوه من نظم لاستبداد الأقلية التابعة لمستعمر الأمس خدمة للمافية التي انتصرت بانتهازها ظرف الثورة في الصراع على إرث أبن علي الذي كان قد مات بعد وانتقلت سلطته إلى أميرته الحجامة.
كما أعتقد أن ذلك كله مشروط بحل الحكومة التي عينها ابن علي واستبدالها بحكومة وحدة وطنية أو حكومة حكماء مستقلين بحق بشهادة تاريخهم. فهذه الحكومة الحالية ليست إلا مواصلة لحكومتي الغنوشي بل هي أدهى وأمر لأن ما أضافه السبسي دون من عينهم الغنوشي إخلاصا للثورة وأهدافها حتى لا أقول أكثر من ذلك علما وأنه لا أحد ممن فيها يمثل الشعب التمثيل المعنوي إن لم يكن التمثيل الانتخابي. وكيفما كان الأمر فإني أرى في حالة عدم تحقق هذين الشرطين أنه على كل مواطن مخلص لتونس ولثورتها:
أن يرفض القبول بنظام الانتخاب هذا لعلمه علم اليقين أنه أعد لتزييف إرادته بدليل الرفض القطعي للمراقبة الدولية وهو دليل سوء نية يتجاوز رتبة القرينة إلى رتبة البرهان عندما تنضم إليه القرائن التي جعلت كل الشرفاء ممن راهنوا على الوفاق الخروج من هذه الفئة المستبدة بإرادة الأمة.
وأن يشترط تغييره على نحو ما اقترحنا أو على نحو يقرب منه لئلا يقاطع الانتخابات والإحجام حتى على التسجيل في سجلاتها الشكلية وعزل الهيئات التي اختارها الجندوبي وتوابعه ممن يتشدقون بالشكليات القانونية ويتجاهلون أن الذين انتخبوهم منصبون وليس لهم أدنى دور في الثورة على الظلم طيلة العقدين فضلا عن عدم المشاركة في الأحداث التي أطاحت بابن علي.
فتركيبة الهيئة عينة من تركيبة ما يخططون لإخراجه بالإخراج الحديث لتزييف الإرادة الشعبية وكتابة دستور على منوال فكرهم الذي استعملوه للدلالة على منظورهم للنمط الاجتماعي والثقافي الذي يريدون فرضه على التونسيين لقلعهم مما يؤمنون. والدليل مزايدة العملاء من زعمائهم على المرحوم بورقيبة الذي كان يعلم أكثر من الغبي الذي انقلب عليه وشرده يعلم ما يخططون له.
في حالة عدم حصول التغيير الضامن لشروط الديموقراطية الفعلية النزيهة والشفافة والخاضعة للمراقبة الدولية بل والأممية فإني أدعو إلى مقاطعة الانتخابات من الآن وإلى عدم الترسيم في سجلاتهم المزيفة كما دعوت إلى مقاطعة الهيئة التي كلفت بتحقيق أهداف الثورة فخانتها: وطبعا فدعوتي هذه هي البديل في حالة بقاء الحكومة والهيئة واللجنة أصحاب الحل والعقد بديلا من الثوار وممثليهم الذين يختارونهم بحرية وشفافية. ولتكن في هذه الحالة دورة الانتخابات المقبلة من جنس ما تعود عليه رئيس الدولة (الذي ترأس مجالس النواب المزيفة) ورئيس الحكومة (الذي ترأس مجلس نواب اعترف بأنه كان مزيفا) الرئيسان الحاليان وما كلفا رئيسي الهيئة واللجنة بإخراج سينمائي:
يحاول أن يضفي على التزييف صبغة الاستقلال عن أجهزة الحكم الجلي
لكنه لم ينجح في كل محاولات ستر التبعية لأجهزة الحكم الخفي.
وهذا الرابوع المرذول -وهو في الحقيقة رابوع مشلول لو تحرك الثوار بنفس النفس السلمي والمتواصل أعني بالعصيان المدني- ينبغي أن يعترف أعضاؤه بأن رئيسهم الحقيقي هو المافية الثانية التي تحكم في الظل والتي هي ليست بعيدة التفكير ولا التدبير عن المافية الأولى التي غُلبت في التنافس على تركة ابن علي: والدليل حرص الحكومة المؤقتة على عدم المس بهم ولا بما نهبوه من ثروة الأمة. اكتفوا بغنيمة الإرث استعدادا لمواصلة نفس النسق من الاستبداد الفساد والنهب في مقبل الأيام وسيعودون إلى مشاركة أسلافهم في ما حصلوه بعد الصلح بين المافيتين السالفة والخالفة مباشرة بعد إتمام الإخراج السينمائي الجاري.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: