من يتابع نشاطات التمويل الأجنبي للأبحاث والمنظمات غير الحكومية المحلية، فيربط الأجزاء المختلفة لهذه النشاطات في هيكل بنيوي واحد سيكتشف أن القضايا التي تطرحها هذه المنظمات تتسم بما يلي:
1. أنها تطرح في الكثير من الأحيان قضايا محقة في جزئياتها مثل الطفل والبيئة والمرأة وما إلى هنالك.
2. أنها تفصل هذه القضايا عن النضال العام الوطني والقومي لتحقيق التغيير السياسي الجذري في المجتمع، فبدلاً من طرح القضايا الجزئية ضمن سياق مشروع وطني، كما تفعل حركات التغيير الكبرى في المجتمعات، تعمل منظمات التمويل الأجنبي في الواقع على تفكيك الحركة الوطنية في البرنامج والممارسة، وتستوعب المناضلين السابقين في مكاتب وموازنات وبرامج خارج العمل الوطني أو الثوري.
3.أنها تطرح قضايا مهمة بالتأكيد، ولكنها ليست القضايا الأهم في مجتمع يعاني الاحتلال والتجزئة أولاً، ومن ذلك مثلاً طرح قضية جزئية مثل جرائم الشرف في الضفة وغزة في الوقت الذي يتمحور فيه التناقض هناك مع الاحتلال، وفي الوقت الذي يسجن عدد كبير من النساء الفلسطينيات في سجون الاحتلال الصهيوني.
4. أن طريقة طرح هذه القضايا تمثل امتدادا ميكانيكياً لنمط من الوعي نشأ في ظروف تختلف عن ظروف بلادنا، فالذين يمولون المنظمات غير الحكومية في الغرب، على افتراض إخلاصهم، تحكمهم منظومة قيم ومفاهيم تنطلق عضوياً من شروط التطور في المجتمعات الغربية والوعي الفردي السائد هناك، وبالتالي تعمل منظمات التمويل الأجنبي موضوعياً على إعادة إنتاج النموذج الثقافي والاجتماعي الغربي عربياً.
5. إن الأبحاث والمنظمات التي تتبنى هذه القضايا تهيئ في علاقاتها المالية والتنظيمية لتجاوز واختراق سيادة الدولة الوطنية على أراضيها، الأمر الذي يتماشى في المحصلة مع برنامج الشركات متعدية الحدود، وبرنامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في تهديم سيادة الدولة الوطنية، أي أن منظمات التمويل الأجنبي تصبح هنا متمماً موضوعياً لمشروع العولمة، وتوجهها لتفكيك الدولة وتحويل مهماتها الاجتماعية إلى جهات أخرى.
6. أن المرجعيات القانونية التي تحتكم إليها أو تسعى إلى تكريسها هي مرجعيات خارجية، وأن القضايا التي تعمل من أجلها تربطها بوعي إنساني ما فوق قومي، إنساني الظاهر، ولكنه يؤدي من خلال التركيز على حقوق الأقليات إلى تفكيك الدول، ومن خلال التركيز على حقوق الأفراد إلى تمزيق المجتمعات والقضايا الكبرى، ومن خلال تعميم الوعي المتغرب والمعولم إلى تهديم الثقافة العربية-الإسلامية، ومن خلال التركيز على القضايا التفصيلية إلى تفكيك الحركة الوطنية نفسها.
مهما يكن من أمر لا يجوز أن يقع المناضل أو المثقف الوطني، في مواجهة الاختراق الذي تقوم به جماعات التمويل الأجنبي، في فخ محاربة النقاط الأقوى في جدارهم، وهي القضايا التفصيلية التي يتبنونها. فلا يجوز أن نقول مثلاً: نحن ضد البيئة أو حقوق الإنسان أو نشر الديمقراطية، بل يجب أن نكشف زيف هذه الدعوات وارتباطها بالمخطط الشامل ضد الأمة العربية والعالم الثالث، أي بمشروع "الشرق أوسطية".
من جهة أخرى، يجب أن لا يتردد المثقف والمناضل الوطني في كشف الأهداف التطبيعية وأهداف إثارة النعرات الطائفية والأقلوية التي يهدف إلى تحقيقها نشاط المنظمات غير الحكومية بالتمويل الأجنبي.
ومن ذلك مثلاً نموذج الدكتور سعد الدين ابراهيم، رئيس مركز ابن خلدون في مصر، الذي كان يجّسد نموذج ما ستصير عليه مراكز الأبحاث والمنظمات غير الحكومية العاملة في خدمة المخططات الصهيونية والاستعمارية : تمويل أجنبي سخي، علاقات قوية مع السفارة الصهيونية في القاهرة، وعمل دؤوب لبلورة نزعات التفتيت الطائفية بذريعة الدفاع عن حقوق الأقليات.
ومن ذلك أيضاً تسرب وثيقة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية سي أي إيه تحمل تصنيف سري جداً حول خطة عمل محددة لتمويل هيئات المجتمع المدني في يوغوسلافيا السابقة (قبل تفكيكها) للتعجيل بإسقاط نظامها ونشر القيم الأمريكية تحت عنوان: "دولة صربية ديموقراطية". وكانت الوثيقة التي تحمل ختم مؤسسة البلقان/ المخابرات المركزية الأمريكية قد صدرت أولاً بتاريخ 16 ديسمبر/ كانون أول 1998، مما يجعلها جزءاً من الحملة المعلنة والمستترة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في منطقة البلقان، وكان ذلك قبيل انقضاض حلف الناتو على يوغوسلافيا عام 1999.
وتقدم تلك الوثيقة نموذجاً كلاسيكياً لاستخدام التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني في عملية التفكيك والاختراق في كل مكان على مستوى لا يدركه من يتناول مسألة التمويل الأجنبي من منظور وجود أو عدم وجود شروط للتمويل في هذه الحالة الجزئية أو تلك الحالة المنفردة.
فالقضية ليست ما إذا كانت هناك شروط محددة من المانحين لتمويل هذه الحضانة للأطفال مثلاً، أو ذلك البرنامج لزيارة الصحفيين لأمريكا أو تلك المنظمة غير الحكومية المعنية بالبيئة أو المرأة أو الحريات، بل غالباً ما لا تكون هناك شروط محددة تمكن الإشارة إليها بالسبابة. وإذا كان الشيطان يكمن عادة في التفاصيل، كما يقال، فإن شيطان التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية يكمن في الصورة الكبيرة، وفي النتائج بعيدة المدى على المستوى الاجتماعي-السياسي لقطر أو إقليم بأكمله، فمن يقترب كثيراً لا يراها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: