يمكن تعريف ظاهرة تعدد الأديان بأنها: "الظاهرة التي يحتل فيها "الإله الوثن" وعبادته، حيز "الإله الحقيقي" وعبادته في داخل النفس البشرية".
وبهذا يصبح التمسك بالوثن والدفاع عن الدين هو التمسك الطبيعي بالإله والدين، كما تقضي بذلك الفطرة البشرية"؛ ومثل هذا التعريف يقود مباشرة إلى "نظرية الإحلال"، والتي تعني إحلال "الإله الوثن" مكان "الإله الحقيقي" في داخل النفس البشرية، ومثل هذا الفكر هو المسئول المسئولية المباشرة عن ظاهرة تعدد الأديان.
ومن الغريب أن لا ترد ذكر كلمة "دين" بمعنى "العقيدة: "Religion" على نحو مطلق في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد "أي في الديانتين اليهود والمسيحية"! فلم يرد سوى ذكر كلمة "دِين" ـ في الكتاب المقدس ـ إلا في سياق معنى يوم الدينونة أو يوم الحكم أو يوم الدين "Day of Judgment" فقط.
ولهذا لا يوجد تعريف للدين من منظور الديانتين اليهودية أو المسيحية! وهكذا، أغفل الكتاب المقدس تحديد معنى "الدين" وتخبط الإنسان في تحديد معناه على النحو السابق ذكره في الفقرة السابقة.
وانتهى الحال بالغرب بأنه عجز عن فهم معنى الدين "الإيمان المبني على العقل" ومعنى دور الدين في حياته "العمل بالشريعة" حتى الآن
لكن الأمر مختلف بالنسبة للإسلام، حيث يعرف الدين من المنظور الإسلامي بأنه: "البلاغ الصادر عن الخالق المطلق لهذا الوجود، "ويشمل ذلك كوننا هذا والأكوان الأخرى الموازية أو المتراكبة معه" لتعريف مخلوقاته "بما في ذلك الإنسان" به "كمالات وفعل"، وتعريف هذه المخلوقات بالغايات من خلقها، وحتمية تحقيق هذه المخلوقات لهذه الغايات".
وما يمكن التوقف عنده هنا هو صفات الإله من منظور الديانتين اليهودية والمسيحية، لم يتجاوز معناها صفات بعض الحيوانات الأسطورية التي يرد ذكرها في القصص الخرافية؛ وبهذا المعنى يتنافى التعريف السابق للدين مع ما ورد عن الصفات الإلهية في الديانتين اليهودية والمسيحية؛ كما لا يوجد غايات من خلق الإنسان في هاتين الديانتين.
كما لابد أن نؤكد على أن الفكر الإسلامي ـ أي الفكر الإلهي ـ ينبه الإنسان إلى أن عملية خلقه "أو وجوده" ليست صدفة كونية أو عبثًا إلهيًّا، كما جاء في قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 – 116].
كما وإن خلق السماوات والأرض ليست لهوًا إلهيًّا، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 16 – 20].
فيدمغه: أصابه في دماغه في مقتل، ولكم الويل مما تصفون: أي لكم العذاب الشديد في كل ما تصفون به الله عز وجل من صفات وثنية، لا يستحسرون: أي لا تعييهم هذه العبادة ولا يتعبون منها.
فخلق الإنسان له غاياته المحددة التي تتمثل في الاتجاهات الفكرية الأساسية التالية:
الاتجاه الأول: ويتمحور حول طبيعة خلق الإنسان "كأحد أنواع المخلوقات المختلفة لله سبحانه وتعالى، وهو المخلوق الذي يتميز بالحرية في الطاعة والمعصية"، وقبول الإنسان بالمجيء إلى الوجود على هذا النحو "أي قبوله بالتكليف"؛ ففي الواقع، يمثل الإنسان أحد صور الخلائق لدى الله عز وجل "مثل عالم الجن وعالم الملائكة".
وتتميز هذه الصورة الإنسانية بالعقل والإرادة الحرة في الاختيار "أي الطاعة والمعصية"، وتتمثل جوهر هذه الصورة في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 11 – 12].
ويخلق المولى عز وجل جانبي الخير والشر في النفس البشرية، كما جاء في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 – 10]. ليقرر الإنسان الاختيار وتقديم الفجور "الشر" على التقوى "الخير"؛ في هذا النص الكريم يبين الله تعالى أن الالتزام بالخير يستلزم جهاد النفس حتى يمكن تغليب جانب الخير على جانب الشر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر لدى المسلم.
الاتجاه الثاني: حتمية الإيمان العاقل، بدلًا من "إيمان الحيوان": ومن ضمن الغايات من خلق الإنسان الوصول إلى "الإيمان العاقل": أي الإيمان المبني على العقل، بدلًا من "إيمان الحيوان" الذي يقول به فلاسفة الغرب أمثال جورج سنتيانا، حيث وردت كلمة "العقل" ومشتقاتها في القرآن المجيد 49 مرة، نذكر منها الآيات التالية:
• {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}[البقرة: 170 – 171].
• {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242].
• وفي قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ، قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}[المائدة: 58 – 59].
• {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].
• وفي قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
وهكذا، يتوالى ذكر "العقل" "ومشتقاته" في القرآن المجيد؛ حيث جعله المولى عز وجل أساس القضية الإيمانية، وليحمل الإنسان وزره بكامل اختياره يوم القيامة، كما جاء في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر: 35 – 39].
الاتجاه الثالث: اختبار الإنسان في حسن العمل: ومن ضمن الغايات من خلق الإنسان أيضًا اختباره في حسن العمل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 67]، [ليبلوكم: ليختبركم بالشدائد حتى يرى الإنسان عمله].
الاتجاه الرابع: اختبار الإنسان في موقفه من عطاء الله سبحانه وتعالى "الرضا أو السخط": ومن الغايات من الخلق، اختبار الإنسان في كيفية تصرفه وسلوكه إزاء عطاء الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165].
ويجب الوقوف أمام هذه الآية الكريمة طويلًا حتى لا يساء فهمها؛ لأن الناطقين بالعربية في الديانة المسيحية يستندون إلى هذه الآية الكريمة لتبرير بقائهم على مسيحيتهم الضالة تحت دعوى قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، أي: هم يدَّعون بشرعية ضلالهم تحت دعوى أنها إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته ولا دخل لهم في هذا الضلال، وأحيل القارئ إلى سورة البقرة [آية: 146]، وسورة الأنعام [الآيات: 20 – 33] لرؤية معرفتهم للحق وكتمانه، والجزاء المتوقع لهم في الانتظار.
الاتجاه السادس: اختبار التنافس في تقوى الله سبحانه وتعالى: ومن الغايات من خلق الناس أيضًا التنافس في تقوى الله "أي اتقاء غضب الله سبحانه وتعالى بالعمل بكل ما يتعلق بالشريعة ومكارم الأخلاق"، أما تبادل المعرفة فهي جزئية من طبيعة خلق الإنسان "قانون الجعل"، كما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
ولكن لا قيمة لأي عمل ما لم يسبقه الإيمان العاقل، كما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 21 – 23].
وهي آيات تبين بوضوح الغايات من خلق الإنسان التي تحتم عليه الإيمان العاقل؛ وإلا ما خلق الله سبحانه وتعالى العقل على هذا النحو، ولا قيمة لإيمان الإكراه بدون استخدام العقل: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ...}، أي لا قيمة للإيمان بعد رؤية الملائكة؛ ففضل الإنسان على نفسه أن يؤمن ـ أولًا ـ باستخدام عقله، قبل أن يكره على ذلك بالرؤية المباشرة المستيقنة!
وأخيرًا؛ فإن الآية الكريمة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، تجمع بين الفطرة الدينية وبين الغايات من خلق الإنسان على حسب قراءة حركة الحرف الأخير من كلمة "ليعبدون"، بالسكون أو الكسر وكلاهما في القراءة جائز.
وتحسم قضية المعبود بالقرار الإلهي التالي: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء: 23]، أي لا توجه بالعبادة لغير الله سبحانه وتعالى؛ وتتمثل عبادة الله سبحانه وتعالى في الآتي:
أولًا: في الاهتداء إلى الله عز وجل من بين الآلهة الزائفة.
ثانيًا: الصلاة والتسبيح، والإيمان العاقل المقرون بأداء العمل الصالح الذي يعود على الناس "البشرية" بالنفع.
ثالثًا: الطاقة وتتمثل في العمل بالشريعة.
وننتهي من هذا كله، بأن الأصل في وجود الغايات من الخلق، هو الارتقاء بالمسئولية الإنسانية حتى تنتهي إلى الفرد نفسه، وبأن الفرد ـ في النهاية ـ هو من يملك ناصية مقدراته، وهو الوحيد القادر على موقفه ومصيره في بانورما الوجود.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: