د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف المشاهدات: 10061
«يا بني، إنْ صار لك هذا الأمر فتَجرّد لهذه العصابة [يعني طائفة من الزنادقة] فإنها فرقة تدعو إلى ظاهر حسن، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين، أحدهما: النور، والآخر: الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات! فارفع فيها الخشب، وجرِّد فيها السيف، وتقرّب بأمرها إلى الله لا شريك له»[1].
هكذا أوصى الخليفة العباسي المهدي (ت: 127هـ) ابنه موسى (الهادي). ولا غرو أن يوصي بذلك؛ فقد أهمّه أمر الزنادقة؛ فجدّ في طلبهم، وتتبعهم في سائر الآفاق، واستحضرهم، وقتلهم صبراً بين يديه[2].
ورحـم الله أبا الحسن الندوي إذ ألّف رسالة وجيزة بعنـوان: «ردة ولا أبـا بكــر لـها»، وإن تعـذّر وجـود أمـثال الصـديـق الأكـبـر ـ رضـي الله عـنـه ـ والذي حارب المرتـديـن؛ فالصحابة ـ رضـي الله عنهم ـ لا كان ولا يكون مثلهم، لا سيما الصدّيق الأكبر؛ فلن تعجز الأمة أن تهيئ من يكون كالخـليفة المهدي، خصوصاً في هذا العصر الحافل بأنواع البدع والزندقة؛ فلا يبلغ بنا الضعف أن يقال: زندقة ولا مهدي لها!
إن غياب الولاية الشرعية في أغلب الأمصار، وإقصاء شرع الله عن مجالات الحياة، إن ذلك سبب ظاهر في استفحال وتطاول أهل البدع والأهواء، ومع ذلك فلا تزال شعيرة الاحتساب ميداناً رحباً ومجالاً خصباً لمن أراد الإصلاح والتغيير، ولن تخلو هذه الأمة المرحومة من أولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض.
وللاحتساب على أهل الأهواء والبدع صور شتى، ومـواقـف متـعددة؛ فـقـد يكون الاحتساب عليهم من خلال بيـان حكم الله فيـهم، أو هـجرهم وترك الصلاة خلفهم، أو مناظرتهم ومجادلتهم بالحسنى، أو دعوتهم واستصلاحهم، أو هتك أستارهم، ونحو ذلك مما هو مبسوط في موضعه.
وممـا يجـدر التنـبيه علـيه أن يُضبط هذا الوصف (أهل البدع والأهواء)؛ فمن خالف أهل السنة في أمر كلّيّ في الدين، أو نقض قاعدة من قواعد الشريعة فهو من أهل البدع والأهواء، كما حرر ذلك الشاطبي بقوله: «هذه الفِرق؛ إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلّيٍّ في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزءٍ من الجزئيات؛ إذ الجزء والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية.
ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات؛ فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة»[3].
كما أن اتخاذ موقف من أهل الأهواء تكتنفه عدة أمور معتبرة، منها: النظر إلى المصلحة الشرعية الراجحة في ذاك الموقف، ومراعاة الأحوال الزمانية والمكانية، ومدى قـوة أهـل السـنة وضعفهم، وكذا حال أهل البدع ظهوراً أو خفاءً، وتفاوت مراتب البدع[4].
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ذلك من خلال مسألة هجر المبتدع فقال: «وهذا الهجر[5] يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله؛ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة؛ بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته؛ كان مشروعاً. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف؛ بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته؛ لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعـض النـاس أنفـع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التـأليف، ولهـذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألّف قوماً ويهجر آخرين.
كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.
وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرّق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر[6] في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيّع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصلَ الطرق إليه»[7].
ومن مجالات الاحتساب على أهل الأهواء: دعوتهم ومناصحـتهم واستصـلاحـهـم؛ فـمن تلبّـس بشـيء من تلك الأهـواء فيُسـعى إلى دعـوته إلى السُنّة واتّباع الدليل. وها هو يزيد الفقير ـ أحد التابعين ـ يعتريه شغف بمذهب الخـوارج؛ فيـلقاه الصحابي الجليـل جابـر بـن عـبـد الله ـ رضي الله عنهما ـ فيحدِّث بحديث الجهنّميين[8]؛ فتزول الشبهة عن يزيد ويلزم السُنّة.
وذاك يوسف بن إسباط كان أبوه قدرياً، وأخواله روافض؛ فأنقذه الله بسفيان الثوري[9].
وهذا موسى بن حزام كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم أعانه الله ـ تعالى ـ بأحمد بن حنبل؛ فانتحل السنة وذبّ عنها، وقمع من خالفها حتى مات[10].
وقد دعا شيخُ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ طوائف من الاتحادية، وبيّن لهم فساد مذهبهم؛ فتركوا تلك الضلالات وصاروا دعاة للسنة والاتّباع[11].
فهـلاّ نَفَـرَ طائـفة مـن الدعاة وتخصصوا في دعوة أهـل البـدع؛ فـتعـرّفوا أحوالهم، وسبروا واقعهم، وسلـكوا السـبل الملائـمة في دعوتهم وإنقاذهم من لجج البدع والمحـدثات؛ إذ إن اهتمامات كثير من العلماء والدعـاة والحـركات الإسـلامـية متجهة إلى دعوة المنتسبين إلى السُـنّة، أو دعوة الكـفـار إلى الإسـلام، وأما مـا بـين ذلك ـ من دعوة المبتدعة ـ فلا يزال محل قصور وتقصير[12].
ومن مجالات الاحتساب على أهواء الأهواء: إقامة المنـاظرات معهم؛ إذ لا يخفى أهمية المناظرات ومشـروعيتها إذا احتـيج إليـها.
يقـول شـيـخ الإسـلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة أخرى»[13]. وعظّم ـ رحمه الله ـ شأن مناظرة المخالفين ودحض شبهاتهم فقال:
«كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس»[14].
وقد ناظر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الخوارج فرجع الكثير منهم[15].
وناظر عمر بن عبد العزيز غيلان القدري حتى انقطع[16].
وناظـر الإمـام أحمـد بن حنبل القائلين بخلق القرآن، كما ناظر أحمد من أراد الخروج على الخليفة الواثق[17].
وتاريخ الإسلام حافل بأنواع المناظرات لأهل البدع[18].
إن الانفتاح الإعلامي الهائل في هذا العصر، واستفحال المقالات البدعية عبر وسائل الإعلام المتنوعة، وظهور حكومات ومؤسسات مختلفة تتبنى البدع و«تؤصلها» وتبثها؛ إن ذلك ليستدعي الاهتمام الجاد والعملي بشأن المناظرات مع المبتدعة، وتحديد ضوابط المناظرات المشروعة وشروطها، وأن تنشأ مؤسسات ومعاهد تهدف إلى تدريب وإعداد متخصصين في باب المناظرات؛ بحيث يكونون مؤهلين للمناظرات من جهة رسوخ العلم الشرعي، وقوة الحجة، وسرعة البديهة، والدراية بحال المخالفين ومآخذهم، وقبل ذلك حسن القصـد وصـلاح النـية؛ فليس كل طـالـب علـم أو داعية أهلاً للمناظرة. كما لا يُناظر من هبّ ودبّ من أهل البدع؛ إذ إن مناظرة المغمورين منهم سبب في ظهور البدع وبروزها، وعلى هذا يحمل ما قاله اللألكائي: «فما جُني على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة. ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً»[19].
ومن مجالات الاحتساب: فضح أهل البدع المكفّرة وكشف مخططاتهم، وهتك أستارهم، ونشر أسرارهم ومكايدهم، وبيان عمالتهم لأعداء الإسلام، كما في موقف السلف الصالح ـ وكذا سائر أهل الإسلام ـ تجاه العبيديين الباطنيين وأشباههم من الروافض.
نسأل الله أن يعزَّ دينه ويعلي كلمته، وبالله التوفيق.
---------
وقع التصرف الطفيف في العنوان الأصلي بالإضافة
محرر موقع بوابتي
--------- د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض
إحالات
[1] تاريخ الطبري: 8/220، باختصار.
[2] انظر: تاريخ ابن الجوزي، 8/287.
[3] الاعتصام: 2/201.
[4] ينظر: موقف أهل السنة من البدع والمبتدعة لعبد الرحمن عبد الخالق، والمبتدعة وموقف أهل السنة منهم لمحمد يسري، وموقف أهل السنة من أهل الأهواء للرحيلي.
[5] أي: هجر التأديب والعقوبة كما جاء في بداية كلامه. انظر: مجموع الفتاوى، 28/204.
[6] أي: نفي القدر.
[7] مجموع الفتاوى: 28/206، 207، باختصار.
[8] وهم قوم من عصاة الموحدين يُخرجون من النار إلى الجنة. والقصة والحديث في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث: 320.
[9] انظر: شرح أصول السنة للألكائي، 1/60.
[10] انظر: تهذيب التهذيب، 10/341.
[11] انظر: منهاج السنة النبوية، 8/26.
[12] ينظر كتاب: دعوة أهل البدع لخالد الزهراني.
[13] الدرء: 7/174.
[14] الدرء: 1/357، وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 3/639.
[15] انظر: البداية لابن كثير، 7/279.
[16] انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للألكائي، 1/714.
[17] انظر: محنة الإمام أحمد لحنبل بن إسحاق، ص 48 ـ 82.
[18] انظر: منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد لعثمان علي حسن، ومناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل لعبد العزيز آل عبد اللطيف.
[19] شرح أصول اعتقاد أهل السنة، 1/19
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: