عبد العزيز محمد احمد خليفه - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7906
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في بداية شتاء عام 1991 ذهبت وبرفقتى أحد الزملاء لتقييم منطقة بها خام الكرومايت الذى يدخل فى صناعة الحراريات، وتبعد هذه المنطقة عن طريق مرسى علم – شلاتين حوالى سبعين كيلو متر غرباً فى عمق الصحراء الشرقية لمصر المحروسة، وكان دليلنا عبر موقع وجود الخامات أحد البدو المقيمين بالمنطقة من قبائل العبابدة وكان يدعى عم [ناجى] الذى تألفه منذ اللحظة الأولى لرؤيتك له، فاللسان عربى فصيح والكلمات واضحة ومحددة ورصينة بلا تذويق أو نفاق وخطواته واثقة كعينيه الثاقبتين يصعد الجبل أمامنا كغزال رشيق لا يتعثر أو يلهث او يتلهف إلى الماء مثلنا القادمين من الحضر، وكان معنا بعض القاهريين فى رحلتنا تلك وأصيب احدهم بمغص حاد لم تفلح معه الأدوية المعتادة والتي نحتفظ بها ونحملها معنا فى كل رحلة بعيدة عن العمران، وعندما شاهد عم [ناجى] تألم الرجل وصياحه، طلب سيارة وذهبنا معه لإحضار بعض الأعشاب البرية وعندما وصلنا إليها هممنا بإلتقاط بعضها من الارض بعد ما عرفنا أنها هى المقصودة، إلا أنة طلب منا التريث قليلاً ريثما يعود ووقفنا مندهشين فى انتظاره، وما هى إلا لحظات وقد عاد بصحبته رجل من أقاربه يدعى عم [خليفة]، أستأذنه فى جمع بعض أوراق السلامكة البريه فأذن له عم [خليفة] بصدر رحب وبشاشة طبيعية، ودعانا إلى واجب الضيافة فاعتذرنا بلطف حتى نلحق بمريضنا فى المعسكر الذى كان العشب دواء ناجعاً لألمه الشديد، سالت عم ناجى عن هذا النبات البرى وهل يقوم عم خليفة بزراعته أو يهتم به ؟ فأجاب بأن النبات ينمو على ماء المطر ولا دخل للبشر فى زراعته او تنميته فبادرتة على الفور بالسؤال التالى إذن :لماذا استأذنته ولم تسمح بأخذ الدواء إلا في حضوره ؟ فأجاب بتلقائية وعفوية لأن المنطقة خاصة به ولا يجوز التعدى على منطقه أى أحد إلا بإذنه وهذا عرف بيننا توارثناه من الأجداد ولم يحدث أن تجاوزه أحدنا إلا إذا كان مضطراً، ولم يجد صاحب المنطقة فى منطقتة على أن يخبره فى أى وقت لاحق مع الاعتذار، تعجبت من هذا القانون الفطرى وسعيت إلى معرفة المزيد عن حياة عم ناجى وأقرانه فوجدته يضع فى جيبه مذياعاً صغيراً ضبط مؤشره على إذاعة القرآن الكريم السعودية وهو يعرف الكثير عن أمور دينه ويحفظ عدة أجزاء من القرآن الكريم، ولكنه يقرأ الكلمات المكتوبة بصعوبة ويعى جيداً ما يدور حوله ولا يذ كر أنه شعر بمعاناة فى حياته، إلا عندما ذهب إلى منطقة وادى عبادى بالقرب من وادى النيل ومعه عائلته لتسلم قطعة أرض ومنزل ضمن مشروع توطين بدو الصحراء الشرقية بوادى النيل .. وقتها عرف أولاده طريق الذهاب إلى الطبيب وبدأ الهم يتسرب إلى نفسه وزوجته أما ما أفزعه وجعله يلملم ما تبقى له من نفسه الضائعة أن أحد أولاده كذب يوماً عليه ولم يذكر الحقيقة رأى وقتها أنه أضاع نعمة كانت بين يديه بيديه وعاد من حيث أتى إلى الصحراء طائعاً مختاراً لايبحث عن شقة تمليك او إيجار وبعدها تكاليف الزفاف من موبيليا دمياط او اجهزة كهربائية او البحث عن مدرسين خصوصيين للحصول علي مجموع متميز لدخول كلية متميزة او شراء سيارة والبحث عن واسطة لوظيفة بعد التخرج او التطلع لعضوية مجلس الشعب أو مجلس الوزراء أو حتي مجلس محلي القرية، كل هذا في غني هم عنه فحسبهم بضع لقيمات تقمن صلبهم ويحفظون بالتوارث بعضا من القران ولا يعرف الهم او الحزن او الكرب طريقا اليهم، فالنوم هادئ مطمئن والصحة تطل من بين أعينهم متدفقة واثبة تسابق ظلهم اذا مارأيتهم يتهادون في البراري يسبقون الشمس دائما اذا ما استيقظوا ويسجدون للرحمن طائعين حامدين شاكرين نعمته. تلك إذن هى الحضارة الحقيقيه-لاحضارة الأبراج الشاهقه والترف اللا محدود.
لا ادري مالذي جعلني أتذكر عم[ ناجي] بعد كل هذه السنين ووقفت ابحث في داخلي عن السبب .. هل هي المعاناة الدائمة التي نعانيها رغما عن كل مانحن فيه من رفاهية وطعام وفير وماء مبرد ومواصلات تنقلنا الي حيث نريد وقت مانريد وانتر نت يأتيك بما لم تحط به خبرا..ام ان السبب هو هذا الكم المتزايد من افاعي البشر وذئابهم الذين احكموا أنيابهم ومخالبهم في صدور البسطاء من ابناء أدم ويعيثون في الارض فساداً ولا رادع لهم .. ام ان السبب هو الزهد في هذه الحياة بعد كل هذه السنين من المشقة والمعاناة وادراكنا ان الحقيقة الوحيدة في هذه الحياه هي الموت؟!.. رحم الله عم ناجي إن كان ممن توفاهم الله برحمته ومتعه الله بنعمة الرضا وحسن الخاتمة ان كان من الاحياء فلا وسيلة لمعرفة اخباره فتليفونه دائما وابداً خارج الخدمة .
------------ عبد العزيز محمد احمد خليفه
استشاري الجيولوجيا وعلوم البيئة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: