البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

مأساة المسلم الليبرالي... وملهاته أيضا

كاتب المقال د. أحمد خيري العمري   
 المشاهدات: 8766



لو كان شكسبير حيا لما تردد لحظة واحدة في أن يُبدِّل نموذجه الدرامي الشهير عن التردد (هاملت)، بنموذج آخر أكثر ثراءً من الناحية الدرامية، وأكثر امتلاءً بالتناقضات التي تجعله متردداً أكثر بكثير من الأمير الدنماركي الشهير .

هذا النموذج البديل هو شخص يؤمن أنه "مسلم ليبرالي" وهو لم يكن يقول ذلك صراحة أول الأمر وإن كان في داخله شيء من الاثنين، مع الوقت تزايدت حدة الصراع في داخله، وصار يقول سراً - لنفسه على الأقل- : أنه "مسلم ليبرالي" ولكن تغيرات إقليمية عميقة لا تخفى جعلته أكثر صراحة وصار يقول ذلك الآن بصوت أعلى من ذي قبل.

هذا "المسلم الليبرالي" شخصية مغرية جداً بالنسبة لكتّاب الدراما وللفنانين عموماً، ذلك أن وجود المتناقضات في داخله يجعل منه شخصية مركّبة ومعقدة تثير تحدياً مستفزاً أمام الفنانين لتجسيدها، وكما كان تردد هاملت سبباً في جعله رمزاً درامياً للتردد، كوضع إنساني ينتهي بالعجز وعدم القدرة على الفعل، فإن ثراء "المسلم الليبرالي" من الناحية الفنية ينتهي عند حدود العمل الفني فقط، ليتضح بعدها أرضاً بواراً غير قادرة على الإنتاج، لأن ترددها بالذات هو سبب عجزها و عقمها.

مبعث كل هذا هو أن هذا "المسلم الليبرالي" أو "الليبرالي المسلم" - لا فرق-، آمن بالشيء ونقيضه في آن، وتقبّل وجود نقيضين حادين والتمزق بينهما.

سيهبُ الليبرالي المسلم هنا غاضباً معترضاً على اعتبار الليبرالية والإسلام نقيضين، كما يليق بأي مصاب بانفصام أن يعترض على تشخيص حالته، فبالنسبة له: الليبرالية والإسلام متوازيان متآلفان بلا أي إشكال في التوليف والتوفيق بينهما -وهو بذلك يعبر عن عدم فهمه لواحد منهما أو للاثنين معاً-، أو ربما كان التوفيق بين النقيضين يدور بمستوى لا علاقة له بالفهم والوعي،أي في العقل الباطن في اللاوعي.

وفي دفاعه عن فصامه سيجمع بطلنا بين بعض مظاهر وأعراض الليبرالية، و بين الإسلام وسيقول أنه لا تعارض بينهما، وهذا صحيح تماماً مع بعض مظاهر الليبرالية ( مثل حرية الرأي والمساواة بين البشر) ولكن ليس مع "الحجر الأساس" فيها، ليس مع الدعامة الأساسية التي تنتج هذه المظاهر ضمن أشياء أخرى.

فالحجر الأساس في الليبرالية هو المهم وليس نتائجه بالذات، وهذا الحجر هو الذي يتعارض بشكل قاطع مع عقيدة الإسلام.
ما هو الحجر الأساس هذا؟
ما هي (كلمة السر) في الليبرالية؟

إنها "الحرية الفردية"، كل الليبرالية أقيمت على هذا، حتى اسمها اصطلاح اشتق من الكلمة اللاتينية (Libre) التي تعني (الحر عكس العبد).

سيعترضون: هل هذا سيء بالضرورة؟، هل الإسلام ضد الحرية؟، سنذكرهم هنا أن أسمى مراتب الفرد في الإسلام هي أن يكون عبداًُ لله عزّ وجل -وأن عبوديته لله هي عبودية يختارها المرء بملء إرادته- يكون فيها كتاب الله هو مصدر الحلال والحرام، وموضع الحدود التي لا ينبغي على الفرد والمجتمع تجاوزها.

أما مع الليبرالية وبسبب من ارتكازها على الحرية الفردية، فالفرد نفسه هو "مصدر التشريع"، وبما أنه كذلك فإن حدود الصواب والخطأ غير واضحة، ناهيك عن القول أنه لا مجال لوجود حلال أو حرام في مقياس كهذا، والعقد الاجتماعي الوحيد الممكن هو أن لا تتعارض حرية الأفراد فيما بينهم، وأن لا تضر حرية فرد منهم فرداً آخر، والضرر هنا يقاس بنفس مقياس الفرد -المقياس الآني المباشر-، لا الذي قد يتراكم على المدى البعيد (غير المنظور فرديا) ليقوّض دعامات المجتمع.

وهكذا فإن ما يفعله اثنان بملء إرادتهما -دون إقسار بغض النظر عن جنسهما لا يمكن أن يعد خطأً- ما داما يلتزمان بالقواعد الصحية التي تضمن عدم انتقال العدوى، سيضج أصحابنا معترضين: الجنس الجنس الجنس، هذا كل ما تفكرون به!، لكن لا!، ليس الأمر هكذا بالضبط لكن لا يمكن عزل الأمور عن بعضها.

والزنا ليس مجرد إيلاج وقضاء شهوة ساعة أو أكثر أو أقل، لكنه أيضاً نتائجه بعيدة المدى المتراكمة: انهيار بنية الأسرة مثلاً، أم أن هذا غير مهم؟ أريد ليبرالياً مسلماً واحداً أن يفسر لي 'حسب ليبراليته' لم اللواط - مثلا- خطأ؟ أو الزنا؟ أو الربا؟، أريد ليبرالياً مسلماً واحداً يخبرني لم الزواج المثلي ليس صواباً، ما دام الفرد في داخله مقتنعاً بصوابه ولا يتأخر عن عمله ولا يرمي بقمامته أمام باب جاره ؟!

وأنا هنا لا اتهم هؤلاء 'الليبراليين المسلمين' بالتهتك أو بممارسة كل ما أشرت إليه، لكن مشكلتهم أنهم -بالتعريف- غير قادرين على اتخاذ موقف ولو فكري ضد التهتك.

وأنا أيضاً أثبت هنا إمكانية تعايشنا مع الليبراليين ومع سواهم، كما يتعايش أصحاب الأفكار المختلفة، لكن المشكلة الحقيقية هي في تعايش "الليبراليين المسلمين" مع أنفسهم، ففي كل منهم (رجال متشاكسون) يُعكِّرون عليهم صفو أن يكونوا سلُما لمرجع واحد.

تعدد المرجعيات واصطدامها أحياناً، هو سر مأساة الليبرالي المسلم وسر ملهاته أيضاً، سر وقوعه في اللافعل، واللاقرار، واللاحسم.

الدين عنده سينسحب ليكون شعائراً وطقوساً لها دور صمام الأمان، للتخفيف من ضغوط الحياة أو للتلطيف من حدّة التناقضات، أو لتحسين صورة الذات، لكن "نصوصاً دينية" معينة ستظل تطارده كما طاردت الأشباح هاملت.

لو كان لهذا النموذج الشجاعة الكافية لحسم الأمر حتى ولو بطريقة تخرجه من أبطال شكسبير إلى أبطال ديستوفيسكي، لكنه لا يملك هذه الشجاعة، إنه يكتفي فقط بالثرثرة والجعجعة ولا شيء سواها.

إنه في النهاية جزء من قدر المرحلة التي نعيشها، مرحلة اختلطت فيها أوراق واحترقت فيها أوراق، وعندما ينتهي "عصر الحيرة" ويبزغ "عصر الحسم "، سيذوب هؤلاء كأشباح هاملت... بلا أثر .


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

ليبيرالية، حداثة، علمانية، تنويريون، تغريب،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 23-06-2009   alqlm.com

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
تونسي، طارق خفاجي، محمود سلطان، أحمد بن عبد المحسن العساف ، محمد علي العقربي، علي عبد العال، أ.د. مصطفى رجب، د- جابر قميحة، فتحي الزغل، سلام الشماع، د. كاظم عبد الحسين عباس ، رافع القارصي، د. خالد الطراولي ، العادل السمعلي، د. أحمد محمد سليمان، أحمد ملحم، فتحي العابد، وائل بنجدو، رحاب اسعد بيوض التميمي، صالح النعامي ، سيد السباعي، صلاح الحريري، عواطف منصور، عزيز العرباوي، ياسين أحمد، عبد العزيز كحيل، رشيد السيد أحمد، عبد الله الفقير، الهادي المثلوثي، بيلسان قيصر، محمد اسعد بيوض التميمي، حسني إبراهيم عبد العظيم، مراد قميزة، علي الكاش، محمود فاروق سيد شعبان، محمد يحي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، حسن عثمان، المولدي اليوسفي، يحيي البوليني، د - محمد بن موسى الشريف ، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، كريم فارق، أحمد الحباسي، رافد العزاوي، عبد الله زيدان، فتحـي قاره بيبـان، إياد محمود حسين ، سامر أبو رمان ، د. صلاح عودة الله ، سعود السبعاني، محرر "بوابتي"، طلال قسومي، رضا الدبّابي، محمد أحمد عزوز، محمود طرشوبي، ماهر عدنان قنديل، كريم السليتي، د - محمد بنيعيش، أحمد بوادي، أبو سمية، يزيد بن الحسين، صفاء العراقي، د - عادل رضا، محمد الطرابلسي، مجدى داود، أحمد النعيمي، سليمان أحمد أبو ستة، د - شاكر الحوكي ، صفاء العربي، محمد عمر غرس الله، سفيان عبد الكافي، إيمى الأشقر، حاتم الصولي، عبد الغني مزوز، د - الضاوي خوالدية، د. طارق عبد الحليم، فوزي مسعود ، حسن الطرابلسي، صلاح المختار، الناصر الرقيق، الهيثم زعفان، د - المنجي الكعبي، عبد الرزاق قيراط ، د. مصطفى يوسف اللداوي، المولدي الفرجاني، خالد الجاف ، محمد العيادي، د. عبد الآله المالكي، د. عادل محمد عايش الأسطل، د - مصطفى فهمي، جاسم الرصيف، د- محمود علي عريقات، منجي باكير، د- محمد رحال، مصطفي زهران، محمد الياسين، صباح الموسوي ، د. أحمد بشير، إسراء أبو رمان، رمضان حينوني، محمد شمام ، خبَّاب بن مروان الحمد، عراق المطيري، ضحى عبد الرحمن، نادية سعد، د- هاني ابوالفتوح، د - صالح المازقي، عمار غيلوفي، حميدة الطيلوش، فهمي شراب، أنس الشابي، أشرف إبراهيم حجاج، مصطفى منيغ، د.محمد فتحي عبد العال، عمر غازي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، سلوى المغربي، سامح لطف الله،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة